المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كنز الاستخارة (خطبة)


امانى يسرى محمد
15-03-2020, 11:33 AM
الخطبة الأولى



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) [البقرة: 281].





هناك شغف لدى البعض أن يطلع على المستقبل القادم، خاصة في الأمور التي لها علاقة مباشرة بأمور حياته، فهو شغوف بأن يعرف ما في المستقبل، ومن هذا المنطلق كان أهل الجاهلية إذا عزم الواحد فيهم على أمر، لجأ إلى عدة طرق لاستشراف هذا الغيب؛ فإما أن يتطير، أو يستقسم بالأزلام، والتطير طير يطلقه في السماء، فإذا اتجه يمنةً أقدم على أمره، وإذا اتجه يسرةً تراجع عن أمره، سواءً كان ذلك الأمر تجارة أو زواجًا أو أي أمر، والاستقسام بالأزلام ثلاثة أقداح مكتوب على القدح الأول (أفعل)، والقدح الثاني (لا أفعل)، والثالث لا كتابة عليه، ثم يرمي الأقداح، ثم يأخذ قدحًا، فإذا ظهر القدح الذي فيه عبارة الفعل أَقْدَمَ، والعكس بالعكس في العبارة الثانية، أما الثالثة التي لا عبارة فيها، يعيد القرعة - إن صح التعبير - من جديد، وجاء الإسلام ليلغي ذلك كله، ويؤكد قاعدة مستقرة في نفوس الجميع: أن الغيب لا يعلمه إلا الله جل في علاه؛ قال تعالى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65]، وأن الإنسان مهما بذل لا يعرف، (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة: 216]، وفي ظل هذا الأمر ألغى الإسلام كل الطرق التي يمكن أن توصلك إلى ذلك الغيب، فلا مجال لقضية قراءة الكف ولا الأبراج ولا النرد، ولا غير ذلك مما يحاول الناس فيه أن يستشرفوا ذلك الغيب، وفتح بابًا واحدًا يعينك على ذلك الغيب المستقبلي؛ ألا وهو: كنز الاستخارة، الاستخارة كنز عظيم، كثير منا يسمعه وقد يعي بعضه ولا يعي كله، وقليل من يطبقه في شؤون حياته كلها، قصة ذلك الكنز ربما تتضح في حديث جابر رضي الله عنه حين قال - واسمعوا جيدًا للعبارة القادمة: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن))؛ تحفيظ، تكرار، يكرر عليهم كما يلقنهم سورة من سور القرآن، ثم قال الحديث: ((إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر - فيسميه ما كان من شيء - خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – معاشي؛ يعني: الدنيا، وعاقبة أمري؛ يعني: الآخرة، فحقق ثلاثة أمور - فاقدره لي - أي: اجعله قدري - ويسره لي - سهِّل الطرق للوصول إليه - وبارك لي فيه - ضخمه لي - وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - فما هو المطلوب؟ - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان - أينما كان الخير لا أعرف - ثم أرضني به))؛ [رواه البخاري].

كنز والله لو تأملت العبارات فكأنك تسمعها لأول مرة؛ وقد علق ابن القيم رحمه الله لما جاء على هذا الكنز قائلًا: "عوض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء مما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام"، ثم وصف الدعاء وصفًا دقيقًا قال: "هو توحيد وافتقار، وعبودية وتوكل، وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبيده رحمة، لم يستطع أحد حبسها عنهم، وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليهم".

