المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موقف العابدات من الشريعة والحقيقة ج1


Abeer yaseen
10-02-2020, 04:16 PM
كما كان هناك من كبار الصوفية المتمسكين بالكتاب والسنة ، والذين مثلوا سدا منيعا ضد الافكار المنحرفة ، خاصة هذه القضية – التى صدرت ليس فقط من جهال الصوفية " إنما من طائفة الملأحدة من القرامطة والشيعة والذين لا يجيزون قيام كل وأحدة منها مع الاخرى. كذلك كان للمرأة المسلمة العابدة موقف واضح وصريح يتفق مع ما سبق من إخوأنها العباد، ويكشف موقفها هذا "عن الوجه المشرق للتصوف النقى الخالص من كدر الاتحاد والحلول والجذب وسائر ما يغبر به الخصوم فى وجوه القوم، وانما هما الكتاب والسنة يصدر عنهما القوم . ويتأكد هذا المعنى من خلال دعوة العابدات الى ضرورة التمسك بالكتاب والسنة منهن:

العابدة مؤمنة بنت بهلول – وقد سئلت من أين استفدت هذه الاحوال ؟ قالت: "من اتباع أمر الله وعلى سنة رسول الله ص "

وحكى عن العابدة فخروية بنت على النيسابورية أنها قالت : " من جعل سبب الوصول الى ربه غير ملازمة طاعته واتباع رسوله (ص) فقد أخطأ السبيل اليه "

والعابدة فاطمة بنت أحمد الحجافية تبدى تعجبها ممن لا يتمسك بمنهج الشرع قائلة : " لا أحد أظهر حمقا ممن يوالى عدوه ويعادى وليه. النفس والشيطان عدوان ونحن نواليهما ونطيعهما ، والكتاب والسنة مواضع نجاتنا وخلاصنا، وقد أعرضنا عنهما "

وقد سبق بيان موقف العابدة أم على امرأة أحمد بن خضروية البلخى " التى جاءتها امرأة فقالت لها ما حاجتك ؟ قالت : جئت لأتقرب الى الله بخدمتك فقالت لها أم على : لم لا تتقربين إليً بخدمة ربك ?. وقول أم أحمد بنت عائشة : " من رضى بعيوب نفسه ، ولم يداوها بدوائها ، أورثه الله الدعاوى الباطلة".

وأذا اضفنا الى ذلك قولهم السابق عن التصوف والصوفى والفتوة. يتضح لنا أن فى منهجهم النظرى والعملى ما يشير ضمنيا إلى ضرورة تعلم العلوم العقلية والشرعية ؛ ليتسنى للانسان معرفة ربه على بصيرة. كما نلمح أيضا من وجود العابدات فى وقت زمنى متقارب خلال القرن الثالث الهجرى ، وحثهن على ضرورة الالتزام بمنهج الشرع ، أنهن عاصرن فعليا هذه المشكلة التى احتدمت فى هذا العصر من التعارض بين الشريعة والحقيقة . خاصة إذا علمنا أنهن كن على صلة بكبار العباد الذين عرف عنهم التمسك بالكتاب والسنة ، وربطت بينهم صلات متنوعة من القرابة ، أو الصحبة العلمية والتى وجدت أثرها الواضح على كلا الفريقين فتأثر كلا منهما بالآخر.

العوامل التى ساعدت العابدات على عدم التفرقة بين الشريعة والحقيقة

1- الصحبة العلمية لكبار علماء الشرع والعباد المتمسكين بالكتاب والسنة : لقد صرحت كتب التراجم والطبقات عن هذه الصحبة التى وجدت بين العابدات وكبار علماء الشرع ، وكان لذلك بلا شك تأثير ايجابى عليهن فمن صور هذه الصحبة على سبيل المثال لا الحصر :

