المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فوائد من كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين لابن القيم


المراقب العام
10-02-2020, 06:45 AM
فوائد من كتاب "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" لابن القيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:

فمن مصنفات العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه المسمى: "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، وهو من أفضل الكتب التي أُلفت في موضوعه، وقد زخر الكتاب بنفائسَ من الفوائد المتنوعة، وقد جمعتُ ما يسر الله الكريم من هذه الفوائد التي جاءت في مواضيع متعددة؛ منها: فضيلة العقل، فوائد غض البصر، أقسام اللذات، الجمال الظاهر والباطن، أقسام النفوس ومحابها، محبة الله جل جلاله، علامات المحبة التي يُستدل بها عليها، علامات معرفة العبد ربه، أضرار ومفاسد ارتكاب الحرام، العقوبات العاجلة والآجلة، أمثلة لمن ترك شيئًا لله فعوضه الله خيرًا منه، ذم الهوى والأسباب المعينة على تركه، وفوائد أخرى متفرقة، أسأل الله الكريم أن ينفع بتلك الفوائد، ويبارك فيها.

فضيلة العقل:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشَّرَّين"، وقالت عائشة رضي الله عنها: "قد أفلح من جعل الله له عقلًا"، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "لو أن العاقل أصبح وأمسى وله ذنوب بعدد الرمل، كان وشيكًا بالنجاة والتخلص منها، ولو أن الجاهل أصبح وأمسى وله من الحسنات وأعمال البر عدد الرمل، لكان وشيكًا ألَّا يسلم له منها مثقال ذرة، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن العاقل إذا زلَّ، تدارك ذلك بالتوبة والعقل الذي رزقه، والجاهل بمنزلة الذي يبني ويهدم، فيأتيه من جهله ما يفسد صالح عمله"، وقال بعض الحكماء: "من لم يكن عقله أغلب الأشياء عليه، كان حتفه في أحب الأشياء إليه".

أمر النساء بستر وجوههن عن الرجال الأجانب درأً للفتنة بهن:
أمر النساء بستر وجوههن عن الرجال؛ فإن ظهور الوجه يسفر عن كمال المحاسن، فيقع الافتتان؛ ولهذا شُرع للخاطب أن ينظر إلى المخطوبة؛ فإنه إذا شاهد حسنها وجمالها، كان ذلك أدعى إلى حصول المحبة والألفة بينهما؛ كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((إذا أراد أحدكم خِطبة امرأة، فلينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها؛ فإنه أحرى أن يُؤدم بينهما)).

النفوس الشريفة تعشق صفات الكمال:
النفوس الشريفة الزكية العلوية تعشق صفات الكمال بالذات؛ فأحب شيء إليها العلم، والشجاعة، والعفة، والجود، والإحسان، والصبر، والثبات؛ لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها، بخلاف النفوس اللئيمة الدنيَّة، فإنها بمعزل عن محبة هذه الصفات، وأما عشاق العلم، فأعظم شغفًا به وعشقًا له من كل عاشق بمعشوقه، وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر.

فعشق صفات الكمال من أنفع العشق وأعلاه، وإنما يكون بالمناسبة التي بين الروح وتلك الصفات.

الهموم لا تزول بالسُّكر، ولكنها تتوارى، ثم تعود أعظم مما كانت:
السُّكر بالأطعمة والأشربة فإن صاحبها يحصل له لذة وسرور بها، يحمله على تناولها؛ لأنها تغيب عنه عقله، فتغيب عنه الهموم والغموم والأحزان تلك الساعة، ولكن يغلط في ذلك؛ فإنها لا تزول، ولكن تتوارى، فإذا صحا، عادت أعظم ما كانت، فيدعوه عَوْدُها إلى العود؛ كما قال الشاعر:
وكأسٍ شربتُ على لذة *** وأخرى تداويتُ منها بها

واللذة الحاصلة بذكر الله والصلاة عاجلًا وآجلًا أعظم وأبقى، وأدفع للهموم والغموم والأحزان، وتلك اللذة أجلب شيء للهموم والغموم عاجلًا وآجلًا؛ ففي لذة ذكر الله والإقبال عليه، والصلاة بالقلب والبدن من المنفعة الشريفة العظيمة، السالمة عن المفاسد، الدافعة للمضار - غنًى وعِوضٌ للإنسان - الذي هو إنسان - عن تلك اللذة الناقصة القاصرة، المانعة لما هو أكمل منها، الجالبة لألم أعظم منها.