كنز، لما تتأمل تفاصيل ذلك الكنز وأنت تقرأ العبارات: ((أستقدرك بقدرتك)) ماذا يعني؟ أي: يا رب، امنحني قدرة للوصول إلى ذلك الأمر، دعاء الاستخارة تعليم، الاستخارة تعطيك درسًا أنك عبد فقير، لا حول لك ولا قوة مهما أعملت عقلك، وأن الحول والقوة والقدرة بيد الله، الاستخارة تعلمك درسًا أن ما تسعى إليه من أمور الدنيا لتحققه يجب أن يحقق ثلاثة شروط: أن يكون خيرًا لك أولًا في أمر دينك، فقد تطلب شيئًا من الدنيا، لكنه يتعارض مع أمر الدين لا خير له في دينك، ثم أن يكون له خير في معاشك، ثم أن يكون له خير في آخرتك عاقبة أمرك، توسعة للإدراك بشكل كبير، أحيانًا تسعى لأمر؛ وظيفة، زواج، قضية من قضايا الدنيا، لكن القضية مقتصرة على الدنيا، أريد هذا الأمر لأنه سيحقق لي ربحًا سريعًا ... ولكن هناك دين: هل هو محسوب في القضية أو غير محسوب؟ هناك آخرة: محسوبة في القضية أو غير محسوبة؟ يعلمك دعاء الاستخارة بأنك قد تصل لما تريد، لكن تصل بعسر وبشدة، من الذي ييسر؟ الله عز وجل ((ويسره لي))، ثم قد تصل لكن لا يبارك لك فيه، تطلب امرأة تتزوجها، تعيش حياتك على أن هذه المرأة أفضل نساء الدنيا، وأنها أسعد إنسانة ستعيش معها، ثم إذا تزوجتها لم تكن ثمة بركة؛ لأن الله لم يأذن بالبركة فتنقلب الحياة جحيمًا، تسعى لوظيفة، لتجارة، لأي أمر من أمور الدنيا، إنها قضية البركة من الله، يعلمنا دعاء الاستخارة بأنه إذا صرف عنا شيئًا من أمور الدنيا، فإن هذا لا يعني أنه نهاية المطاف، وأنه أحيانًا يصرف لأنه ليس خيرًا لك، لكن تحتاج إلى مرحلة رضًا عن الحالة الجديدة التي وصلت إليها والتي فقدتها، من الذي يمنحك الرضا؟ الله عز وجل ((ثم أرضني به))؛ لأن الإنسان يسعى أحيانًا إلى الأمور الظاهرة، وما وراء الظاهر لا يراه، فعندما يفوته هذا الظاهر يتألم ويـتأثر ويبكي، فهو يحتاج إلى دعم يرضيه بالحالة الجديدة؛ ولذلك دعاء الاستخارة يخرج الإنسان من دائرة الخرافة وقضية الأبراج وقراءة الكف والذي ليس له دليل، وإنما يدخل الإنسان ويقحمه في قضايا ليس لها حد ولا عد.


دعاء الاستخارة لا ندم فيه، والسلف الصالح كانوا يقدرون ذلك جيدًا، طاهر بن الحسين لما كتب لابنه عبدالله بن الحسين يوم تولى الكوفة قال: "أكثر من استخارة ربك في جميع أمورك"، بل حتى في بعض الأمور الظاهرة الخيرة يستخيرون؛ ((لما جاء الخبر إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها - يعني: يريد زواجها - قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أستأمر ربي، ودخلت تصلي ركعتين))، إلى هذا البعد وصلت قضية الاستخارة عندهم، والإمام البخاري رحمه الله ما وضع حديثًا في صحيحه إلا وصلى ركعتين، وتسمع عشرات القصص من أناس أقدموا حتى على أبواب خير استخاروا قبل أن يقدموا عليها، فضلًا عن أبواب الدنيا التي لا يعلم خيرها من شرها أصلًا، إنها الاستخارة ... كنز نبوي.

أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والرعاية والرشاد، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.



الخطبة الثانية



الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

إخوتي في الله، كيف؟ ومتى؟ وما هي العلامات؟ ثلاثة أسئلة تتردد دائمًا في قضية الاستخارة: كيف نصلي الاستخارة؟ حديث النبي صلى الله عليه وسلم واضح، بأن الإنسان إذا ركع ركعتين من غير الفريضة (نافلة)، سواء كانت نافلة ذات سبب كأن يصليها مع تحية المسجد، أو ركعتي الظهر أو غير ذلك، أو نافلة مستقلة ويدعو فيها بهذا الدعاء.

أين يدعو بالدعاء؟ خلاف بين العلماء ولكل قول وجه؛ قال الشيخ ابن باز يرحمه الله:

"المشروع للمسلم إذا صلى صلاة الاستخارة أن يدعو بعد السلام منها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك ...))؛ الحديث، وهذا يدل على أن الدعاء يكون بعد السلام من الصلاة".

في أي شيء أستخير؟ في كل أمور دنياك، لا تدع شيئًا لا تستخير فيه، حتى لو ظهر لك أن الأمر خيرٌ، فلتستخر، ترقية في الوظيفة، هل يتوقع الإنسان أن الترقية في الوظيفة ليس فيها خير؟ زيادة في الراتب، استخر؛ قال العلماء: "إن الاستخارة ليست في ذات القضية، لكن ما يصحبها أحيانًا"، فقد تكون هذه الترقية مدعاة لعين البشر عليك، أو معاداتهم لك حتى يخرجوك من الوظيفة، فما حجب الله عنك الترقية إلا كفًّا لشرٍّ لم تَرَهُ أنت بعد، فالاستخارة تريك طريقًا لم تكن لتراه، يستخير الإنسان أحيانًا في الذهاب إلى العمرة، عمرة! حج! قالوا: ليست الاستخارة في ذات الطاعة، فالطاعة لا يُستخار فيها، لكن يُستخار في طريقتها، هل هذا الوقت هو المناسب؟ هل هذه السيارة هي المناسبة؟ مع هؤلاء الجماعة هم المناسبون؟ ... كل هذا مما يأتي في قضية الاستخارة.