فاطمة بنت أحمد الحجافية – حيث ذكر السلمى أنها لقيت –أبا عثمان الحيرى النيسابورى ت 298هـ ، وصحبته الكثير من العابدات؛ لينهلن من علمه كعائشة امرأة أحمد بن السرى، وفاطمة بنت أحمد بن هانى النيسابورى، الذى قال عنها : إرفاق فاطمة للفقراء إرفاق الفتيان لا تطلب به عوضا فى الدنيا والاخرة ، وقد سألته عن مسائل منها : كيف السبيل الى معرفة الله ؟ فقال لها : بنسيانك نفسك والخلق وإنكارك كل شىء سوى الله حتى تبلغى الى حقيقة معرفة الله"
وكان أبوعثمان من المشتغلين برواية الحديث واسناده . وقد أثنى عليه الكثير من العلماء منهم محمد بن عبد الرحمن الرازى بقوله : " لقيت الجنيد ورويما ويوسف بن الحسن ومحمد بن الفضل ... وغيرهم من المشايخ ، فلم أر أحدا أعرف بالطريق الى الله عز وجل من أبى عثمان ".
وأم على كان زوجها أحمد بن خضروية ت 240 هـ من كبار مشايخ خرسان . وقد اثنى عليها أبو زيد البسطامى " ، وكلاهما سبق من أقواله مايؤكد علي ضرورة التمسك بالكتاب والسنة.
كما كانت فخروية بنت على تربطها الصحبة العلمية بأبى على الثقفى ت 328 هـ والذى كان إماما فى اكثر علوم الشرع ، وقد أثنى عليها حينما تكلمت فى شىء من الاخلاص فى العلم ، كما أثنى عليها جد عبدالرحمن السلمى: أبا عمرو بن نجيد بقوله : " كانت فائدتى من صحبة فخروية لم تكن دون فائدتى من صحبة أبى عثمان الحيرى النيسابورى " الذى سبق ذكره.
وهكذا يتضح لنا أن مثل هذه الصحبة العلمية التي جمعت العابدات بكبار علماء الشرع جعلتهن يتأثرن بموقفهن الواضح والمناهض لكل من يحاول التفرقة بين الشريعة والحقيقة.

2) علاقةالقرابة التي ربطتهن بالفقهاء والمفسرين من الرجال: كما نذكر بالاضافة إلي ماسبق علاقات القرابة كالأخوة والبنوة،وما إلى ذلك، والتي عاشت تحت كنفها العابدات، حيث أن أصولهم كانوا فقهاء أو زهاد أو مفسرين منهم:
العابدة ميمونة أخت إبراهيم الخواص*، الذي كان من كبار الزهاد والعارفين، وكان من أقران الجنيد والثوري، وكان شديد الالتزام بالكتاب والسنة، وكان يرى أنه لايكني أي انسان بأنه عالم مالم يلتزم بها فيقول :(ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنة ، وأن كان قليل العلم ) ويقول : على قدر إعزاز المؤمن لأمر الله يلبسه الله من عزه ، ويقيم له العزة في قلوب المؤمنين ، وذلك لقوله تعالي : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) ويثني عليه السلمي (( بأنه من أوحد المشايخ في وقته )).وقد نقل إبراهيم الخواص عن أخته ميمونة بعض أقوالها .
وسعيدة بنت زيد التي كانت من عارفات البصريين وتتشبه برابعة، وكانت كثيرة الاجتهاد دائمة التفكير. وكان أخوها حماد بن زيد ت ١٧٨ه الإمام الحافظ الثبت، وأثنى عليه عبد الرحمن بن مهدي بقوله: "أئمة الناس في زمانهم أربعة سفيان الثوري بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام وحماد بن زيد بالبصرة ".
وعلاقة الأخوة نجدها لدى آمنة وعبدة أختا أبي سليمان الدراني ت ٢١٥هـ.واللاتى وصفهماالسلمي بأنهما كانتا من العقل والدين على قدرعظيم.
وقدسبق ذكر أقوالهن فى الفقر والزهد والتي تتفق مع نظرة الإسلام لها . وبلغ من تمسك أخيهما ابى سلميان الداراني بأنه كان يعرض أقوال الآخرين مهما بلغوا علي الكتاب والسنة فيقول: " وربما يقع فى قلبى النكتة من نكت القوم الصوفية أياماً فلا أقبل منه الا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة . ‎ ‏
ومن علاقات الأخوة نجد أخوات بشر الحافى واللائى كن من الورع علي قدرعظيم، وأثنى عليهن الامام أحمد بن حنبل، الذى ربطته بأخيهم بشرالحافي صداقة قوية ، وكان يصفه الإمام أحمد "بأنه ليس له نظير إلا عامر بن قيس ويقول: لوتزوج لتم أمره " . وقد كان بشر يطلب الحديث في البداية ثم أقبل على العبادة واعتزل الناس