فوائد غض البصر:
قد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب؛ فإذا غض العبد بصره، غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته.

وفي غض البصر عدة فوائد:
أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة؛ فإن من أطلق نظره دامت حسرته، فأضر شيء على القلب إرسال البصر؛ فإنه يريه ما يشتد طلبه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه.

الفائدة الثانية: أنه يورث القلب نورًا وإشراقًا في العين، وفي الوجه والجوارح.

الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفِراسة؛ فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة؛ لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوة التي تظهر فيها المعلومات كما هي.

الفائدة الرابعة: أن يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه؛ وذلك بسبب نور القلب.

الفائدة الخامسة: أنه يورث قوة القلب، وثباته، وشجاعته.

الفائدة السادسة: أنه يورث القلب سرورًا، وفرحة، وانشراحًا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر؛ وذلك لقهره عدوه بمخالفته، ومخالفة نفسه وهواه.

الفائدة السابعة: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة؛ فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه.

الفائدة الثامنة: أنه يسُدُّ عنه بابًا من أبواب جهنم؛ فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل.

الفائدة التاسعة: أنه يقوي عقله ويزيده ويثبته.

الفائدة العاشرة: أنه يخلص القلب من سكر الشهوة، ورقدة الغفلة.

الجمال المحبوب لذاته:
الجمال ينقسم قسمين: ظاهر، وباطن؛ فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته وهو جمال العلم، والعقل، والجود، والعفة، والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته؛ كما في الحديث الصحيح: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، وهذا الجمال الباطن يُزيِّن الصورة الظاهرة، وإن لم تكن ذات جمال، فتكسو صاحبها من الجمال، والمهابة، والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصفات؛ فإن المؤمن يُعطى مهابة وحلاوة بحسب إيمانه؛ فمن رآه هابه ومن خالطه أحبه، وهذا أمر مشهود بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح الحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة، وإن كان أسود أو غير جميل، ولا سيما إذا رُزق حظًّا من صلاة الليل؛ فإنها تنوِّرُ الوجه وتحسنه... ومما يدل على أن الجمال الباطن أحسن من الظاهر أن القلوب لا تنفك عن تعظيم صاحبه ومحبته والميل إليه.

الجمال الظاهر نعمة من الله على عبده، إن شكرها بتقواه، ازداد جمالًا:
الجمال الظاهر زينة خصَّ الله بها بعض الصور عن بعض، وهي من زيادة الخلق، التي قال الله تعالى فيها: ﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ [فاطر: 1]؛ قالوا: هو الصوت الحسن والصورة الحسنة، والقلوب كالمطبوعة على محبته، كما هي مفطورة على استحسانه... وكما أن الجمال الباطن من أعظم نعم الله على عبده، فالجمال الظاهر نعمة منه أيضًا على عبده، يوجب شكرًا، فإن شكره بتقواه وصيانته، ازداد جمالًا على جماله، وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه، قلبه له شَينًا ظاهرًا في الدنيا قبل الآخرة، فتعود تلك المحاسن وحشة وقبحًا وشَينًا، وينفر عنه من رآه، فكل من لم يتقِّ الله في حسنه وجماله، انقلب قبحًا وشَينًا يشينه به بين الناس، فحُسنُ الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره... وقال بعض الحكماء: "ينبغي للعبد أن ينظر كل يوم في المرآة، فإن رأى صورته حسنة، لم يشنها بقبيح فعله، وإن رآها قبيحة، لم يجمع بين قبح الصورة وقبح الفعل".

أقسام النفوس ومحابها:
النفوس ثلاثة: نفس سماوية علوية؛ فمحبتها منصرفة إلى المعارف، واكتساب الفضائل، والكمالات الممكنة للإنسان، واجتناب الرذائل، وهي مشغوفة بما يقربها من الرفيق الأعلى، وذلك قوتها وغذاؤها ودواؤها، واشتغالها بغيره هو داؤها.

ونفس سبعية غضبية؛ فمحبتها منصرفة إلى القهر والبغي، والعلو في الأرض، والتكبر، والرئاسة على الناس بالباطل، فلذتها في ذلك، وشغفها به.

ونفس حيوانية شهوانية؛ فمحبتها منصرفة إلى المأكل والمشرب والمنكح، وربما جمعت بين الأمرين، فانصرفت محبتها إلى العلو في الأرض، والفساد.

