المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فقه سنن الحضارة


المراقب العام
08-04-2020, 06:05 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



قاعدة من سنن فقه التوريث الحضاري وهي أن وجود الحضارة وضمورها يدور وجودا وعدما مع عملية التوريث، والتوريث الحضاري الفعال سبيله التربية والتنشئة الاجتماعية، والحضارات الإنسانية جوهرها ديني.

وبناء عليه فإن التوريث الديني سيكون أهم عمليات التوريث الحضاري وعليه المدار في تأهيل الإنسان للاستخلاف الحق. وندلل على هذه الدعوى من القرآن الكريم والسنة بما يجلي أن أمة الإسلام لا شهود لها ولا استخلاف إلا يوم تجعل الاختيار التربوي أس الاختيارات في مشروع الشهود الحضاري، وتجعل من التربية القرآنية أم الاختيارات التربوية.

وجملة ما أفضى إليه النظر في الآيات المتعلقة بالوراثة والإراثة هو تقسيمها إلى ما يتعلق بالوارث أولا، وبالمورَث (الإنسان) ثانيا، وبالموروث (الأشياء) ثالثا، وبالأسباب الجالبة للإراثة رابعا، فكيف ذلك؟ وما علاقة ذلك بفقه سنن الحضارة؟

أولا في الوارث:
أغلب ما ورد في القرآن الكريم من فعل “ورث” ومشتقاته الفعلية والاسمية تسند الفعل إلى الله تعالى؛ فهو الذي يرث وهو الوارث، وهو الذي يُورِث وهو المُورِث، ولا أحد يرث شيئا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإراثة الله تعالى له، ولا شيء مُورَث إلا والله تعالى هو الذي يُورِثُه؛ ومن الآيات الناطقة بهذه الحقيقة:

1 – الله  هو الوارث حقيقة وبإطلاق:
- إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُون (مريم : 40).
- وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (الحجر:23).
- ولِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (آل عمران:180، والحديد:10).
وهذه الآية نص في الباب بعمومها وقطعية دلالتها على المراد فمن كان يملك السماوات والأرض: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء (المائدة: 17)، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿(المائدة: 18)، كان هو الوارث حقا وبإطلاق ومن غير منازع ولا مدافع، وكان كل إرث إنما هو إرثه وملكه بل حتى الوارثين من دونه إنما هم خلقه ومن جملة ميراثه جل وعلا.

2 – الله تعالى هو المُورِث ما يشاء لمن يشاء.
وتظهر المُورِثات والمُورَثون في الآيات الآتية:
- الله تعالى يورث الأرض لعباده المستضعفين: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا (الأعراف:137)، إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (الأعراف: 128).
- الله تعالى يورث الكتابَ عبادَه المصطفين: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (فاطر: 32).
- الله تعالى يُورِث الجنةَ لعباده جزاء على عملهم، ويشهد له مثلا قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً (مريم: 63).

3 – إسناد فعل “ورث” وصفة “الوارث” للإنسان إسناد مجازي، إذ لا حول ولا قوة للإنسان أن يملك شيئا إلا أن يملكه الله إياه ومن ثم لا يكون وارثا إلا حين يجعله الله كذلك، ومن الشواهد على ذلك:
- قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء: 105)، فرغم أن فعل “يرث” أسند إلى عباد الله الصالحين فإنه لم يكن ذلك إلا بكَتْب الله تعالى ذلك والقضاء به “ولقد كتبنا”، فضلا عن أن الفعل ورد مسندا إلى الله تعالى في آية إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه (الأعراف: 128).
- ويدخل في نفس المعنى ما ورد التعبير فيه بلفظ جعل مثل وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (القصص:5)، فرغم أن الله تعالى نسب إليهم صفة الوراثة إلا أن ذلك مسبوق بجعل الله تعالى “ونجعلهم”، ولعلم الأنبياء بهذه الحقيقة ورد في دعاء النبي إبراهيم : وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ بما يشعر أن الإراثة حق من حقوق الله تعالى وصفة خاصة به.
- فعل “أُورِث” ورد مبنيا للمجهول وفاعله حقيقة إنما هو الله تعالى؛ نحو:
وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ (الشورى: 14) دليله الآية السابقة في إسناد فعل إراثة الكتاب لله جل وعلا ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ .
وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فالفعل المبني للمجهول فاعله معلوم هو الله تعالى بدليل قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّا (مريم: 63).