وعودة إلى علاقة الزوجية التي ربطت العابدات بكبارالعباد المتمسكين بالكتاب والسنة فنجد أم اليمن العابدة ، وكان لها أناشيد روحية جميلة. ويصفها السلمى بأنها من الآجلة، وصاحبة حال .

أما عن زوجها أبوعلي الروزباري ت322هـ . فكان عالماً فقيهاً حافظاً للحديث ، وروي عنه أنه سئل عمن يسمع الملاهي،ويقول: هي لي حلال، لأنى قد وصلت إلى درجة لايؤثر فى اختلاف الأحوال فقال : نعم قد وصل لعمري ولكن إلي سقر ".وحين سئل عن التصوف قال: "هذا مذهب كله جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل ".

وكانت فطيمة العابدة زوجة حمدون القصار النيسابوري ت‎271هـ‏ شيخ أهل الملامة ، ومنه انتشر مذهب الملامتية،وكان عالما فقيها يذهب مذهب الثوري وقد أسند الحديث .
ومن كلامه الدال علي حسن فقهه ومذهبه الصوفي الذي لم يخرج عن جوهر الكتاب والسنة قوله: "قعود المؤمن عن‏ الكسب إلحاف في المسألة "‎ وكان يقول لأصحابه: "أوصيكم بشيئين: صحبةالعلماء،والاحتمال عن الجهال". وسوف يأخذ طائفة الملامتية بعد ذلك في حسن الصبر على أذي الناس وعدم الشكوى ومن أقواله الدالة علي ذلك : "لايجزع عند المصيبة إلا من يتهم ربه". وقد سأله أحدهم أوصني فقال: أن استطعت ألا تغضب لشىء من الدنيا فافعل". وكانت له دعوة فى التمسك بحدود الله فى شريعته قائلا: من ضيع حدود الله عنده فهو لشريعته أضيع، لأن الهر تعالى يقول : " وأوفوا بالعهد أن العهد كان مسئولا "
وهكذا يتضح من أقواله ايمانه الصحيح القائم على المعرفة بالكتاب والسنة والدعوة للتمسك بهما، وبالتالى لا نعجب حين نرى زوجته على شاكلته في فقهها وحسن كلامها في علوم القوم.
ونستطيع أن نستنبط مدى تأثر العادات من خلال هذه العلاقات الاجتماعية المتنوعة التى ربطت بين العابدات والعباد الذين جمعوا بين العلم الشرعي والعبادة أو كما يسميهم ابن تيمية" مشايخ أهل الكتاب والسنة ".
وليس أدل على احترامهم للشرع وتعاليمه من أنهم كانوا كما يقول الكلاباذي : "يأخذون بالأحوط والأوثق فيما اختلف فيه الفقهاء، ويرون اختلاف الفقهاء صواباً "
أما عند العابدات فان هذا المعنى يتحقق عندهن من خلال ماسبق من عبادتهن ومجاهداتهن دون شك. فحين تقول عزيزة الهروية العابدة: "الزاهد لزم الملك لحاجته والعارف لزمه الملك لمجالسته ".
وقول فاطمة النيسابورية : "من عمل لله على المشاهدة فهوعارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهومخلص ".والمشاهدة هنا بسر القلب فهو حين يشاهد الصنعة لايرى فيها إلا الصانع؛ نفهم من هنا ارتقاء لقيمة المعرفة المؤسسة على العقل شريطة أن تجمع في طياتها بين العلم والعمل،وتمس حياة القلوب بالإخلاص . أي أن "العقل طهر بالمجاهدة والرياضة من مجال الحس والأوهام "
ولهذا يفضل العارف على الزاهد،ومن ثم يطلبه الناس أجمعون؛لأنه يكون وسيلة تنير لهم بصيرتهم بفضل علمه، وبخاصة الخلفاء الورعين ومنهم عمر بن عبدالعزيز الذى بعث إلى الحسن البصري يسأله أن يعينه في اختيار حكام أمناء فأجابه الحسن بقوله:
أما أبناء الدنيا فلاتريدهـم، وأما أبناء الآخرة فلايريدونك، فاستعن بالله".وكان عبدالكريم القشيري معظم لدى ألب أرسلان. وكان لابن الفارض نفس المنزلة من التكريم والإجلال عندالملك الكامل .
وكان نفس الشيء مع أم الدرداء والخليفة عبد الملك بن مروان، والسيدة نفيسة وأحمد بن طولون،فكلاهما له كلام حسن في وعظ الحاكم سيتضح في مابعد.
وعلى ضوء ماتقدم يتضح أنه كان لهذه البيئة العلمية الصالحة التي برزت فيها العابدات أثرها عليهن،وقد ظهر هذا واضحا من خلال سلوكهن العلمي وأقوالهن النظرية في الحث علي التمسك بالشرع وجعله مصدراً،وأصلا أصيلا لمعرفة الله سبحانه.

