المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رمضان وبناء شخصية الفرد


المراقب العام
05-05-2020, 08:18 PM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



يعد الإنسان مركز الكون في الإسلام، والارتقاء به مقدم على الارتقاء بالعمران، فنمو شخصيته والرفع من قدراته العقلية ومن إدراكه، وتوجيه مشاعره وترشيد إحساسه، وتحسين خلقه وعلاقاته مع نفسه وربه والكون والآخر، وتوجيه اهتماماته وميولاته وهواه، هو المطلب الأول.
فليست العبرة في كثرة الموجودات المادية والوسائل والآليات التي يستخدمها الإنسان لقضاء مآربه وتسهيل تحقيق مراده المادي، ولكن العبرة بالدرجة الأولى في تحقيق إنسانية الإنسان، وليست المدنية هي تلك التي توفر السلع والمرفهات، وتتسارع وتتسابق في إبداع وإنتاج المخترعات الجديدة وإنما المدنية الحقة هي التي توفر للإنسان السعادة والطمأنينة والاستقرار والهناء. وقد صدق الفيلسوف الفرنسي “ألكسيس كريل” في انتقاده للحضارة العصرية حيث قال: إن الحضارة العصرية لا تلائم الإنسان كإنسان… وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة… إننا قوم تعساء لأننا نتخبط أخلاقيا وعقليا… إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة ذروة النمو والتقدم هي الآخذة في الضعف والتي ستكون عودتها إلى الهمجية والوحشية أسرع من سواها…-الإنسان ذلك المجهول-
ومما يؤكد مركزية الإنسان في الإسلام، ما جاء في القرآن الكريم من عقائد وتشريعات تعرف الإنسان بمكونات شخصيته وترشده إلى إدراك حقيقة نفسه وذاته ومداركه وقواه العقلية وتبين له المهام التي خلق من أجلها في الدنيا والآخرة، والسبل الكفيلة بتحقيقها كما أرادها مبدع هذا الكون.
ويؤكد هذه الحقيقة أيضا سيرة النبي وسنته، إذ قضى ثلاثة عشر سنة في بناء شخصية الفرد المسلم ليكون قادرا على حمل أعباء الرسالة وبناء أسس الحياة الكريمة المؤسسة على القيم الإنسانية لا على القيم الحيوانية ، ولم ينتقل إلى بناء الدولة -في المرحلة المدنية- إلا بعد أن حقق ما هدف إليه في المرحلة المكية، وقد استطاع ذلك بفضل من الله تعالى وبوحي منه عز وجل وبمنهجه الشريف، حيث تمكن من صياغة ذلك الرعيل الأول الفذ، المتميز بشخصيات أفراده الفريدة والذي تمكن من بناء حضارة إنسانية تجمع بين التقدم المادي وبين القيم الإنسانية. وكان معتمد النبي -إلى جانب ما ذكر- في بناء ونمو شخصية صحابته الكرام وأفراد رعيله الأول على العبادات التي شرعها الإسلام، ومن بينها، عبادة الصوم.

فكيف يساهم الصوم في بناء شخصية الإنسان ونموها؟
إن شخصية الفرد تتشكل من عدة جوانب متكاملة فيما بينها، وتجمعها علاقة تأثير وتأثر، وقد حصر علماء النفس هذه الجوانب في ثلاثة : جانب الحس/الحركي المتعلق بالجسد، والجانب النفسي الوجداني ويتعلق بالعواطف والإحساسات والمشاعر، والجانب العقلي الذي تتعدد قواه وتتنوع مداركه لتشمل: المعرفة والإدراك، المقارنة، التطبيق، التحليل، والتعليل، والتركيب… وقد أضاف علم النفس الإسلامي جانبا رابعا وهو الجانب الروحي، وهو جانب يمكن جمعه مع الجانب النفسي، وهما معا بالإضافة إلى الجانب العقلي تشكل جوهر الإنسان ومخبره والجسد عرضه ومظهره.

