المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فريضة الزكاة وتأملات في الأبعاد الاجتماعية


المراقب العام
10-08-2020, 10:06 PM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



إن للزكاة مقاصد وأهدافا في تربية المسلم وتنمية وازع الخير فيه، فالزكاة تطهير من البخل، وتدريب على الإنفاق، وتخلّق بأخلاق الله الجواد الكريم، وتدريب على البذل والعطاء، وإخراج الزكاة إقرار بالشكر لله تعالى، وعلاج للقلب من حب الدنيا والافتتان بزخرفها، وهي تطهير للمال الحلال وزيادة فيه. بهذه المقاصد تنمي الزكاة في الإنسان قيمة التدين السليم. وإذا كانت الزكاة تحقق هذه المقاصد، فإن لها أهدافا كبرى ومقاصد عليا في تحصين المجتمع الإسلامي وضمان تماسكه، ولن يتحقق هذا التماسك الاجتماعي إلا إذا استشعر المسلم هذا الإحساس بالانتماء للجماعة، واستوعب ما تحدثه الزكاة من أثر روحي في النفس.
إن إخراج الزكاة إحساسٌ بقوة الصلة بالله عز وجل، وهو إحساس نابع من غاية الفرد في الحياة، وبمصيره في الآخرة، فالزكاة ترفع همم المزكين الذين يحملون همّ الفقراء والمساكين، ويحملون قبل ذلك همّ الدين، لأن الفقر قد يكون سببا في ضياع الدين، ولذلك كان النبي يتعوّذ بالله من الفقر، ويقول : «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر» (أبو داود وأحمد)، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : «كاد الفقر أن يكون كفرا» والحديث وإن كان فيه ضعف، فإن المعنى المستفاد منه هو جدلية العلاقة بين الفقر والكفر، والتعبير بفعل “كاد” الدال على المقاربة يؤكد احتمال تأثير الفقر على عقيدة الإنسان، ولذلك قال المناوي في شرح الحديث: “أي قارب أن يوقع الفقرُ في الكفر… وإن لم يكن كفرا فهو جارٌّ إليه، ولذلك استعاذ المصطفى من الفقر” فيض القدير الصغير4/542، وفي حديث البخاري: “اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم……وأعوذ بك من فتنة الفقر…” (ح 6007 البخاري.الدعوات. باب التعوذ من المأثم والمغرم).
قال العيني : “وأعوذ بك من فتنة الفقر، وذلك لأن الفقر ربما يحمل صاحبه على مباشرة ما لا يليق بأهل الدين والمروءة، ويهجم على أي حرام كان ولا يبالي وربما يحمله على التلفظ بكلمات تؤدّيه إلى الكفر…” (عمدة القاري 12/5 )، ولذلك تأتي الزكاة لتحقق الكفاف للفقير، وتحفّزه على الإقبال على التمسك بالدين.
وكما أن للزكاة أهدافا قاصرة على المزكي والآخذ، فإن لها أبعادا اجتماعية لم تستطع الحضارة المعاصرة بلوغها، بالرغم من وجود نظام التأمين والضمان، ونظام التعويضات وغيرها من النظم الاجتماعية، فأي أبعاد اجتماعية تخدمها فريضة الزكاة في الدين الحنيف؟
التقليل من ظاهرة الفوارق الاجتماعية: التي تعد من أعظم المشاكل في المجتمعات العربية والإسلامية، هذه الهوة التي تتسع بين الطبقات الاجتماعية، فهذا صاحب ثراء فاحش، والآخر يعيش على الكفاف، هذا يملك القناطير المقنطرة، وذاك لا يملك قوت يومه، هذا يمتلئ بطنه إلى حد التخمة، والآخر يقاوم مرارة الجوع. هذه صورة المجتمع الإسلامي الغالبة، حين تغيب قيم العدل والإحساس بالمسؤولية، ولذلك تُسهم الزكاة في معالجة هذا الاختلال الاجتماعي، فقد حدد الشارع الحكيم مصارف تُصرف فيها الزكاة، من ضمنها مصرف الفقراء والمساكين، وذلك في قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (التوبة 60). إن الزكاة تهدف إلى تقليص الفوارق الاجتماعية، فتسد حاجات الفقراء والمساكين، وترتقي بهم إلى أن يصبحوا مالكين منتجين، وإن الوعي بدور الزكاة في محاصرة الظواهر الاجتماعية السلبية السائدة ضروري ولازم حتى لا تصبح الزكاة تُدفع للفقير كل عام ومع كل ذلك يظل فقيرا، فهذا الأمر لا يحقق أهداف الزكاة، وإنما تتحقق أهدافها في المجتمع حين تجعل من فقير هذا العام مالكا في العام المقبل، فدفْعُ الزكاة انتشالٌ للفقير من عالم الفقر وتمليكُه مالا لترويجه، وإلا لو استمر النظر إلى الزكاة باعتبارها صدقة تُدفع للفقير ليقضي بها حاجاته الأساسية، فهل يكفي هذا النصيب من الزكاة؟ ولذلك اعتاد كثير من الفقراء انتظار موسم الزكاة كل عام، فلا يشعر الفقير بأهمية الزكاة في تغيير حاله من الفقر إلى الغنى، ولا يعي المزكي أهمية الزكاة في إمكانية تغيير الحال، ولهذا كثرت ظواهر الخصاص في المجتمع الإسلامي، فباسم الفقر والحاجة تظهر طوابير من المتسولين في موسم الزكاة. ولعل من قصور النظر أن يُظنَّ أن المتسول المُحتاج، هو ذاك الذي يتجول في الطرقات يمُدّ يده إلى الناس، استثارةً لعواطفهم، في حين نجد الإسلام قبل أن يتطرق إلى حكم دفع الزكاة للمتسول، فإنه يحارب هذه الظاهرة من جذورها، بالأسلوب التربوي الذي يمنع سؤال الناس، ويريد للمسلم عزة النفس والترفع عن سؤال الآخرين، ومن ثم حث الإسلام على العمل لأنه أساس الكسب، وحرّم السؤال، وذلك في قول النبي ” لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم” (مسلم 1040). وفي رواية البخاري : «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم» (ح1405). واللافت أن الإمامين البخاري ومسلما أوردا الحديث في كتاب الزكاة، مما يؤكد أن إظهار المخمصة والفقر استدرارا لعطف الناس لا ينهض دليلا لدفع الزكاة، ومن ثم كان البحث عن العمل ضروريا، وتهييء الأسباب مطلبا شرعيا لإتاحة فرص العمل للناس حتى لا يلجأ ضعاف الإيمان إلى مدّ أيديهم للناس. إن توفير العمل المناسب لكل عاطل قادر على العمل واجب على الدولة الإسلامية قبل الحديث عن الفقر والتفكير في معالجته أو الحد من آثاره، ولذلك يعلمنا رسول الله كيف يقتل الناس ميل النفس إلى السؤال، فقد جاء أنصاري يسأل النبي ، فسأله قائلا: “أما في بيتك شيء؟” فأخبره الأنصاري بقوله : حِلْس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ. والحلس ما يوضع على ظهر البعير، والقعب إناء، فأمره النبي أن يأتيه بهما، فعرضهما في المزاد العلني، فبيعا بدرهمين، فأعطاهما الأنصاريَّ وطلب منه أن يشتري بدرهم طعاما، وبالآخر قَدوماً، وأمره أن يحتطب، وقال له :” لا أرينّك خمسة عشر يوما، فذهب واحتطب وباع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، اشترى ببعضها طعاما وببعضها ثوبا. فقال رسول الله :” هذا خير لك من أن تجيء المسألةُ نُكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلُح إلى لثلاثة: لذي فقر مدقع (الفقر الشديد)، أو لذي غُرْم مُفظع (الدية الكبيرة)، أو لذي دم موجع، أي تحمُّل الدية. (أبو داود ح 1641، كتاب الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة).
لكن حين يبحث الإنسان عن العمل، ويكلّ جهده، ويستوفي جميع السبل، أو كان عاجزا عن العمل إما لصغر سنه أو لعدم وجود العائل، أو كان يتيما، أو معاقا، فإن الزكاة حينئذ تسدّ هذا العجز، فتُدفع لهؤلاء بسب العجز عن العمل مهما كانت دوافعه.