أيضًا قالوا: لا تكرر الاستخارة، فإذا صلى الإنسان الاستخارة مرة واحدة، فإنه لا يكررها، وإذا كان الإنسان مضطرًّا لأن يصليها مثل: امرأة لا صلاة عليها وتريد أن تستخير؛ قال العلماء: "إن كان الأمر يتأجل، تتأجل حتى تطهر وتصلي، وإلا فجاءت بالدعاء، ومثل هذا ينطبق على بعض الذين ربما لا يستطيعون لأمر ما منعهم عن قضية الطهارة، فيدعون بالاستخارة من غير صلاة".

كيف أعرف أن هذا هو الطريق الذي اختاره الله لي؟ رؤيا دقيقة واضحة في المنام بأن هذا هو الطريق الصحيح، أو ارتياح قلبي عميق إلى ذلك الأمر، كل هذه العلامات غير منصوص عليها، ما هو الصحيح؟ الصحيح أن الإنسان يستخير، ثم بعد الاستخارة يمضي في إجراءات ما هو عليه؛ مثلًا: كان يقدم على وظيفة، فيستكمل التقديم، كان يريد خطبة امرأة من بيت، فيستكمل الأمر، فإذا ظهر انغلاق في الطريق أو انسداد في المعاملة، دل ذلك على أن خيرة الله له ألَّا يقدم في هذا الطريق، فالقضية ليست مرتبطة بمنامات ولا انطباعات؛ لأن جل انطباعاتنا في الغالب مرتبطة بارتياحات نفسية مسبقة تجاه ذلك الأمر؛ هذه بعض القضايا في قضية الاستخارة.

وبقي أن أقول لكم شيئًا مهمًّا: كيف نحول هذه الاستخارة إلى درس إيماني في حياتنا؟ كيف نربي أنفسنا ونربي أولادنا؟ والله أحيانًا يشعر الإنسان بالخجل والاستحياء من الله، لو أراد الإنسان أن يقدم على أمر من أمور الدنيا دخول في باب تجارة مثلًا، كم سيسأل من البشر؟ كم سيذهب إلى أصحاب الخبرة؟ ويقول لهم: أقدم أو لا أقدم؟ من واقع خبرتكم وتجاربكم وكونكم أصحاب الشأن، ماذا تشيرون عليَّ؟ كم نبذل في باب الاستشارة؟ وهو أمر محمود مطلوب، لكن أليس من العقل والحكمة وحسن التعامل مع الله بعد أن نغلق باب الاستشارة مع الناس - أن نذهب إلى استشارة أكرم الأكرمين رب العالمين جل في علاه؛ ليدلنا على ما هو خير لنا؟ وقالوا: يُستشار قبل الاستخارة، فإذا استخرت فلا تستشر؛ لأنك كأنما أوكلت الأمر إلى الله ووضعته بين يدي الله.

نحتاج اليوم أن نتعلم جميعًا ونعلم أبناءنا بأن كل أمورنا بين يدي الله جل في علاه، أخبروهم بأن قضاء حوائجنا بين يدي الله جل في علاه، أخبروهم بأننا إن لم نَنَلْ عون الله، فسوف نتخبط في هذه الدنيا، فلا ذكاء ولا دهاء ولا معادلات ولا قراءة استشرافية للمستقبل - يمكن أن تخدمنا إن لم يكن معنا عون من الإله جل في علاه، أخبروهم بأن كل أمر نقدم عليه، يجب أن نلتفت إلى ارتباطه بالدين: هل يؤثر على ديننا أو لا؟ هل يؤثر على آخرتنا أو لا؟ أخبروهم بذلك قبل أن يصبح التركيز الأكبر والأكمل على أمور الدنيا، أخبروهم ألَّا نتألم على شيء فاتنا من الدنيا في ظل أننا استخرنا فيه ولم نصل إليه، أخبروهم جيدًا بأننا قد نصل إلى كل أمورنا، لكن التيسير والبركة والمضاعفة إنما هي بيد الله جل في علاه، وأخيرًا أخبروهم بأن كل القضية حسن علاقة مع الله، عودوهم هذه الكلمات، اذهبوا اليوم إلى بيوتكم، اطرحوا حديث الاستخارة بين أيديهم، تأملوا كل عبارة فيه، اجعلوه ديدنَ حياة؛ فربما نتغير أو تتغير حياتنا عندما نطيع خالقنا بشكل صحيح.



أسأل الله أن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يتولى أمورنا، ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ فإن الله أمركم في كتابه قائلًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )






د. فؤاد صدقة مرداد

شبكة الالوكة