المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف كانت الدعوة للحروب الصليبية؟


المراقب العام
12-05-2020, 07:44 PM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif

https://www.islamstory.com/images/upload/content/415104909%D9%83%D9%8A%D9%813.png


بعد أن تقدم المسلمون في البلاد التي كانت تخضع للبيزنطيين، وبعد أن بدأت الفتوحات الإسلامية تتوسع كل يوم وتضم أرضًا جديدة إلى ديار الإسلام، وبعد أن أحّس البيزنطيين بالهزيمة وخيبة الأمل وشعروا بقوة المسلمين والروح العالية التي يحملونها، آثرت الدولة البيزنطية الهدوء وانتظرت مرور موجة الاندفاع الإسلامي كي تهدأ حتى تقوم برد الفعل، فإنها مازالت تتهيب جانب الإسلام وترهب سطوته.

وبالفعل بعد أنْ توقفت الفتوحات الإسلامية، وعلى أثر ضعف المسلمين وظهور اختلافاتهم، رأت الدولة البيزنطية أنْ الجو ملائمًا لرد الفعل، وعقدتْ النية على محاربة المسلمين محاربة دينية خالصة، واستخلاص مدينة القدس منهم، لكنها تلقت هزيمة منكرة على يد السلاجقة في معركة ملاذكرد في عام 463هـ= 1071م.

لبث البيزنطيون طويلًا في انتظار الفرصة مرة أخرى للوثوب على المسلمين، وقد جاءتهم الفرصة عندما تولى البابا أوربان الثاني الكرسي البابوي في سنة 480هـ= 1088م، وكان أوربان الثاني هذا ذا طموح كبير، وأحلام واسعة بأن يكون هو الزعيم الأكبر والأوحد للمسيحيين جميعًا في العالم، إضافة إلى ذلك نشبت الصراعات الداخلية بين السلاجقة بعد موت السلطان ملكشاه في عام 485هـ= 1092م مما انعكس سلبًا على الدولة السلجوقية بصفة خاصة وعلى المسلمين بصفة عامة.

استغل الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين حماسة البابا أوربان الثاني وطموحه الكبير، مستفيدًا من الصراعات التي نشبت بين أبناء البيت السلجوقي، وأرسل إلى البابا في سنة 487هـ= 1095م يطلب منه المساعدة لحرب المسلمين، فوجد البابا أوربان الثاني أنه لو استجاب لطلب الإمبراطور البيزنطي، فسوف يحقِّق عدة أهداف أهمها أنه سيعيد إبراز دور الكنيسة في حياة الأوربيين، كما سيتحسن وضع البابا دينيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، بالإضافة إلى أن الثروات التي ستأتي من أرض المسلمين، ستحل المشاكل الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها أوربا.

ومن هنا فإن البابا أوربان الثاني تحمَّس كثيرًا للطلب الذي طلبه الإمبراطور البيزنطي، ودعا إلى عقد مؤتمر لرجال الدين في مدينة كليرمون الفرنسية، بين 1- 10 ذو الحجة عام 489هـ= 18- 28 نوفمبر 1095م، وعُقد المؤتمر في الموعد المحدد ودارت المناقشات حول الأمور الكنسية، وقبل اختتام المؤتمر بيوم واحد ألقى البابا خطبة شهيرة مُحَفِّزًا أوروبا كلها على الحروب الصليبية واحتلال بيت المقدس.

ولعل هذه الخطبة كانت أشد الخطب في التاريخ وقعًا، بل يقولون: إنَّها أقوى وأهمُّ خطبة في أوروبا في القرون الوسطى، فقد كانت سببًا في بدء الحروب الصليبية على المسلمين، فالخطبة، وما سبقها من إعداد، وما تلاها من جهد، كل ذلك أدى إلى نجاحها.

كان كثير من الباباوات قبل ذلك قد فكَّر في غزو بيت المقدس، لكن البابا أوربان الثاني هو الوحيد الذي اختار التوقيت المناسب، وقام بعملية حشد واسعة النطاق، فدعا الملوك والأمراء والقساوسة من كل أوروبا لحضور اجتماع مهيب يُلْقِي فيه خطبة يدفعهم فيها للحرب، ولم يكن اختيار البابا مدينة كليرمون الفرنسية مكانًا لخطبته من قبيل المصادفة، إذ كانت تلك البقعة الأوربية قد اكتسحتها جموع المسلمين الزاحفة من اسبانيا، ولذلك كان سكانها أشد استجابة لدعوة البابا لمحاربة المسلمين، بالإضافة إلى ذلك أنْ البابا كان في الأصل فرنسي، وسيلقي الخطبة بالفرنسية، وسيحرِّك في الحضور فرنسيتهم.