من علامات المحبة التي يُستدل بها عليها:
منها: كثرة ذكر المحبوب، واللهج بذكره وحديثه؛ فمن أحب شيئًا، أكثر من ذكره بقلبه ولسانه؛ ولهذا أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال، وأمرهم بذكره أخوف ما يكونون، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، ومن علامتها: الانقياد لأمر المحبوب وإيثاره على مراد المحب... قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، فجعل سبحانه متابعة رسوله سببًا لمحبتهم له، وكون العبد محبوبًا لله أعلى من كونه محبًّا له؛ فليس الشأن أن تحب الله، ولكن الشأن أن يحبك الله، فالطاعة للمحبوب عنوان محبته.

ومنها: قلة صبر المحب عن المحبوب، بل ينصرف صبره إلى الصبر على طاعته، والصبر عن معصيته، والصبر على أحكامه، فهذا صبر المحب.

ومنها: الإقبال على حديثه، وإلقاء سمعه كله إليه... وكان عمر بن الخطاب إذا دخل عليه أبو موسى، يقول: "يا أبا موسى، ذكرنا ربنا"، فيقرأ أبو موسى، وربما بكى عمر.

ومنها: محبة دار المحبوب وبيته... وهذا هو السر الذي لأجله عكفت القلوب على محبة الكعبة البيت الحرام، حتى استطاب المحبون في الوصول إليها هجر الأوطان.

ومنها: محبة أحباب المحبوب... وكان أنس بن مالك يحب الدُّبَّاء كثيرًا؛ لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبعها من جوانب القصعة.

ومنها: غيرته لمحبوبه وعلى محبوبه، فالغيرة له: أن يكره ما يكره، ويغار إذا عُصي محبوبه، وانتهك حقه، وضُيِّع أمره، فهذه غيرة المحب حقًّا، والدين كله تحت هذه الغيرة؛ فأقوى الناس دينًا أعظمهم غيرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني))، فمحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى، وإن زعم أنه من المحبين، فكذب من ادعى محبة محبوب من الناس، وهو يرى غيره ينتهك حرمة محبوبه، ويسعى في أذاه ومساخطه، ويستهين بحقه، ويستخف بأمره، وهو لا يغار لذلك، بل قلبه بارد، فكيف يصح لعبد أن يدَّعيَ محبة الله، وهو لا يغار لمحارمه إذا انتُهكت، ولا لحقوقه إذا ضُيِّعت؟... وإذا ترحلت هذه الغيرة من القلب، ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين، وإن بقيت فيه آثاره.

ارتكاب الحرام يُفضي إلى مفاسد وأضرار والآم:
فأما سبيل الزنا، فأسوأ سبيل، ومَقيلُ أهلها في الجحيم شرُّ مقيل، ومستقر أرواحهم في البرزخ في تنُّورٍ من نار يأتيهم لهيبها من تحتهم، فإذا أتاهم اللهب، ضجوا وارتفعوا، ثم يعودون إلى موضعهم، فهم هكذا إلى يوم القيامة، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، ورؤيا الأنبياء وحي لا شك فيه.

والزنا يجمع خِلالَ الشر كلها؛ من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانيًا معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في الحديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله؛ فالغدر والكذب، والخيانة وقلة الحياء، وعدم المراقبة، وعدم الأَنَفَةِ للحُرُمِ، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته.

ومنها: أن الناس ينظرونه بعين الخيانة، ولا يأمنه أحد على حرمته، ولا على ولده.

ومنها: سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت، الذي يبدو عليه للناظرين.

ومنها: الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه، فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أنس، ومن جالسه استأنس به، والزاني تعلو وجهه الوحشة، ومن جالسه استوحش به.

ومنها: ظلمة القلب وطمس نوره.

ومنها: الفقر اللازم.

ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف، ويستبدل به الخبيث الذي وصف الله به الزناة.

ومنها: قلة الهيبة التي تُنزع من صدور أهله وأصحابه وغيرهم له، وهو أحقر شيء في نفوسهم وعيونهم، بخلاف العفيف، فإنه يرزق المهابة والحلاوة.

ومنها: الرائحة التي تفوح عليه، يشمها كل ذي قلب سليم، تفوح من فيه وجسده.