ثانيا خلاصات ومستفادات:
من الآيات السابقة يمكن استفادة ما يلي:
أن الله تعالى هو الوارث الحقيقي لكل شيء لأنه هو الخالق الرازق مالك الملك.
لا شيء مورَث (أرض – كتاب – جنة)، ولا عبد مورَث إلا بعلم الله تعالى وإذنه وعدله وحكمته.
مفهوم الإراثة لا يقتصر -ولا ينبغي له ذلك– على المفهوم المادي وحده ولا على الدنيوي فقط (وراثة الأرض في الدنيا) وإنما على مفاهيم دينية أيضا (وراثة الوحي)، ويمتد في الزمان ليشمل الآخرة (وراثة الجنة) وهذان النوعان هما الأساس وهما العمدة في الشهود وهما ما يميزان حضارة الإسلام.
معيار الاستحقاق للإراثة المادية والمعنوية هو تحصيل الشروط الإيمانية:
فالأرض يورثها الله تعالى لعباده الصالحين والمستضعفين (الصلاح والاستضعاف بمعناهما القرآني)، والكتاب يورثه للمصطفين الأخيار، والجنة يورثها لعباده الصالحين الأتقياء؛ بمعنى أن التمكين والإراثة الحضاريين محكومان بموازين قرآنية ربانية (الصلاح – الخيرية – التقوى …..)
إراثة الأرض ووراثتها ليست غاية في ذاتها وإنما هي مجرد وسيلة للاستخلاف الحق، الذي هو نفسه وسيلة لعبادة الله تعالى والفوز برضاه وفق ما نزل في الكتاب من توجيهات وهدايات.

اختصاص الله تعالى بالإراثة وبموازينها دليل على العناية الربانية بملكه وبالإنسان، وفيه توجيه للإنسان للأخذ بتلك الموازين والاهتداء بها في الاستخلاف والإعمار المشروع.
إذن فلا إراثة حضارية ربانية إلا إذا كان مدار التنشئة الاجتماعية والحضارية على غرس هذه الحقائق المتعلقة بالوارث الحقيقي (الله تعالى) وبالمورَث (أشياء وإنسانا) وبوظيفتهما ورسالتهما كما بينها الكتاب/ الوحي.
وهذه القاعدة هي أم القواعد الموجهة للمسلم والأمة المسلمة في حركتهما الحضارية انطلاقا واستمرارا، تدافعا وتمكينا. وكلما غابت عن الوعي وفُقِد أثرُها في الفعل فُقِدت شروط الشهود الحضاري ودالت على الأمة الدول، وصارت -كما أخبر الرسول – قصعة تتكالب عليها الأمم.

الحضارة إنجازات فكرية وعلمية وتقنية وأخلاقية وقانونية فنية… لأمة من الأمم على مدى زماني ومكاني واسعين لا يسهم فيه أبناء جيل واحد في مرحلة واحدة فقط وإنما تسهم فيه الأجيال المتعاقبة أنواعا من الإسهام تفضي في مجموعها إلى إغناء الحضارة.
والحضارة لا توصف بوصف الحضارة إلا بهذه الصفات؛

1 – الاشتراك الجماعي في منجزاتها بين أجيال الأمة.
2 – الامتداد الزماني والمكاني الواسعين.
3 – الانتقال من جيل إلى جيل.
4 – التطور والتقدم بإضافة كل جيل إبداعات جديدة وتجاوزه لما لم يعد صالحا من منجزات السابقين.
5 – استمرار روح الأمة وفلسفتها باعتبار هذه الروح هي السمة الجوهرية الأصلية الثابثة التي تطبع مختلف منجزات الحضارة بطابعها وتسمها بسمتها وتمنحها حق الانتماء الحضاري، وما يهمنا في هذا المقام هو بيان قيمة الاشتراك الجماعي في المنجز الحضاري لأمة من الأمم وبيان كيفية انتقاله وتطوره لبيان قيمته في منظومة السنن الحضارية.
لذا فالحضارة كبقية الممتلكات المادية إرث للأمة يُورَث ويُوَرَّث؛ فهو أحيانا ينتقل انتقالا اجتماعيا طبيعيا وأحيانا أخرى لا بد من تدخل الإنسان الواعي والقاصد لتنظيم عملية نقل عناصر الحضارة وتعليمها إلى الأجيال تعليما يورثها توريثا قاصدا ومنظما وبانيا، ويصبغ الأجيال اللاحقة بخصائصها. فكما تنقتل الصفات الوراثية البيولوجية تنتقل الصفات الثقافية والحضارية والاجتماعية.

