المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف تعامل السلطان محمد الفاتح مع شعب القسطنطينيَّة


المراقب العام
09-05-2020, 08:37 PM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif

https://www.islamstory.com/images/upload/content/260438096%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A 7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7% D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8%A7%D8 %A7%D8%AA%D8%B9%D8%A7.png

يُسْهِب كثيرٌ من المؤرِّخين الغربيِّين في الحديث عن استباحة القسطنطينيَّة بعد فتحها، ويُسْرِفون في الحديث عن كثرة قتل العثمانيِّين لشعب القسطنطينيَّة وعن استعبادهم[1]،[2]، والحقُّ أنَّ كلامهم فيه الكثير من التناقض ممَّا يجعله غير دقيقٍ من الناحية العلميَّة، وهو خلاف الواقع الذي جرت عليه الأمور.

إنَّ مَرَدَّ هذا التصوُّر ما جاء في كتابات كريتوبولوس عن أحداث ما بعد الفتح؛ حيث ذكر أنَّ العثمانيِّين قتلوا أربعة آلاف واستعبدوا خمسين ألف مواطن[3]، وقد نقل عنه المؤرِّخون الغربيُّون هذه الأرقام، ولنا معها وقفة!

أوَّلًا: هل يُمكن تصوير قتل أربعة آلاف على أنَّه استباحةٌ بشعةٌ للمدينة؟! إنَّ الجيش البيزنطي وحده خمسة آلاف، بالإضافة إلى ألفين من الإيطاليِّين كما ذكرنا في وصف المدافعين عن المدينة، فأَلَا يُتَوَقَّع أن يقتل منهم أربعة آلاف عند اجتياح المدينة؟ إنَّ النظر لهذه الأرقام التي ذكرها كريتوبولوس يُؤكِّد أنَّ الجنود العثمانيِّين لم يقتلوا أحدًا من المدنيِّين، وإلَّا فمِنْ غير المعقول أن يتَّجهوا لقتل الأطفال والنساء كما يُصوِّر البعض ويتركوا الجنود والمقاتلين. إنَّ هذا الرقم لو كان صادقًا فهو دليلٌ واضحٌ على عدم التعرُّض لشعب القسطنطينيَّة بالقتل.

ثانيًا: إنَّ استعباد خمسين ألفًا مستحيل؛ لأنَّ سكان المدينة بكاملهم يصلون بصعوبة إلى هذا الرقم، والمدينة ظلَّت عامرةً بالسكان بعد الفتح، فكيف يُقال إنَّ أهلها جميعًا قد بِيعُوا في الأسواق؟!

وثالثًا: هل كان القتل الذي حدث عند الفتح من طرفٍ واحد؟ يذكر المؤرِّخ فيلدمان Feldman أنَّ مياه الدردنيل كانت تموج بأجساد النصارى والأتراك معًا[4]، فهذه نتيجةٌ طبيعيَّةٌ للحروب، وضحايا العثمانيِّين في الحصار يتجاوز العشرين ألفًا بلا جدال.

ثم رابعًا: ذكرت المصادر أنَّ العائلات اليونانيَّة التي غادرت المدينة قد عادت بعد ذلك للسكن فيها بعد انتهاء العمليَّات العسكريَّة[5]، فهل كانت هذه العائلات تُفكِّر في العودة إذا كانت هناك مجزرةٌ كما يقولون؟! بل أعلن الفاتح ما هو أكثر من ذلك؛ حيث دعا المهاجرين القدماء من اليونانيِّين الذين تركوا المدينة قبل أحداث الحصار لسنوات أن يعودوا -إنْ أرادوا- للمدينة، ويُشاركوا في إعمارها، فعادوا بأعدادٍ غفيرة ٍ[6]،[7]، فهل كانوا سيفعلون ذلك وهم يتوقَّعون أن يعيشوا تحت حكم برابرة همجيِّين يسفكون الدماء بهذه الصورة؟!

وخامسًا: يشهد كثيرٌ من المؤرِّخين الغربيِّين على سماحة الفاتح تجاه شعب القسطنطينيَّة عند فتحها، فتقول المؤرِّخة الأميركيَّة ماري باتريك Mary Patrick: «والواقع أنَّ السلطان محمدًا الفاتح قد أظهر تسامحًا عظيمًا مع المسيحيِّين»[8]. ويُؤكِّد المؤرِّخ الألماني هانز كيسلينج Hans Kissling" على أنَّ نصارى القسطنطينيَّة كانوا يُمارسون حياتهم بشكلٍ طبيعيٍّ بعد الفتح، وكانوا يُمارسون عبادتهم دون مساس، بل كانوا يُمارسون لغتهم مع اختلافها عن لغة الحكَّام[9]،

ويقول المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو بشكلٍ صريح: «لم يتحقَّق فتح السلطان محمد الثاني للقسطنطينيَّة بشكل التدمير أو القتل كما يدَّعي الوطنيُّون اليونانيُّون حتى اليوم في محاولاتهم لرسم الترك كقومٍ همج، ولكن على العكس اتُّبِعَت سياسة زيادة السكان وتأسيس المدينة من جديد؛ لتكون مركزًا لسلطنةٍ كبيرةٍ متعدِّدة العناصر»[10]. ويقول المؤرِّخ الإنجليزي بول كولز Paul Coles: «بسقوط القسطنطينيَّة أصبح قَدَر المسيحيَّة اليونانيَّة الأرثوذكسيَّة بأيدي العثمانيِّين، وكان تصرُّف محمد الثاني بعد الفتح مقياسًا لمدى النقلة الحضاريَّة التي حقَّقها العثمانيُّون مبتعدين عن تراثهم البدوي»[11].