ومنها: ضيق الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يُقابَلون بضد مقصودهم، فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه، عاقبه الله بنقيض قصده، فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سببًا إلى خير قط، ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور، وانشراح الصدر، وطيب العيش، لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعاف أضعاف ما حصل له، دع ربح العاقبة، والفوز بثواب الله وكرامته.

ومنها: أنه يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن.

ومنها: أن الزنا يجرئه على قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة أهله وعياله... فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أخر من المعاصي بعدها... وهي أجلب لشر الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة... تذهب اللذات، وتعقب الحسرات، وتَفنى الشهوة، وتبقى الشقوة.

من علامات معرفة العبد بربه:
من علامات المعرفة: الهيبة؛ فكلما ازدادت معرفة العبد بربه، ازدادت هيبته له وخشيته إياه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]؛ أي: العلماء به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعرفكم بالله، وأشدكم له خشية))، ومن عرف الله، صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله، واستوحش من الناس، وأورثته المعرفة الحياء من الله، والتعظيم له، والإجلال، والمراقبة، والمحبة، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضا به، والتسليم لأمره.

محبة الله جل جلاله:
المحبة شجرة في القلب، عروقها الذل للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانها خشيته، وورقها الحياء منه، وثمرها طاعته، ومادتها التي تسقيها ذكره، فمتى خلا القلب عن شيء من ذلك كان ناقصًا.

ولو لم يكن في محبة الله إلا أنها تنجي محبَّه من عذابه، لكان ينبغي للعبد ألَّا يتعوض عنها بشيء أبدًا.

وإذا كانت القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وكل إحسان وصل إلى العبد فمن الله عز وجل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53] - فلا ألأمَ ممن شغل قلبه بحب غيره دونه.

ومن أفضل ما سُئل الله عز وجل: حبه، وحب من يحبه، وحب عمل يقرب إلى حبه... وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسالك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك)).

الخوف يبعدك عن معصيته، والرجاء يحركك إلى طاعته، والحب يشوقك إليه شوقًا.
المحب الصادق كلما قرب من محبوبه، زاد شوقًا إليه.

كن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذر:
كن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذر، واعلم أن العقوبات تختلف، فتارة تُعجل، وتارة تُؤخر، وتارة يجمع الله على العاصي بينهما.

وأشد العقوبات: العقوبة بسلب الإيمان، ودونها: العقوبة بموت القلب، ومحو لذة الذكر والقراءة، والدعاء والمناجاة منه، وربما دبَّت عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة، إلى أن يمتلئ القلب بها، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة: ما كان واقعًا بالبدن في الدنيا، وأهون منها: ما وقع بالمال.

قال الحسن: "ما عصى اللهَ عبدٌ إلا أذله"، وقال المعتمر بن سليمان: "إن الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته".

وكتبت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إلى معاوية: "أما بعد، فإن العامل إذا عمل بمعصية الله، عاد حامده من الناس ذامًّا".

واعلم أن الجزاء من جنس العمل، والقلب المعلق بالحرام كلما همَّ أن يفارقه ويخرج منه، عاد إليه؛ ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي الآخرة هكذا... فالكفر والمعاصي والفسوق كله غموم، وكلما عزم العبد أن يخرج منه، أبت عليه نفسه وشيطانه ومألفه، فلا يزال في غمِّ ذلك حتى يموت، فإن لم يخرج من غمِّ ذلك في الدنيا، بقي في غمِّه في البرزخ وفي القيامة، وإن خرج من غمه ها هنا، خرج منه هناك.

من ترك لله شيئًا، عوضه الله خيرًا منه:
من ترك لله شيئًا، عوضه الله خيرًا منه؛ كما ترك يوسف الصديق عليه السلام امرأةَ العزيز لله، واختار السجن على الفاحشة؛ فعوضه الله أن مكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء... وتأمل كيف جزاه الله سبحانه على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء، وأذل له العزيز وامرأته، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته، وهذه سنته تعالى في عباده قديمًا وحديثًا إلى يوم القيامة، ولما عقر سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام الخيلَ التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس غضبًا لله، أعاضه الله عنها الريح يركب هو وعسكره على متنها حيث أراد، ولما ترك المهاجرون ديارهم لله، وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم، أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا، وملَّكهم شرق الأرض وغربها، ولو اتقى الله السارق، وترك سرقة المال المعصوم لله، لآتاه الله مثله حلالًا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]؛ فأخبر سبحانه وتعالى أنه إذا اتقاه بترك ما لا يحل له، رزقه من حيث لا يحتسب، وكذلك الزاني لو ترك ركوب ذلك الفَرْجِ حرامًا لله، لأثابه الله بركوبه، أو ركوب ما هو خير منه حلالًا.