وإن الأمة -أي أمة- كما تورث منجزاتها المادية للأجيال المتعاقبة تورث روحها المعنوية وفلسفتها الحضارية، وإن حرص الأمم على توريث هذا الشق الثاني أشد من حرصها على الأول، وإن الأمم التي تقتصر على توريث تراث الآباء والأجداد للأبناء والأحفاد دون التراث الروحي الفكري العقدي أمة لا تدخل عالم الحضارة، وإن دخلته فبروح غيرها لا بروحها أو بروح مشوهة لا تصمد في التدافع والتداول الحضاري.
وبغير الوراثة والتوريث القاصد والواعي تضيع العناصر الأساسية في الحضارة وقد يدخل فيها وإليها ما يناقض هويتها، ولذلك فإن الأمم التي تفرط في التوريث العلمي المنظم لمقوماتها الحضارية يسرع إليها الانحراف عن الأصول ويتسلل إليها مرض التشوه في السلوك والعقول، وتفقد خصوصياتها وتميزها فتميل طوعا وكرها إلى الذبول والأفول، وتكون أكثر قابلية للغزو والمحو.

ومن هنا يصح الحديث -على غرار علم الوراثة البيولوجية- عن علم الوراثة والتوريث الحضاريين، فالأول علم طبيعي يخص طبيعة الأحياء وخصائصها الوراثية، وهذا يخص منجزات الأحياء وخصائصها الثقافية والحضارية، وهو علم يمكن أن يشمل الأفقاه الآتية:
فقه أنواع “الجينات” الحضارية: الأساسية والثانوية، الثابت منها والمتغير، الأصيل منها والهجين… حتى ينقل منها ما هو أصلح للتأثير في الانتشار في الزمان والمكان والإنسان، ولا يضاف إليها ما يناقضها ولا يعاضدها من الجينات الحضارية الأخرى فيحدث الخلل والتشوه.

فقه طرق نقل هذه الجينات نقلا علميا منظما وفق قواعد وضوابط موزونة بميزان الأصول الحضارية للأمة.
فقه مراحل النقل وسنه على غرار الزواج سنا ونوعا، فنقل عناصر الحضارة يحتاج إلى رشد الأمة وكفاءتها.
فقه ما يلزم من المؤسسات القمينة بالنهوض بأعمدة البناء الحضاري، وفقه ما يلزم لها من الخطة والعدة.

وإن عملية توريث الثقافة والحضارة لا تتم إلا عبر التربية والتعليم بمختلف أنواعهما ووسائلهما، فبهما يتمكن الإنسان من نقل عناصر الحضارة المادية والمعنوية إلى غيره سواء أكان هذا الغير أبناء أم أحفادا، أو كان أقواما آخرين من أمم وشعوب أخرى. لذلك لاحظ علماء الاجتماع والثقافة أن وظيفة التنشئة الاجتماعية الأساس ليست تأهيل الفرد للاندماج في وسطه الاجتماعي والثقافي كما يبدو في الظاهر وإنما هي إعداد الفرد والأمة الحاملين معا لمبادئ الحضارة ومقوماتها القادرين على تبليغها للآخرين وحمايتها؛ إذ قصد التنشئة الاجتماعية في نهاية المطاف إنما هو الحفاظ على المكونات الثقافية الأساس للمجتمع التي بوجودها واستمرارها يضمن المجتمع بقاءه واستمراره، وعلى قدر ترسخها في وجدان الأفراد وتصرفهم وفقها ودعوتهم إليها تكون قوة المجتمع ومناعته.

وختاما نقول إن فقه التوريث الحضاري هو الذي لا يضمن البقاء فحسب، وإنما يضمن قوة البقاء للحضارة والأمة، وإن قوة التدافع والتداول مداره على قوة التوريث الحضاري، فلا قدرة للأمة أي أمة على الوجود الحضاري بله الاستمرار من غير توريث راشد، ولا تداول ولا تدافع ممكن بدون فقه الوراثة والتوريث الحضاريين.

الطيب بن المختار الوزاني