وأدى عصمتهن بالعلم إلى أنه لم يرو أنه أخذ على امرأة منهن ما أخذ على الصوفية فى مدرسة الزهد الإسلامي،ومنها قضية الشريعة والحقيقة. بل سنجد منهن اندفاعا بكل شجاعة إلى تعلم العلوم الشرعية، وبلوغ الشأن العظيم فيها،ويتضح ذلك إن شاءالله تعالى في الفصل التالي.

3) موقفهن من قضية الكشف الصوفي
الكشف معناه عند الصوفية :
انكشاف حجاب القلب ورؤيته أشياء من الغيب،وقد زعم الصوفية أنه يحصل لهم . ولهذا وجد منهم أقوال تعيب على علماء الشريعة مسلكهم في العلم،وتوحي فى ظاهرها الى الانصراف الى طريقة الكشف هذه في تحصيل العلوم منهم: أبويزيد البسطامي والجنيد وابوسليمان الدارانى .
ولكن الانصاف يقتضي أن نعيد النظر مرة أخرى: لأن هؤلاء الرجال كما سبق المتمسكين بالكتاب والسنة، ولم يطعن في ذلك أحد من علماء الاسلام المعاصرين لهم،أو من أتى بعدهم كابن تيمية والقشيري وغيره .
يضاف إلى ذلك أن معظم من رووا هذه الأقوال الغريبة عن منهجهم السابق من التمسك بالشريعة أخذ عليهم الكثير من البدع منهم :
ابن عربي، الذي ربما طعن كثيرا في ايمانه بسبب شطحاته وأقواله المنحرفة عن الدين، فأراد أن يجد سنداً من أقوالهم يدعم به منهجه الصوفي الفلسفي لما خبره من تعظيم العامة لهم. أو المكي، وهو ماعرف عنه من شدة المبالغة التي يأمر بها مريديه في طريق المجاهدة. والذي يعنينا هنا هو موقف العابدات الرافض بأن يتخذ الكشف طريقا للمعرفة، أو أن يكون سبيلاً للطعن في علماء الشرع،وإذا حدث باعتباره هبة من الله لمن طهرت قلوبهم وازدانت عقولهم بالعلم فإنهن يلجأن إلى الستر. من ذلك:
أن بعض المدعين للكشف قال لعائشة بنت أحمد الطويل المروزية : افعلى كذا وكذا ليقع لك كشف فقالت: الستر أولى للنساء من الكشف لأنهن عورات .
وهي إجابة فيها من الطرافة مايكشف عن عميق معناها،وهوعدم الاكثراث بمثل هذه الأمور.

وسأل رجل عبدوسة بنت الحارث قائلاً: ماحالك ؟ فقالت: السؤال عن الحال محال " فالتزمت بمنهج الستر، ومثلها كانت البغدادية، التي قالت :" العارف لا يكون واصفا ولامخبراً " .ولعلها تقصد ألا يكون واصفا لحاله حتى لا يصل التعظيم والفخر لنفسه ولامخبرا عما يمن به الله سبحانه عليه من كرامات وغيرها.