ذم الهوى وما في مخالفته من نيل المنى:
الهوى: ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خُلق في الإنسان لضرورة بقائه؛ فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح، ما أكل ولا شرب ولا نكح... فلا ينبغي ذم الهوى مطلقًا، ولا مدحه مطلقًا... وإنما يُذم المفرط... وهو ما زاد على جلب المصالح ودفع المضار، ولما كان الغالب ممن يطيع هواه أنه لا يقف فيه على حد المنتفع به، أُطلق ذم الهوى... لعموم غلبة الضرر... فلذلك لم يذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه، وكذلك في السنة لم يجئ إلا مذمومًا، إلا ما جاء منه مقيدًا؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به))، وقد قيل: الهوى كمين لا يؤمن، قال الشعبي: وسُمِّيَ هوًى لأنه يَهْوِي بصاحبه، ومطلقه يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلًا، وإن كانت سببًا لأعظم الآلام عاجلًا وآجلًا؛ فللدنيا عاقبة مثل عاقبة الآخرة، والهوى يعمي صاحبه عن ملاحظتها.

وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد منه؛ ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ به عشر معشار التذاذ من يفعله نادرًا، غير أن العادة مقتضية ذلك... ولو زال عنه رين الهوى، لعلِمَ أنه قد شقي من حيث قدَّر السعادة، واغتمَّ من حيث ظنَّ الفرح، وألِم من حيث أراد اللذة، فهو كالطائر المخدوع بحبة الفخ، لا هو يأكل الحبة، ولا هو يخلص مما وقع فيه.

فإن قيل: فكيف يتخلص من هذا من وقع فيه؟ قيل: يمكنه التخلص بعون الله وتوفيقه له بأمور:
أحدها: بعزيمة حر يغار لنفسه وعليها.
الثاني: جرعة صبر تصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.
الثالث: قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة.
الرابع: ملاحظته حسن موقع العاقبة، والشفاء بتلك الجرعة.
الخامس: ملاحظته الألم الزائد على لذة طاعة هواه.
السادس: إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذة مواقعة الهوى.
السابع: إيثاره لذة العفة، وعزتها، وحلاوتها على لذة المعصية.

الثامن: فرحه بغلبة عدوه، وقهره له، وردِّه خاسئًا بغيظه، وغمه، وهمه؛ حيث لم ينل منه أمنيته، والله تعالى يحب من عبده أن يراغم عدوه ويغيظه.

التاسع: التفكر في أنه لم يُخلق للهوى، وإنما هُيِّئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى.

العاشر: أن يسير بقلبه في عواقب الهوى، فيتأمل كم أفاتت معصيته من فضيلة! وكم أوقعت من رذيلة!

الحادي عشر: أن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه، ونيل اللذة المطلوبة، فإنه لا يجد بينهما نسبة ألبتة.

الثاني عشر: أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنه يطيف عليه، من أين يدخل عليه، حتى يفسد عليه قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلًا إلا باب الهوى.

الثالث عشر: أن الله سبحانه وتعالى شبَّه اتباع الهوى بأخسِّ الحيوانات صورة ومعنى.

الرابع عشر: أن متبع الهوى ليس أهلًا أن يُطاع، ولا يكون إمامًا، ولا متبوعًا.

الخامس عشر: أن اتباع الهوى من المهلكات، قال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ منجيات، وثلاث مهلكات... وأما المهلكات: فهوًى متبع...؛ الحديث)).

السادس عشر: أن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه، وقلبه، ولسانه.
السابع عشر: أن أغزر الناس مروءة، أشدهم مخالفة لهواه.
الثامن عشر: أن الله سبحانه وتعالى جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين.
التاسع عشر: أن الهوى داء، ودواؤه مخالفته.
العشرون: أن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه.

الحادى والعشرون: أن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح له أبواب الخِذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفق لكان كذا وكذا، وقد سد على نفسه طرق التوفيق باتباع هواه.

الثاني والعشرون: أن من نصر هواه، فسد عليه رأيه وعقله؛ لأنه قد خان الله في عقله؛ فأفسده عليه.

الثالث والعشرون: أن اتباع الهوى يحل العزائم ويُوهِنُها، ومخالفته تشدُّها وتقويها.

