المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاعتكاف في مصليات البيوت ..........


نبيل القيسي
17-05-2020, 06:25 AM
قُرب دخول العشر الأواخر من رمضان، وحيث إن المساجد مغلقة بسبب وباء كورونا، كَثُرَ السؤال عن حكم الاعتكاف في مصليات البيوت، وقبل الإجابة على هذا السؤال أُذَكِّر بأنَّ النصوص الشرعية دلت على أنَّ من داوم على عمل صالح، وانقطع عنه بغير اختياره - كالانقطاع عن الجُمَع، وعن الجماعة في المساجد، والمشي إليها، والعمرة في رمضان، والاعتكاف فيه، وغير ذلك - فله أجر العامل سواء بسواء؛ فعن أبي موسى رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد، أو سافر، كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا»؛ رواه البخاري (2996)، ويقاس على المرض والسفر سائر الأعذار، والله أعلم.



وكذلك من وجدتْ منه إرادة جازمة وبذل وسعه، ولم يتمكَّن من العمل، فله أجر العامل؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: «إنَّ بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم»، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر»؛ رواه البخاري (4423).



وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه»؛ رواه مسلم (1909).



قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/ 731): المريد إرادة جازمة مع فعل المقدور، هو بمنزلة العامل الكامل.



والأمر لا يتعلَّق بفعل الخير، فكذلك فعل الشر، فمن عزم عليه وفعل وسعه، فعليه إثم الفاعل؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار»، فقلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنَّه كان حريصًا على قتل صاحبه»؛ رواه البخاري (31) ومسلم (2888).



أمَّا ما يتعلق بالاعتكاف في مصليات البيوت، فأهل العلم يشترطون لصحة الاعتكاف أن يكون في مسجد، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّه إجماع الصحابة رضي الله عنهم[1]، ثم اشتَهر جوازه في مصلى البيت عن بعض المالكية وبعض الشافعية؛ قال ابن رجب في الفتح (3/ 170): روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه سُئل عن اعتكاف المرأة في مسجد بيتها؟ فقال: «بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة»؛ خرَّجه حرب الكرماني، وجوَّد ابن مفلح إسناده في الفروع (3/ 156)، ولم أقِف عليه، فإذا لم يشرع للمرأة الاعتكاف في البيت، فالرجل أولى، والله أعلم.



ورواه البيهقي (4/ 316) بإسناده من طريق آخر عن يحيى بن عبدالحميد حدثنا شريك عن ليث عن يحيى بن أبي كثير عن علي الأزدي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «إنَّ أبغض الأمور إلى الله البدع، وإنَّ من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدُّور»، وإسناده ضعيف[2].



والذي يظهر لي أنَّه لا يصح الاعتكاف في البيت حتى في هذه النازلة التي أغلقت فيها المساجد، فمكان الاعتكاف يوقف فيه على ما ورد فيه النص، ومن عادته الاعتكاف في العشر، أو وجدت منه إرادة جازمة الاعتكاف هذا العام، فله أجر المعتكف، والله أعلم.



ولا بأس أن يتَّخذ الرجل حال الحاجة مصلى في بيته للصلاة والذكر؛ فعن عتبان بن مالك رضي الله عنه أنَّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي مسجدهم، فأصلي بهم، ووددت يا رسول الله أنَّك تأتيني فتُصلي في بيتي، فأتخذه مصلى، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سأفعل إن شاء الله»، قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟»، قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبَّر، فقمنا فصفَّنا فصلى ركعتين، ثم سلَّم"[3].



وبوَّب البخاري على الحديث: باب المساجد في البيوت، لكن المصلى لا يُعطَى أحكام المسجد من الحرمة، وما يُشرع له؛ كتحية المسجد، وصحة الاعتكاف، والله أعلم.


[1] انظر:شرح كتاب الصيام من عمدة الفقه (2/ 728).

[2] يحيى بن عبدالحميد الحِمَّاني حافظ إلا أنَّهم اتَّهموه بسرقة الحديث، والقاضي شريك بن عبدالله صدوق يُخطئ كثيرًا، وليث بن أبي سليم صدوق اختلط جدًّا، ولم يتميز حديثه فترك، ويحيى بن أبى كثير مدلس، وعلي بن عبدالله الأزدي صدوق ربما أخطأَ.

تنبيه: رواية حرب من غير الطريق السابق؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح كتاب الصيام من العمدة (2/ 744): روى قتادة عن أبي حسان وجابر بن زيد أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد نفسها في بيتها؟ فقال: «بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله تعالى البدع، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة»؛ رواه حرب، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وأبو حسان الأعرج ثقتان، ورواية قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنه في الصحيحين، وروايته عن أبي حسان عن ابن عباس رضي الله عنه في مسلم، فيبقى النظر فيما أُبهم من السند.

[3] رواه البخاري (425)، ومسلم (263).