المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خواطر قرآنية (سورة السجدة) - الحلقة الثامنة


نبيل القيسي
23-07-2020, 11:39 AM
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد: بعد أن خلق الله سبحانه أبونا آدم من طين، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} [السجدة من الآية:8]​ أي ولده الذي يستخرج وينسل منه، من منيه ونطفته بأمر الله، سُميتْ بذلك لأنَّها تنسلُ وتنفصلُ منه {مِن سُلَالَةٍ} ​[السجدة من الآية:8]​ أي شيء مسلول منتزع منه، {مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ} [السجدة من الآية:8]​ أي حقير ذليل ضعيف قليل ممتهن مسترذل مستقذر مراق مبذول. السلالة: الخلاصة وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية وهي أجود ما فيه، وهو الشيء الذي يستخرج من شيء، وتطلق على المائع السائل ليس الجامد، فإذا وضعته بيدك انسل من بين أصابعك. المسألة دقة تكوين وعظمة خالق، ففي هذه الذرة البسيطة خصائص إنسان كامل، فهي تحمل: لونه، وجنسه، وصفاته. . الخ. النبات ينسل أي يخرج من الأرض، وقد بين الله سبحانه أن الناس يخرجون من الأرض يوم القيامة كما يخرج النبات، بقوله سبحانه {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51]. يطلق على الإنسان بأنه سليل، وهو بمعنى مسلول المأخوذ والخارج من مكان خرج منه خروجًا رقيقًا. والمهين: الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به. والغرض من إجراء هذا الوصف عليه الاعتبار بنظام التكوين إذ جعل الله تكوين هذا الجنس المكتمل التركيب العجيب الآثار من نوع ماء مهراق لا يعبأ به ولا يصان. خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، من هذا المني الحقير، يخرج منسابًا من ظهره بأمر الله. سميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سلالة كما في الآية، لأنها تنفصل عن الرجل، فقوله من ماء مهين بيان لسلالة. ومن بيانية فالسلالة هي الماء المهين، هذا هو الظاهر لمتعارف الناس ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكون الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضله، فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين، فتكون من في قوله من ماء مهين للتبعيض أو للابتداء. كم هي نعمة عظيمة، إذ نقلنا الله من الذلة والخسة والمهانة والقذارة، إلى الرفعة والكرامة! أخبرنا الله بحقيقة أصلنا من العدم، ثم بداية خلقنا من نطفة لا قيمة لها، حتى نتيقن أن الله وحده العزيز الجبار ذي الجبروت، ولا يليق الكبرياء إلا به، فعلام تتكبر يا ابن آدم؟! يقول ربنا في الحديث القدسي: «إنَّ اللهَ تعالى يقولُ: إنَّ العزَّ إزاري، والكبرياءَ ردائي، فمَن نازعَني فيهِما عذَّبْتُهُ» [صحيح الجامع:1908]. يقول ابن تيمية: "فالعظمة والكبرياء من خصائص الرُّبوبيَّة، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرِّداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار". يقول عليه الصلاة والسلام: «لا يدخلُ الجنَّةَ من كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ» [صحيح الترمذي:1999]. يا ابن آدم: بعد أن عرفت حقيقتك ومادتك، هل ستُصر متكبرًا وتستمر في عُجُبك؟! أما يكفيك ظلم وطغيان وتجبر وتعدي على الآخرين وأكل حقوقهم؟!! قال تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ . ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ . ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} قَالَ الْأَحْنَفُ: عَ"جِبْت لِمَنْ جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ". عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير أنّه رأى المهلّب وهو يتبختر في جبّة خزّ فقال: "يا عبد الله، هذه مشية يبغضها الله ورسوله"، فقال له المهلّب: "أما تعرفني؟"، فقال: "بلى، أعرفك، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة". فمضى المهلّب وترك مشيته تلك. قال محمد بن الحسين بن علي: "ما دخل قلب امرئ شيء من الكِبْر قط، إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو كثر". ولما كان موضوع السورة الخضوع، ومادتها اليقين، وأبهى صورها السجود لله سبحانه، فهو أقصر طريق لكبح جماح الكبر والترفع والتعالي، فما أروع سياق القرآن وقوة دلالالته. قال الحسن: "السّجود يذهب بالكبر، والتّوحيد يذهب بالرّياء". لذلك تأمل آيات سورة السجدة، فيها نفع عظيم وثمرة عملية كبيرة، تدفع صاحبها لاستشعار عظمة الله وأهمية الخضوع إليه بكثرة السجود، كما قال عليه الصلاة والسلام للصحابي: «أعني على نفسك بكثرة السجود» (المحدث: الوادعي - المصدر: الشفاعة - الصفحة أو الرقم: 287). اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك. 8- رمضان-1435هـ المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام أيمن الشعبان