دور الزكاة في إصلاح ذات البين:
من أهداف الإسلام الكبرى أن يسود الإخاء والمحبة بين الناس، لأنه يجلب الألفة، ويحقق التكافل والتعاون، ولكن حين تسود المنازعات والخصومات، تكون الحاجة ماسة للإصلاح بين المتخاصمين، قال تعالى: وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (الحجرات 9)، من هنا تأتي الزكاة عاملا مهما لتحقيق الإصلاح بين المتخاصمين، خاصة في المنازعات المالية: أراضي كانت،أم أموالا..، فيندفع أهل الخير ليصلحوا بين الطائفتين، فيدفعوا أموالهم لتحقيق هذا الإصلاح، فيصبحوا غارمين مدينين، عند ذاك يُعطون حقَّهم من الزكاة لأنهم في حكم الغارمين، ولذلك يقول النبي :”إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمّل حمالة (أي يستدين المال ليصلح بين الناس) فحلّت له المسألةُ حتى يصيبها ثم يُمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلّت له المسألة حتى يصيب قِواماً من عيش (أو قال سداداً من عيش)، ورجلٌ أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا (العقول) مِن قومه (هم أهل خبرة بحاله): لقد أصابت فلانا جائحةٌ فحلّت له المسألة. فما سواهنّ من المسألة…سُحتاً يأكلها صاحبها سُحتا” (مسلم ح1044.كتاب الزكاة.من تحل له المسألة).