1- دور الصوم في بناء ونمو الجانب النفسي/الروحي:
تشكيل ونمو الجانب النفسي/الروحي لا يتم إلا عن طريق تزكية النفس وتطهيرها من كل ما يشوبها من أدواء وأرجاس (الاضطراب- القلق- الخوف- الحسد- الكراهية…).
والتزكية لا تتم بدورها إلا بحصول أمرين :
- (التخلية) وتعني تنقية النفس وغسلها مما أصيبت به من كدر ورجس وداء، وقطع الأسباب الواصلة بينها وبين حالة المرض.
- و(التحلية) وتعني تزويد النفس وتحليتها بكل ما يضمن لها الشفاء التام من مرضها ويعالجها من وعكها ويضمن لها الاستمرار في طريق العافية.
وما فرض الله تعالى الصوم إلا لتزكية النفس وتطهير القلب والرقي به إلى درجة التقوى، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات}، وقال النبي صلى عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم: “الصيام جنة” أي وقاية لأنه يقي من المعاصي بإطفاء نارالشهوات التي تدفع إليها.
والتقوى الكاملة التي تزكي النفس وتجعلها آخذة بزمام حالها غير منقادة للهوى، يدخل فيها فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات، وربما يدخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات وترك المكروهات، وذلك أعلى درجات التقوى، ولن يحقق الصيام للصائم هذه الدرجة من التقوى حتى يكون صوما كاملا قائما على أساس الإيمان والاحتساب منزها عن القوادح الحسية والمعنوية مصحوبا باغتنام أيامه ولياليه في الذكر والقيام والإكثار من فعل الطاعات والعمل الصالح، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: “ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير”(جامع العلوم والحكم، ص 400). وهذا الأثر إنما يؤكد على أن تقوى الله التي يزكو بها القلب لا تحصل إلا بالصيام الهادي إلى هجر الحرام والعفاف عن المكروهات، وهذا يوافق قول النبي : >من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه<، وقوله: >ليس الصيام من الطعام والشراب وإنما الصيام من اللغو والرفث<.
فمن مقاصد الصوم تحرير الروح من أسر الشهوات وقيد الأهواء؛ فالروح تكاد تغبن طيلة العام على حساب رغبات الجسد وشهواته ونزواته، يأتي الصيام ليتسامى بالإنسان إلى تفضيل مرضاة الله تعالى على الميل الجبلي إلى رغبات النفس وشهواتها، وهذا جوهر التربية على الترقي في الإيمان. يقول ابن رجب الحنبلي: الصيام مجرد ترك حظوظ النفس الأصلية وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام، فإن اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله في موضع لا يطلع عليه إلا الله، كان ذلك دليلا على صحة الإيمان، فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه وامتثل أمره واجتنب نهيه خوفا من عقابه ورغبة في ثوابه، فشكر الله له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله،(روح الصيام ومعانيه؛ ص 76).
ففي التقرب إلى الله تعالى بترك شهوات النفس الأصلية بالصوم فوائد منها: كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة،وتناول هذه الشهوات مع الإسراف فيها يقسي القلب ويعميه ويحول بينه وبين أن يكون قلبا سليما حيا، بل يستدعي غفلته ويذهب برقته وربما يجلب صلابته وقسوته.
ومن فوائد ترك الشهوات الأصلية بالصيام أن ذلك يضيّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر صورة الشهوة والغضب، وهذا هو السبب في وصف النبي الصوم بأنه وجاء: >فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء<.
وإذا كانت هذه الفوائد وغيرها تجتنى بتجنب الشهوات الجبلية الحلال في حال الصيام فإن اجتناب غيرها من الشهوات المحرمة في كل الأحوال أعظم فائدة وأجل نفعا، فهو أروح للروح وأنفس للنفس.

2- دور الصيام فـــي نمو الجانب العقلي:
إن نمو هذا الجانب تعني شحذ طاقاته ومؤهلاته والرفع من قدرة قواه لتؤدي دورها المنوط بها وهو إدراك الحقائق، والتفكير والبحث عن كل ما يصلح الإنسان ويفيد في عاجله وآخره ويحقق عيشه الرغيد وسعادته الكاملة.
ويعتبر الصوم أداة فعالة في نمو طاقات العقل ومداركه وفي شحذ كفاءاته وذكاءاته، لأن بالصوم يتحكم الإنسان المؤمن في هواه المردي به إلى الخمول والكسل ، فبه يمسك عن كل ما يهواه من شهوات حلال من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ليتعلم ويتربى على كيفية التحكم في الهوى، والتحكم في هوى النفس أساس العقلانية وأساس نمو العقل الإنساني، إذ بترشيد الهوى يزاح ذلك الغطاء الذي يعمي العقل وتزال الغشاوة التي تضرب على البصيرة بسببه، ولقد حذر الله تعالى من الهوى ومن آثاره المدمرة لشخصية الإنسان، قال جل ثناؤه: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا}(الفرقان : 43- 44). وجاءت سنة رسول الله مقررة ومؤكدة لهذا التحذير الإلهي من الهوى المقوض لأركان العقل والمفسد لعمله، قال صلى عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لهواي”.
ومن جهة أخرى فإن الرفع من قدرات الإنسان العقلية، يتوقف على تدريبها وتمرينها حتى تتعود على العمل وهجر الخمول والكسل، مما يتطلب حتما تشغيلها في طلب العلم واستعمالها في اكتسابه وإدراكه، ومن الشروط الضرورية التي تساهم وتعين على شحذ مدارك العقل وتساعد الفرد على إدراك المعرفة والعلم، وعلى التفكير والتفكر والتأمل والتدبر والتحليل والتعليل، والاستخلاص والاستنتاج… قلة الأكل وترشيده، لأن البطنة تذهب الفطنة، والصوم وسيلة أساسية لتنظيم وترشيد الأكل مما يجعل منه وسيلة فعالة لاتقاد الفطنة ويقظة العقل ونشاط إدراكاته، وصدق رسول الله القائل : >ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من وعاء بطنه<.