خطب البابا أوربان الثاني خطبة طويلة بحماسة، فاستفاض في وصف ظلم المسلمين للحجاج المسيحيين في بيت المقدس والحيلولة دون وصولهم إلى مبتغاهم، وبكى على أحوال النصارى في الشرق، وكان من المؤثرات التي استخدمها البابا في خطبته أنه لا يتكلم في هذه الخطبة نيابة عن نفسه، وإنما يتكلم نيابة عن المسيح نفسه، ثم وعد الخارجين للحرب بالغفران، وأسقط ديون الكنيسة عنهم، وأعفاهم من ضرائب الأرض، وأسقط الأحكام عن المجرمين الذين يشاركون في الحملة، ووعد الجميع بالمال والثروة، ووعد الملوك بالإقطاعيات في الشام، ثم أعلن أنه على كل من قرَّر الخروج إلى هذه الحملة أن يحيك صليبًا من قماش أحمر ليضعه على كتفه إشارةً إلى دينيَّة الحملة، ونبل المقصد، ثم حدَّد شهر أغسطس عام 1096م موعدًا لاجتماع الجيوش والفرق من شتى البلدان، وأخيرًا هدَّد بأن كل من يقرِّر المشاركة ويحمل شارة الصليب ثم يتخلف عن الخروج فإنه سيعاقب بعقوبة الحرمان من الجنَّة.

تفاعل الحضور بحماسة زائدة، وألقى الأمراء أنفسهم سجودًا على قدمي البابا، وتبرَّعوا بأموال طائلة، وأطلق الجميع صيحة: "الرب يريدها"، ولم يكتف البابا بهذه الحماسة في المؤتمر، إنما أتبع ذلك بخطة تضمن استمرارية الحماسة، حيث تجول بنفسه في مدن كثيرة وقرى عديدة في أوروبا يُحَفِّز الناس، كما حرص على وجود الغطاء الكنسيّ فتواصل مع كل المجامع الدينية وأرسل رجاله إلى الكنائس الفرعية، والتقى مع الأمراء في بلادهم، وقد قام الراهب بطرس الناسك بدور كبير في تحميس الناس وجمع المقاتلين، فكانوا يتبعونه بالعشرات والمئات والآلاف، وساعد جمع الناس في هذه المهمة انتشار الفقر في ذلك العام واجتياح السيول المدمرة عدة مناطق من أوربا.

كانت النتيجة هائلة، فقد تجمَّع له أكثر من مليون إنسان، حتى خرج النساء والأطفال، وخرج عدد من الملوك بأنفسهم، وكان المكان المختار للتجمع الجيوش هو مدينة القسطنطينية لأنها آخر محطة تقريبًا قبل دخول الأراضي الإسلامية في آسيا الصغرى، حيث كان من المخطط أن يحارب الصليبيون سلاجقة الروم هناك ثم بعد ذلك يستكملوا محاربتهم في الشام، وذلك قبل الانتقال إلى فلسطين، وخاصةً بيت المقدس، فكانت الحملة الصليبية الأولى، والتي حقَّقت نجاحًا منقطع النظير، حيث أسَّس الصليبيون أربع إمارات في الشام، وسيطروا على بيت المقدس، وهزموا المسلمين في أكثر من موضع، ثم تبعها سبع حملات أخرى استمرت على مدى قرنين من الزمان جعلت خلالها الديار الإسلامية خرابًا يبابًا [1].


[1] دكتور راغب السرجاني: قصة الحروب الصليبية، 1/ 49- 67، ومحمود شاكر: التاريخ الإسلامي، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1421هـ= 2000م، 6/ 31- 34، وأحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السابعة، 1986، 5/ 793- 805، وانظر: وِل ديورَانت: قصة الحضارة، تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين، دار الجيل، بيروت، لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1408هـ= 1988م، 15/ 14- 19.