ومادعوتهن هذه إلى عدم الاغتراربمثل هذه الامور إلا خشية أن تكون هذه من حيل الشيطان، والتي وقع في حباله عن طريق ذلك الكثير من الصوفية. أما عند العابدات فكان لديهن الوعي والإدراك التام لهذه الأمور،وهذا دليل على حرصهن على تحصيل العلم الشرعي الذي يحصن الانسان من الوقوع في مزالق الشيطان،أو أهواء النفس من خلال حدوث مثل هذه الأمور الكشفية.

ومما يؤكد هذا المعنى أيضا ماروي أن رابعة كانت تحذر الأشياء التي ظاهرها يكون نوعا من الكرامة خشية من تلبيس إبليس فيحكي أنها لما سئلت: لما لا تأذنين للناس يدخلون عليك؟ قالت: وماأرجو من الناس أن أتوني حكوا عني مالم أفعل !". وقالت أيضا: "يبلغني أنهم يقولون إني أجد الدراهم تحت مصلاي، ويطبخ لي القدر بدون نار ولو رأيت مثل هذا لفزعت منها".

وحكت عن نفسها أنها أصبحت صائمة في يوم بارد. قالت: فنازعتني نفسي إلى شيء من الطعام الساخن أفطر عليه وكان عندي شحم فقلت : لوكان عندي بصل أو كراث عالجته! فإذا عصفور قدجاء فسقط على المثقب في منقاره بصلة، فلما رأيتهأ ضربت عما أردت وخفت أن يكون من الشيطان "
وهكذا يتضح مدى الخشية والورع الذي حظين به عند حدوث مثل هذه الأشياء ولم يكن ليغنخدعن بحدوثها او تصرفهم عن الاستمرار في مجاهدة النفس التي ذبحوها بالطاعة وعدم الغرور والعجب مهما بلغت طواعيتها للأمر الإلهي، وأقوالهن في هذا الشأن من الكثرة بحيث لاتحصى منها ماسبق من موقف رابعة.
‎‏وشعوانة حين سئلت النصح والدعاء بالاضافة إلى مارواه ابن الجوزي عن صالح بن عبدالكريم قال: رأينا امرأة سوداء بالبصرة والناس مجتمعون عليها فكانت من الواعظات، ثم قامت فدخلت دارا فدخلوا معها، فدنوت منها فقلت: "ياهذه أما تخافين العجب؟ فرفعت رأسها فنظرت إلى ثم قالت: كيف يعجب بعمله من لايدري لعله قد رد عليه "
وكل هذه دلائل على يقظة الشعور الديني في نفوسهن، وهذا يعضد موقفهن السابق من الكشف حين أوصدن الأبواب التى من الممكن أن يتخللها الشيطان حين تضعف النفوس، ولكن هيهات لأنفسهن العامرة بالايمان أن تقع في مثل هذا الشراك.

(4) دورهن فى تفسيرالقرآن الكريم

أما بالنسبة للعابدات فأن البعض منهن ممن ورد عنه تفسير القرآن لم يخرجن في ذلك عن مقتضي ماتعنيه الآيات الكريمة؛ لأن تفسيرهن كان محكوما بماورد لدى الصحابة أو المأثورعنهم،وهذا يعني أنهن شعرن بمدى المسئولية والتعظيم لكتاب الله–عزوجل -؛ ولهذا هيأن أنفسهن لهذا الأمر الجليل الذي تعرضن للقيام به حين جلسن لوعظ الناس رجالا ونساء؛ وذلك عن طريق التحصيل المتنوع للعلوم الشرعية والفقهية أيضا مع حفظهن لكتاب الله حتى بالقراءات السبع. وقدسبق القول بأن محمد ابن سيرين، وهو من التابعين, ومن كبارعلماء الحديث, كان إذا أشكل عليه شيء من القراءة يقول : اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ.
"ويذكرالسخاوي عن بيرم بنت أحمد بن محمد الديروطية في القرن التاسع بأنها قارئة للقرآن الكريم تلتهب الروايات السبع وحفظت العمدة، وأربعين النووي والشاطبتين والبردة وعقيدة الغزالي وغير ذلك،وأكثرت من مطالعة رياض الصالحين وطهارة القلوب ورسالة ابن ابى زيدون وغيرها ووعظت النساء "
وكانت خديجة القرشية" ت 641 هـ من الحافظات المتفقهات،حفظت القرآن الكريم وأتقنت تجويد قراءته، وتفقهت فى الدين، وسمعت من أحمد بن الموازينى

