المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخلاق الرفق عند النبي


المراقب العام
28-06-2020, 05:55 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



عن عائشة أن النبي قال:«ياعائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه». صحيح مسلم.

إن الحديث الذي بين أيدينا يؤسس لمنهج إسلامي قويم، يعتمد على التيسير ورفع الحرج، وذلك بالحث على الأخذ بخلق الرفق في كل مجالات الحياة؛ لأن الله رفيق يحب أن يرفق بعباده. وسأقسم الكلام عن خلق الرفق عبر محورين: الأول يخص كيف نمارس تديننا بلين ورفق؟ والثاني: يتناول كيفية توظيف الرسول لخلق الرفق أثناء تبليغ الدعوة الإسلامية. وسأبدأ بالكلام عن الرفق في الدين، باعتباره مصدر السلوك القويم.

أولا: التدين بين الرفق والتشدد
إن من أهم مخاطر التشدد في ممارسة الشعائر الدينية:
1 – الانقطاع عن العبادات:
إن ممارسة الشعائر الدينية بالاعتماد على الحماس أو التشدد لن ينفع، ولن يحقق صاحبه أي نتيجة إيجابية، بل سيضيق على نفسه ما وسع الله تعالى عليه، وسيؤدي الأمر إلى نتائج عكسية فتسأم نفسه ولن يستمر على الالتزام بالواجبات الشرعية. فالمداومة على الطاعات من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية؛ لأن النفس تستقيم وتنضبط بالمواظبة على ذكر الله جل وعلا وعبادته.
وقد أعلن الرسول ، الحرب على المتشدد في الدين والمتنطع فيه في مناسبات كثيرة، وبين أن التدين الصحيح هو الذي بني على التيسير وقصد به الدوام والاستمرار، قال : «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (صحيح البخاري).
إن المتأمل في هذا الحديث يدرك أن دين الله ميسر وسهل عند ممارسته، وأن المتشدد فيه سينهزم لا محالة، وسيقصر في العمل به في يوم من الأيام؛ لأن النفس ستمل من التضييق عليها. وأن الاستعانة على مداومة العبادة يكون بإيقاعها في الأوقات المنشطة، كأول النهار، وبعد الزوال، وآخر الليل. وقد قال : «يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل» (صحيح البخاري).
التدين بشكل مستمر وإن قل، أحب إلى الله من التشدد الذي يعقبه انقطاع، لما فيه من تكليف للنفس فوق طاقتها، وهذا ما جاءت الشريعة الإسلامية لتحاربه؛ إذ الهدف الذي بعث من أجله الرسول ، هو حمل الناس على المداومة على عبادة الله، وتفادي الانقطاع عنها والعزوف عن ممارستها.

2 – اعتبار التعبد عملا بدنيا لا قلبيا:
إن من أهم مخاطر التشدد في الدين؛ أن الإنسان يركز في عبادته وطاعته على الكم وليس الكيف، فقد يصلي ركعات متعددة، أو يصوم أياما طويلة، لكن دون أن تشعر النفس بحلاوة تلك العبادة، فتتحول ممارسة الشعائر الدينية عند المتشدد إلى عمل وظيفي جسمي قد يخلو من الغذاء الروحي؛ ولهذا كثيرا ما تظهر على المتشدد سلوكات تنفر الناس منه؛ فالغاية الكبرى من وراء التدين، تغذية الروح وتشربها لمعاني الاستقامة والخير، وذلك لن يتحقق إذا لم تفهم العقول ولم تتذوق القلوب معنى العبودية المبثوثة في السجود والركوع، وفي الوقوف بين يدي الجليل المتعال، قال رسول :” إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ” مسند أحمد.