الرابع والعشرون: أن مخالفة الهوى مطردة للداء عن القلب والبدن، ومتابعته مجلبة لداء القلب والبدن؛ فأمراض القلوب كلها من متابعة الهوى.

الخامس والعشرون: أن أصل العداوة والشر والحسد الواقع بين الناس من اتباع الهوى، فمن خالف هواه، أراح قلبه وبدنه وجوارحه؛ فاستراح وأراح.

السادس والعشرون: أن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذل والصَّغار، والحرمان، والبلاء المتنوع بحسب ما اتبع من هواه... فقد جعل الله سبحانه وتعالى الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع هواه.

السابع والعشرون: أن مخالفته توجب شرف الدنيا وشرف الآخرة، وعز الظاهر وعز الباطن، ومتابعته تضع العبد في الدنيا والآخرة، وتذله في الظاهر والباطن.

الثامن والعشرون: أنك إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى.

فوائد متفرقة:
♦ من أحبك لأمر ولَّى عند انقضائه... وإن كان صفة لازمة له، فمحبته باقية ببقاء داعيها ما لم يعارضه معارض يوجب زوالها، وهو إما تغير حال في المحب، أو أذًى من المحبوب، فإن الأذى إما أن يضعف المحبة، أو يزيلها.

♦ الألم والحزن، والهم والغم ينشأ من عدم العلم بالمحبوب النافع، أو عدم إرادته وإيثاره مع العلم به، أو من عدم إدراكه والظفر به مع محبته وإرادته، وهذا من أعظم الألم.

♦كل لذة أعقبت ألمًا أو منعت لذة أكملَ منها، فليست بلذة في الحقيقة، وإن غالطت النفس في الالتذاذ بها، فأي لذة لآكلِ طعامٍ شهيٍّ مسموم يقطع أمعاءه عن قرب؟

♦ قال بعض السلف: ما من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما من اللذة والنعيم ما لا خطر له، مما وعد به من لا أصدق منه حديثًا، وإذا أراد به غير ذلك، تركه على ما هو عليه، ثم قرأ: ﴿ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].

♦ عدو الله... يسعى في التفريق بين المتحابين في الله، المحبة التي يحبها الله، ويؤلِّف بين الاثنين في المحبة التي يبغضها الله ويسخطها، وأكثر العشاق من جنده وعسكره، ويرتقى بهم الحال حتى يصير هو من جندهم وعسكرهم، يقود لهم، ويزين لهم الفواحش، ويؤلف بينهم عليها.

♦ تجد الكسالى أكثر الناس همًّا وغمًّا وحزنًا، ليس لهم فرح ولا سرور، بخلاف أرباب النشاط والجد في العمل أي عمل، فإن كان النشاط في عمل هم عالمون بحسن عواقبه، وحلاوة غايته، كان التذاذهم بحبه، ونشاطهم فيه أقوى.

♦ عفاف المحبين مع أحبابهم... هذه الطائفة لعفتهم أسباب؛ أقواها: إجلال الجبار، ثم الرغبة في الحور الحسان في دار القرار.

♦ ترك المحبين أدنى المحبوبَيْنِ رغبة في أعلاهما: هذا باب لا يدخل فيه إلا النفوس الفاضلة الشريفة الأبيَّة، التي لا تقنع بالدون، ولا تبيع الأعلى بالأدنى بيع العاجز المغبون، ولا يملكها لطخ جمال مُغشٍّ على أنواع من القبائح... وملاك الأمر كله: الرغبة في الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه بأنواع الوسائل، والشوق إلى الوصول إليه ولقائه، فإن لم يكن للعبد همة إلى ذلك، فالرغبة في الجنة ونعيمها، وما أعد الله فيها لأوليائه، فإن لم تكن همة عالية تطالبه بذلك، فخشية النار وما أعد الله فيها لمن عصاه.

♦ مخالفة الهوى: لم يجعل الله للجنة طريقًا غير مخالفته، ولم يجعل للنار طريقًا غير متابعته، قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41]، وقال تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46]؛ قيل: هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام الله عليه في الدنيا، ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله.

♦ قد جرت سنة الله تعالى في خلقه أن من آثر الألم العاجل على الوصال الحرام، أعقبه الله ذلك في الدنيا المسرة التامة، وإن هلك فالفوز العظيم، والله تعالى لا يضيع ما يتحمل عبده لأجله.

الألوكة