بل العجيب أنَّنا نجد بعض أولئك الذين اتَّهموا الفاتح باستباحة المدينة يتناقضون مع أنفسهم ويمدحون سماحة السلطان! فالمؤرِّخ الإنجليزي فيليب مانسيل Philip Mansel" Philip Mansel يذكر أنَّ محمدًا الفاتح قد استعبد ثلاثين ألفًا من شعب القسطنطينيَّة [12]، ثم يذكر في موضعٍ آخر تسامحه مع النصارى، وإقراره للحرِّيَّة الدينيَّة، ويصفه بقوله: «كان الفاتح هو الحاكم الأكثر استنارةً في زمانه»[13]! أمَّا كراولي" الذي أسرف في وصف استباحة المدينة[14] نجده في موضعٍ آخر يقول: «لم تكن مدينة القسطنطينيَّة بالنسبة إلى الفاتح مدينةً للاستباحة؛ إنَّما كان يُريدها مركزًا لدولته، ولذلك كان حريصًا على سلامتها»[15]! وهذا التناقض الذي نراه في الكتابات لَمِنْ أكبر الأدلَّة على التخبُّط في الرؤية، واضطراب المعلومات.

إنَّ تسامح الفاتح المفرط في تعامله مع شعب القسطنطينيَّة قد جعلت البعض -كما يقول المؤرِّخ الألماني كيسلينج- يعتقد أنَّ الفاتح مسيحيٌّ من الداخل ويُظهر الإسلام! لأنَّه ليس من المفهوم في مثل هذه الحقبة التاريخيَّة أن يكون تعامل القادة مع الشعوب المنهزمة بهذه الصورة[16]! وهذا من أعجب ما قرأتُ عن هذا الفاتح الإسلامي العظيم!

وسادسًا وأخيرًا: لكي نفهم سماحة الفاتح الحقيقيَّة عند فتح القسطنطينيَّة يجب مقارنة ما فعله بما فعله الفاتحون الأخرون لنُدرك مدى نبل أخلاقه، ويكفي أن نُراجع ما وصف به المؤرِّخ الإنجليزي استيڤين رنسيمان Steven Runciman استباحة اللاتين لمدينة القسطنطينيَّة عام 1204م حيث ذكر الكثير من المآسي غير المتخيَّلة، وختم بأن قال: «إنَّ هذه الاستباحة لا يُوازيها شيءٌ في التاريخ كلِّه»[17]! وما قاله رنسيمان في حقِّ اللاتين في القسطنطينيَّة يُقال كذلك في حقِّ الحملة الصليبيَّة على القدس[18]، ويُقال -أيضًا- في حقِّ ما فعله الإسبان في الأندلس، أو في أميركا اللاتينيَّة، وما فعله الأوروبِّيُّون مع الهنود الحمر في أميركا الشماليَّة، أو ما فعله الكاثوليك في البروتستانت في باريس عام 1572م، أو ما فعله الفرنسيُّون في الجزائر ، أو ما فعله الصينيُّون في التركستان ، أو ما فعله اليابانيُّون في الصين [19]، والقائمة لا نهاية لها! وبضدِّها تَتَبَيَّن الأشياء![20].

[1] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، بيروت، لبنان دار الجيل، بيروت لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1988، 23/ 37.
[2] Feldman Ruth Tenzer The Fall of Constantinople [Book]. - Minneapolis, MN, USA : Twenty-First Century Books,, 2007, p. 100.
[3] Kritovoulos History of Mehmed the Conqueror [Book] / trans. Riggs Charles T.. - [s.l.]: Greenwood Press, Westport, Connecticut, 1954, p. 76.
[4] Feldman, 2007, p. 100.
[5] Kissling ‏ Hans [et al.] The Last Great Muslim Empires [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill,, et al., 1969, p. 22.
[6] محمد بك فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية: تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، لبنان الطبعة الأولى، 1981م، ص165.
[7] إسماعيل سرهنك: حقائق الأخبار عن دول البحار، مطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1895م، 1/ 511.
[8] ماري ملز باتريك: سلاطين بني عثمان، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1407هـ= 1986م، ص31.
[9] Kissling, et al., 1969, p. 22
[10] ستانفورد ج. شو يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية، وتقديم وتعليق: إ. د. الصفافي أحمد القطوري، دار البشير للثقافة والعلوم، مصر، الطبعة الأولى، 2015، ص 72.
[11] بول كولز: العثمانيون في أوربا، ترجمة: عبد الرحمن عبد الله الشيخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص36.
[12] فيليب مانسيل: القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم 1453-1924، ترجمة: مصطفى محمد قاسم، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (سلسلة عالم المعرفة)، الكويت، 2015، 1/ 29.
[13] فيليب مانسيل: القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم 1453-1924، 1/ 35.
[14] Crowley Roger 1453: The Holy War for Constantinople and the Clash of Islam and the West [Book]. - New York : Hyperion , 2005, p. 219.
[15] Crowley, 2005, p. 191.
[16] Kissling ‏ Hans [et al.] The Last Great Muslim Empires [Book]. - Leiden, The Netherlands : Brill,, et al., 1969, p. 22.
[17] Runciman Steven A History of the Crusades: The Kingdom of Acre and the later crusades [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press,, 1979, vol. 3, p. 123.
[18] راغب السرجاني: قصة الحروب الصليبية من البداية إلى عهد عماد الدين زنكي، شركة أقلام للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، 1434هـ= 2013م، ص148- 151.
[19] راغب السرجاني: أخلاق الحروب في السنة النبوية، شركة أقلام للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1434هـ= 2013م، ص349- 383.
[20] هذا المقال من كتاب "قصة محمد الفاتح" للدكتور راغب السرجاني .