3 – نشر الفتنة بين الناس:
إن التشدد في الدين يخالف المقصد الأسمى من تنزيله؛ ألا وهو جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفهم؛ وقد نهى الرسول ، عن إطالة الصلاة بالناس حتى لا يفتنون في دينهم، ويحملون فوق طاقتهم فينفرون من صلاة الجماعة التي فيها للناس منافع كثيرة؛ كالتعارف، والتعاون، والتناصح، قال جابر بن عبد الله: “أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل، فوافق معاذًا يُصلي فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل وبَلَغَه أن معاذًا نال منه، فأتى النبي فَشَكَا إليه معاذًا، فقال النبي : «يا معاذ، أفتان أنت أو فاتن -ثلاث مرات- فلولا صليت بـسبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة»
(صحيح البخاري).
حري بكل إمام أن يضع هذا الحديث نصب عينيه، رفقا بنفسه، وتخفيفا على المصلين، فكثيرا ما نسمع عن صراعات ونزعات داخل المسجد سببها تطويل الصلاة كثيرا، أو تخفيفها كثيرا، وخير الأمور أوسطها، خاصة في هذا العصر الذي بدأت المساجد تفرغ من المصلين، ولا سيما الشباب منهم، فمن أجل تحبيب صلاة الجماعة للشباب وتحفيزهم على الدخول إلى المسجد، يجب أن نراعي واقعهم الذي كثرت فيه الفتن والملاهي، التي تبعدهم عن عمارة بيت الله ، وممارسة شعائره.
إننا الآن أمام تحد كبير وخطير؛ حيث يوجد من يحارب الدين الإسلامي بتشويهه وربط كل مشاكل العالم به، وتخويف الشباب من التدين والتردد على المساجد عبر اتهامه بالتطرف، وفي المقابل يوجد أيضا من يحمل الناس فوق طاقتهم فيضيق عليهم دائرة التدين، مما يجعل شبابنا ينظر إلى الدين وكأنه عبارة عن سجن يمنع كل شيء، ويتشدد في كل شيء حتى الأكل واللباس… فيفر من الدين دون أن يعرفه، أو يتذوق معانيه الحقيقية، وهذا أمر خطير يهدد الأمن النفسي لأبنائنا، ويهدد مصير هويتنا، وركائز حضارتنا.

إن من أهم منافع الرفق في الدين:
1 – تربية النفس على القيام بالواجبات الدينية:
باعتماد الرسول على أسلوب الرفق في التربية حبب للصحابة الإقبال على الصلاة في المسجد، وحبب إليهم ممارسة شعائرهم الدينية كلها؛ لأن التربية النبوية كانت واضحة في أمور الطاعات، لا إفراط ولا تفريط؛ فكان يخفف الصلاة لسماع الصبي يبكي، ويراعي حنان أمه وشفقتها عليه حتى لا تنشغل ببكاء ابنها وتذهل عن الصلاة التي تتطلب حضور القلب، فقال النبي : «إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي؛ فأخفف من شدة وجد أمه به» (صحيح مسلم). فما أحوجنا إلى هذا المنهج في بيوتنا ومساجدنا التي بدأت تفرغ من خلق الرفق حتى بين المصلين.
إن التدين تربية للنفس باستمرار، ويجب أن تكون قائمة على التدرج ومراعاة حال الإنسان من مرض وصحة، وحزن وسعادة، فكلما وجد المسلم نفسه يبعد عن حب الله وطريقه المستقيم، يهرع إلى طاعته بالصلاة والصوم مع المداومة والتخفيف، حتى يتعلم الانضباط على القيام بالواجبات، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم» (متفق عليه). وقد نهى عن الوصال في الصيام؛ لأنه قد يؤدي إلى التفريط في جانب أخر من جوانب الدين، وقال للنفر الذي قلل من طاعة الرسول : «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (صحيح البخاري). بهذا نفهم أن التشدد في الدين تكليف على النفس، وخروج عن سنة الرسول .

2 – تطهير النفس من الرياء والغرور:
إن الغاية التي كان الرسول يتوخاها من خلال تربيتنا على خلق الرفق في ممارسة الدين، هي إبعاد المسلم عن مظنة الرياء والإعجاب بالنفس، فيظن ذلك المتشدد أنه مكثر، ويؤدي أكثر مما يجب عليه من الطاعات، فتوسوس له نفسه الأمارة بالسوء أنه أفضل من غيره، وأنه يجب أن يحترم من طرف المجتمع، ويعامل معاملة خاصة، ويعطى مكانة أفضل من باقي الناس، وقد يتشاجر مع المصلين إن سبقوه إلى الصف الأول، وينظر إلى غيره ممن يمارسون الشعائر الدينية بازدراء واحتقار، ويقلل من شانهم غرورا منه وتكبرا، ويجهز بذلك على كل أعماله فتبطل بسبب الرياء.

3 – تحقيق التوازن بين الواجب الديني والالتزام الدنيوي:
وسأكتفي هنا بما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أنه قال: كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة، قال: فإما ذكرت للنبي ، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي: «ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟» فقلت: بلى، يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير، قال: «فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام» قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال «فإن لزوجك عليك حقا، ولزورك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا» قال: «فصم صوم داود نبي الله ، فإنه كان أعبد الناس» قال قلت: يا نبي الله، وما صوم داود؟ قال: «كان يصوم يوما ويفطر يوما» قال: «واقرأ القرآن في كل شهر» قال قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كل عشرين» قال قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كل عشر» قال قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقا، ولزورك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا» قال: فشددت، فشدد علي. قال: وقال لي النبي : «إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر» قال: «فصرت إلى الذي قال لي النبي ، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله » (صحيح مسلم). فخلق الرفق يحقق مبدأ الموازنة بين الحقوق والواجبات.
د.محمد البخاري