3- دور الصوم في نمو القدرات الجسدية :
إن الصوم ليس فقط رياضة لتدريب النفس على التحرر من أسر الشهوات والعقل من قيود الهوى، بل هو أيضا رياضة جسدية تتم بالإمساك القسري عن شهوات البطن طيلة النهار في رمضان.
فالصوم حمية ربانية يستفيد منها الجسم خلال شهر كامل، إذ كل مخزوناته الزائدة والمضرة به يتم صرفها واستنفادها عن طريق حرقها بالجوع، يضاف إلى ذلك ترشيد أوقات الأكل بطريقة تنفع الجسم.
والشاهد على أن الله تعالى إنما أراد بسن عبادة الصوم صالح الإنسان وتقوية جسمه وجعله معافى من الأمراض، ما شرعه الله تعالى من تشريعات ترشد العباد إلى عدم إنهاك أجسامهم، من بينها على الخصوص : سنه تعالى الإفطار للمريض والمسافر لما في المرض والسفر من مشقة وتعب يزيدها الصوم استفحالا، ولم تقتصر الإباحة عليهما بل شملت أيضا الحائض والنفساء حفاظا على حياتهما وتعويضا لهما عما فقداه من مواد حيوية ضرورية لبناء الجسم، قال تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين}.
غير أن ما ينبغي التنبيه عليه هو أن شخصية الفرد -كما قال علماء النفس- هي نتاج اللغة التي يسمعها، والالفاظ و العبارات تبرمج عقله عليها، ولهذا حرص الدين الإسلامي على تقويم سمع المؤمن وتحسين قوله وتهذيب بصره وترشيد سلوكه، وذلك من خلال عدة تشريعات ربانية وتوجيهات نبوية بواسطة عبادات مشروعة، منها عبادة الصوم.
فالسماع المحرم من محظورات الصيام وإن كان لا يدخل في مبطلاته بالمعنى الفقهي، فعندما تصوم الأذن عن سماع الحرام فإنها تصون القلب عن تقبل كل ما يخرجه عن فطرته وينكت فيه نكتا سوداء.
فالأذن نافذة العلوم وخيـرها
أذن وعت ذكرا تلاه التالي
يا أذن لا تسمعي غير الهدى أبدا
إن استماعك للأوزار أوزار
ورمضان الكريم مناسبة مواتية لتنقية سمع المؤمن وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فالصلوات الجهرية وصلاة القيام الجماعية التي تسن فيه عبادات لها دور فعال في تربية الأذن على الذوق الرفيع، يضاف إلى ذلك ما يكثر خلاله من حلق الذكر ومجالس الفكر وقراءة القرآن، وقد أثنى الله تعالى على الذين يسمعون كلامه ويحسنون الإنصات إليه ويتأثرون به : {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}(الأعراف : 204).
أما اللسان فله أيضا عبادة خاصة في رمضان بعضها ذكر وبعضها صمت، فالصمت من معاني الصوم، كما قالت مريم عليها السلام : “إني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم إنسيا” وصومها المنذور كان صمتا وسكوتا عن الكلام، وبهذا المعنى كان أمر النبي للصائم، قال : >الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم<، فبين أن الرفت – وهو الفحش ورديء الكلام وإطلاق اللسان دون قيد وعدم صومه عن كل ذلك- مما يعطل دور الصيام عن أن يكون جنة.
وأما بالنسبة للبصر، فإن الصوم يعلم الإنسان أيضا الإمساك عن النظر الحرام لأنه مقدم لحفظ الفرج المأمور به في هذا الشهر وفي غيره وقد قال تعالى مبينا أهمية غض البصر في بناء الشخصية : {قل للمومنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمومنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}(النور : 30).
إن الشخصية المميزة التي يهدف الصيام إلى بنائها هي تلك التي تتسم بسلوكات وأخلاق تظهر صلاح الباطن ونقاء السريرة وصفاء الروح، وتتميزبايجابيتها اعتقادا وقولا وفعلا.
د. ابراهيم بن البو