وممن جمعن أيضا بين حفظ القرآن وفقهه وأخذ عنها الرجال وتأثروا بها فاطمة بنت أحمد الرفاعي ت609 هـ ، وكانت عابدة قانتة صالحة حافظة لكتاب الله فقيهة، أخذ عنها القراءة: ولدها أبواسحاق ونجم الدين أحمد، وسمعا منها حديث رسول الله(ص) وحدث عنها أحمدالصبان، وكان لها مجلس تدرس فيه للرجال والنساء .
من هنا كان اهتمامهن وعنايتهن بكتاب الله ليس فقط بحفظه بالقراءات وتجويده، بل أيضا بالدعوة العملية الى تدبر معانيه وفقهه والعمل بأحكامه. فقد روي ابن الجوزي عن احدى العابدات على سبيل المثال لا الحصر أنه دخل عليها رجل، وهو يقرأ سورة هود فقالت له: "يا عبد الرحمن، هكذا تقرأ سورة هود؟ والله إني لفيها منذ ستة أشهر ما فرغت من قراءتها .
وما ذكرناه فيما سبق يمثل جوانب يجب لمن يتصدى للقيام بالتفسير والوعظ أن يتسلح بها، ولهذا سوف نجد في تفسيرهن بعد استحكام هذه الأدوات ماينأى بهن عما أخذ على الرجال الصوفية من شطحات، كالتأويل الباطن للقرآن،أو أن للقرآن ظاهرا يخالف باطنا، وإنما هو الاقتداء بما ورد من تفسير مأثور عن الرسول (ص) وصحابته الكرام والتابعين ومن ذلك:

مارواه عاصـم الأحوال قال: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا، وتنقبت به فنقول لها: رحمك الله قال الله تعالى : ( والقواعد من النساء التى لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة)وهو الجلباب: قال: فتقول لنا: أي شىء بعد ذلك ؟فنقول : (وأن ‎يستعففن خير لهن) فتقول: هو إثبات الجلباب .
وهذا دليل على قوة الفهم والإدراك لمغزى الآية الكريمة تجلى من خلال التركيز على ضرورة النظر والإمعان للآية كاملة قبل التعجل بالأحكام

ومن قبيل التفسير بالقرآن من خلال الفهم العميق لمعانيه أيضا ماروي عن ميمونة:أخت إبراهيم الخواص حينما دخل عليها قائلاً: إني اليوم ضيق الصدر فقالت: من ضاق قلبه ضاقت عليه الدنيا بما فيها،ألا ترى أن الله تعالى يقول: (حتى اذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم )لقدكان لهم في الأرض متسع، ولكن لماضاقت عليهم أنفسهم ضاقت عليهم الدنيا بما فيها .

ومن ذلك قول: العابدة "حكيمة الدمشقية،لرابعةالشامية لقد بلغني أن زوجك تزوج عليك كيف يفعل ذلك مع مايبلغني من عقله؟أما يسمع قوله تعالى: (إلا من أتى الله بقلب سليم) فهوالقلب الذي يلقى الله وليس معه أحد غيره .
وورد نفس هذا التفسير عن راهبة الموصلية لأختها رابعة الشامية . وحين حدثت به زوجها أحمد فحدث هو الثاني لأبي سليمان الداراني الذي قال تعليقا على ذلك:" ليس هذاكلام الراهبة هذا كلام الأنبياء".

