المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تزيين الأعمال في القرآن الكريم


المراقب العام
20-07-2020, 06:17 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



التزيين في اللغة:
قال ابن فارس: (زَيَنَ) الزَّاءُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الشَّيْءِ وَتَحْسِينِهِ. فَالزَّيْنُ نَقِيضُ الشَّيْنِ. يُقَالُ زَيَّنْتُ الشَّيْءَ تَزْيِينًا.(1)

في القرآن الكريم:
وردت هذه المادة باشتقاقاتها وتصريفاتها في القرآن الكريم في نحو خمسة وأربعين موضعا. إلا أن تنَاوُلَنَا سَيَقْتَصِرُ على ما يتعلق بالتزيين المعنوي، وبالخصوص ما اقترنت فيه التزيين بالأعمال أو ما يمكن تسميته بضميمة «تزيين االأعمال»(2) أما ما يتعلق بالتزيين الحسي من قبيل حديث ربنا عن السماء بقوله جل من قائل: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} (الحجر: 16)، أو الزينة من قبيل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ }(الأَعراف:31) وما أشبهه فليس يدخل في موضوعنا.

وعليه يمكن تصنيف الآيات المشتملة على الضميمة إلى ثلاثة أصناف:

صنف أسند فيه فعل التزيين إلى الله تعالى؛ وذلك في موضعين:

قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأَنعام: 108).
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}(النمل: 4 – 5).
قال الطبري بمناسبة الآية الأولى: (كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بخذلاننا إياهم عن طاعة الرحمن، كذلك زينا لكلّ جماعة اجتمعت على عمل من الأعمال من طاعة الله ومعصيته عملهم الذي هم عليه مجتمعون، ثم مرجعهم بعد ذلك ومصيرهم إلى ربهم فينبئهم بما كانوا يعملون، يقول: فيوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا، ثم يجازيهم بها إن كان خيراً فخير وإن كان شرّاً فشرّ، أو يعفو بفضله عمَّا لم يكن شركاً أو كفراً) (3).
وقد خاض كثير من المفسرين خاصة أصحاب الفرق الكلامية في تأويل هذه الآية بما عرف عنهم في قضية الجبر والاختيار وأفعال العباد وما إلى ذلك، وكاد الأمر يؤول في النهاية إلى تساؤل من تساؤلاتهم التقليدية: كيف يزين الله تعالى أعمالا ثم يعاقب عليها؟.
والجواب عن ذلك وتوجيه أن يُقَال: إن (هذا التزيين منه سبحانه حسن، إذ هو ابتلاء واختبار للعبد ليتميز المطيع منهم من العاصي، والمؤمن من الكافر، كما قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(الكهف: 7) وهو من الشيطان قبيح.
وأيضا: فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه السيئ من الحسن، فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينه سبحانه له وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا. وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه.
فربما رآه حسنا عقوبة له، فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه، وهو حجة الله عليه فإذا تمادى في غيه وظلمه ذهب ذلك النور، فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم، ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة، وبالتعريف الأول .
فتزيين الرب تعالى عدل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء وظلم وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبه وبغضه، وإعراضه، والرب سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته، ولو شاء لهدى خلقه أجمعين، والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذله الله، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)(4).
وبهذا يتوجه المقال في هذه القضية، ويقطع دابر الخلاف، وينفى كل ما لا يليق بالله جل جلاله. وقد غصت آيات الله تعالى بالمعاني الدالة على عدل الله تعالى وحكمته؛ كقوله تعالى في المهتدين: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد: 17)، وفي السائرين في طريق الهداية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ( العنْكبوت 69) وفي المعرضين { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ}(الصَّف: 5)

صنف أسند فيه التزيين إلى الشيطان؛ وذلك في خمسة مواضع؛ منها:
قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأَنعام: 42 – 43)
وقول الله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(الأَنْفال 48).
قال الطبري: (وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ يقول: وحسن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الأعمال التي يكرهها الله ويسخطها منهم)(5).
فتزيين الشيطان يكون بتقبيح الطاعات والتحريض على عدم الانقياد والاتباع للمعروف، وإغوائهم بالتصميم على المخالفات والاستمرار على المعاصي، وتحسين ذلك لهم في نفوسهم حتى يعجبوا به، فيصير محبوبا مشتهى حسنا مستمرءاَ وإن لم يكن كذلك بفعل الوسوسة والنزغ والإغراء، والقعود لهم كل مرصد، وتسليط الأعوان، والإجلاب عليهم بخيله ورجله دون كلل ولا ملل حتى يصدهم عن سبل الحق والخير كما قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}(النمل: 24). ولا يقنع الشيطان من الإنسان بهذه الدركة التي أوصله إليها حتى حتى يجعله وليا له كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {تَالله لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النحل: 63)، ومن كان وليا للشيطان فقدْ فَقَدَ وَلاية الله تعالى وذلك عين الهلاك في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

صنف جاء فيه فعل التزيين مجهولا لم يسم فاعله؛ وذلك في سبعة مواضع؛ منها قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام:122).
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}(غافر 37). {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}(فاطر: 8).
اختلف المفسرون في نسبة التزيين في هذه الآيات؛ بل الاختلاف واقع في الآية الواحدة. فبالنسبة للآية الأولى ذكر الطبري أن التزيين الواقع فيها هو من الله تعالى(6)، وفي ‘معالم التنزيل: (قال ابن عباس: يريد زين لهم الشيطان عبادة الأصنام) (7). وعند الزمخشري: {زُيّنَ للكافرين} (أي زينه الشيطان، أو الله عزّ وعلا) (8).
وعلى أي؛ فالتزيين من الله تعالى يكون خذلانا لهم على عنادهم وعتوهم ومجانبتهم الحق وإعراضهم عن قصد السبيل، ومن الشيطان للهوى الذي سكن انفسهم وقابليتهم لأزه ونفثه ونزغه.
وصيغة البناء للمفعول في هذا الصنف تجعل الفاعل للتزيين غير واحد وغير جهة وغير وسيلة… فقد يكون الله تعالى، أو الشياطين المردة، أو شياطين الإنس، أو مؤسسة أو هيئة أو… خاصة في عصرنا هذا؛ عصر التفنن في قلب الحقائق وإخراج السئ في صورة حسنة، والحسن في صورة سيئة، وتزيين القبيح وتقبيح المليح؛ بما توفر من وسائل التغيير والتزوير والتحريف والتزويق والزخرفة والإخراج عن طريق التصوير والتمثيل والإعلام بجميع أنواعه ووسائله.
د. خالد العمراني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – معجم مقاييس اللغة: زين.
(2) – وسبب هذا التخصيص أن المقالة مندرجة في إطار دراسة لمفهوم العمل في القرآن الكريم الذي سبقت فيه مقالات نشرت بهذه الجريدة الغراء.
(3) – جامع البيان للطبري. ن الجامع التاريخي بمناسبة قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ}(الأَنعام:108).
(4) – التفسير القيم لابن قيم الجوزية (ت 751هـ ). ن الجامع التاريخي بمناسبة قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ}( الأَنعام 108).
(5) – جامع البيان للطبري. ن الجامع التاريخي بمناسبة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ….}(الأَنعام 42 – 43).
(6) – جامع البيان للطبري. ن الجامع التاريخي بمناسبة قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ..} (الأنعام: 122).
(7) – معالم التنزيل للحسين بن مسعود البغوي، ن الجامع التاريخي بمناسبة نفس الآية.
(8) – الكشاف عن حقائق التأويل لأبي القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري. ن الجامع التاريخي بمناسبة نفس الآية.