الزكاة إحصان للشباب :
ووسيلةُ الإحصان الزواج الذي هو فطرة في الإنسان، والإعراضُ عنه مصادمة لهذه الفطرة، ودليل ذلك حديث النبي الذي يصحح من خلاله المفاهيم حين تختلط على الناس أو يقع التعسف في تأويلها، ومن ذلك مفهوم العبادة، فقد سأل رهط من الناس عن عبادة النبي ، فلما أُخبروها كأنهم تَـقـالّـوها، فكان مما قال أحدهم: أنا لا أتزوج النساء، فقال عليه السلام: “إنما أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني” مسلم 1401 كتاب النكاح. كما حث الشباب على الزواج مع القدرة عليه. وإذا كانت ظروف كثير من شبابنا اليوم في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ومشكل البطالة، تجعل من الاستجابة لداعي الفطرة والبحث عن شريك الحياة أمرا محفوفا بالعوائق المادية، فإن كثيرا منهم غدا يستسلم للعزوف عن الزواج، أو يظل مسكونا بالبحث عن أوفق السبل لتحصين النفس من نزغات الشيطان، وبناء أسرة، فتضيق به هذه السبل، وهنا تنبري فريضة الزكاة لتذليل العسير وتشجيع الشباب على الزواج، ومن ثمّ يخصَّص نصيب من أموال الزكاة لهذا المصرف الحاجي الإنساني، لأنه الأسلوب العملي لتحقيق العفاف وتحصين الشباب، وحماية المجتمع من الرذيلة، وقد ثبت أن النبي كان يعطي الراغب في الزواج من الزكاة، وكان يقول:” ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب (المَدين) يريد الأداء، والناكح يريد العفاف”الترمذي ح 1706 كتاب فضائل الجهاد.باب المجاهد والناكح والمكاتب. ” والناكح الذي يريد العفاف ) أي العفة من الزنا. قال الطيبي : إنما آثر هذه الصيغة إيذانا بأن هذه الأمور من الأمور الشاقة التي تفدح الإنسان وتقصم ظهره، لولا أن الله تعالى يعينه عليها لا يقوم بها، وأصعبها العفاف لأنه قمع الشهوة الجبلية المركوزة فيه،….، فإذا استعف وتداركه عون الله تعالى ترقى إلى منزلة الملائكة وأعلى عليين.تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 5/242 وقال ابن عربي: ” إذا رأيتَ واحدا من هؤلاء الثلاثة، فأعنْه بطائفة من مال أو حال، فإنك إن أعنتهم فأنت نائبٌ عن الحق سبحانه في عونهم، فإنه إذا كان عونُ هؤلاء حقا على الله، فمن أعانهم فقد أدى عن الله ما أوجبه على نفسه، فيتولى الله كرامته بنفسه”فيض القدير 3/317. وفي عهد عمر بن عبد العزيز ، كان يكلِّـف من ينادي: أين المساكين؟ أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أي الراغبون في الزواج. فهل تُستثمر الزكاة في هذا المصرف الفطري الاجتماعي، ولتكون نواة لتأسيس صندوق لإعانة الشباب على الزواج، تكون إحدى مداخيله المالية من أموال الزكاة ؟
إن معالجة الظواهر الاجتماعية الخاطئة أو الهشة أو مظاهر الخصاص والفقر، إنما ينبغي أن يتم وفق نظرة شاملة تتعامل مع الظواهر قبل وقوعها، وقبل إصدار أحكام القيمة عليها وقبل اللجوء إلى الزجر والعقاب، وذلك بتشجيع المبادرات التي يرى الناس أثرها في المجتمع، ومنها استثمار تعاليم الإسلام في التعاطي مع المشكلات المستعصية، والزكاةُ واحدة من أهم الركائز التي يمكن أن تؤدي دورا مهما في تحصين المجتمع وخدمة أبعاده الاجتماعية، والإجابة عن إشكالاته الاجتماعية والاقتصادية المستعصية، خدمة للدين والوطن والمجتمع، وتعزيزا للسلم الاجتماعي.

د. كمال الدين رحموني