ماسبق يمثل اجتهادات أو بالأصح خواطرحول القرآن كان مساعدا عليها قوة الفهم الذي غذاه العلم مع العمل . – يضاف إليه اقتباسهن التفسير بما أثر لدى الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ،ومن ذلك:‎

‏ماذكره السلمي عن عبد الرحمن بن شهدان،أنه سمع عزيزة الهروية تقول: كان‎ سفيان يقول : ذكر الله اربعة اشياء فى موضع واحد، فقال : ( الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) كما لا يقدر أحد أن يزيد فى عمرك، كذلك لا يمكن أن يزيد فى رزقك ، ففيم التعب . وفى هذا شبيه بما ذكرته مريم البصرية فى قولها: ما اهتمت بالرزق ولا تعبت في طلبه منذ سمعت الله عز وجل يقول : (وفى السماء رزقكم وما توعدون ).

كما روي عن أم الأسود بنت زيد العدوية-وكانت معاذة العدوية قدأرضعتها–أنها سئلت عن قول الله عزوجل: (فأصفح الصفح الجميل ). قالت: رضا بلا عتاب،وهذا التفسير مأثور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

وكما كان النقل من تفاسير الصحابة والتابعين ،فقد ورد أيضا النقل من تفاسير بعض العباد المتمسكين بالكتاب والسنة من مثل: أبي سعيد الخراز الذي نقلت عنه بعض تفسيراتها أخته الحوارية،وروت عنها فاطمة بنت أحمد السامرية حين سئل عن قوله تعالى: (ولله خزائن السماوات والارض). فقال: خزائنه في السماء العبر،وفي الأرض القلوب لأن الله تعالى جعل قلب المؤمن بيت خزائنه ثم أرسل رياحا،فهبت فكنسته من الكفر والشرك والنفاق والغش والخيانة، ثم أنشأ سحابة فأمطرت ثم أنبتت منه شجرة فأثمرت الرضا والمحبة والشكر.. فهو قوله تعالى: (أصلها ثابت ).
‎ومثل هذا القصص في التفسير جائز خاصة خلال مجالس الوعظ للترغيب والترهيب شريطة عدم إخلاله بالمعنى الاصلى " وقد روت الخلدية بنت جعفرأنها سمعت أباجعفر

الخلدي يقول: سمعت الجنيد : يحكى عن الخواص أنه قال: سمعت بضعة عشر مشايخ أهل الورع والدين والتمييز وترك الطمع كلهم مجمعون على أن القصص في الأصل بدعة،ونعمت البدعة هي، الرحمة تنزل في مجالسهم ،والدموع تزرف من بركة ألفاظهم،وتنقي القلوب عن المعاصي بتخويفهم ،وقد استعملت هذا القصص فى التفسيرخلال مجالس وعظها أم الدرداء كما سبق من حديثها عن حال الميت.
وهكذا يتضح لنا أن تفسيرالعابدات سواء أكان من اجتهاداتهن،أو مما نقلنه عن الصحابة والتابعين لم يكن خروجا عن مراد الشرع أو التأويل الباطني للقرآن الذي يبعد تماما عن المعنى الأصلي للآيات كما عرف عند بعض الرجال من الشيعة والمنحرفين عن منهج الشرع من الصوفية.
كما ينبغي توضيح أنهن لم يشتغلن بالتفسير،وإنما لجأن له كلما دعت الحاجة إليه من مثل: مجالس الوعظ لكبار العلماء و النصيحة للآخرين, وهي على قلتها، فأنها توضح بإجمال كيف أنهن كن على حظ عظيم من الورع وليس بشطحات تخرج عن مراد الشرع
‎ ‏ بل أن رهافة الحس ورقة الشعور جعلتهم يبكين البكاء الحار عند سماع آيات الترغيب والترهيب،بالإضافة إلى اعتصامهن بكتاب الله عند النوازل والمصائب
دورالعابدات فى حفظ السنة وتعليمها

- صفة الصفوة المجلد الثاني ترجمةرقم592.
- سورةالحجر: 85
- الدرالمثثور4/104 . وروح المعاني14/ 77.
- تاريخ بغدادجـ 14/439

- المرجع السابق جـ 4 / 144
- انظر: صفةالصفوةترجمة654،941،937،585