المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحويل كنيسة آيا صُوفيا إلى مسجد في عهد السلطان محمد الفاتح


نبيل القيسي
16-08-2020, 01:48 AM
الفاتح في القسطنطينيَّة
وأكمل الفاتح طريقه حتى وصل في النهاية قبيل وقت العصر إلى كنيسة آيا صُوفيا، معقل الأرثوذكسيَّة في العالم، ومركز القيادة الروحي للإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، فكان أوَّل ما فعله هو أن ترجَّل عن جواده، ونزل على ركبتيه، ثم أخذ حفنةً من تراب الأرض ووضعها فوق رأسه تواضعًا لله عزوجل[1]،[2]،[3]،!

كان الشعب البيزنطي قد تجمَّع في ميدان آيا صُوفيا انتظارًا لِمَا سيفعله السلطان، فتأثَّروا من هذا المشهد المتواضع له، فاندفعوا نحوه وسجدوا عند قدميه، فقال لهم: «انهضوا.. لا تخشوا بعد هذه اللحظة على حياتكم ولا حريَّتكم»[4]، ثم أمر بأن يعودوا إلى ديارهم آمنين! ولقد لفتت هذه الرحمة أنظار المؤرِّخين، حتى قال عنها روچر كراولي: «إنَّها رحمةٌ لم تكن متوقَّعة»[5]!

دخل الفاتح كنيسة آيا صُوفيا، وفور دخوله أعلن واحدًا من قراراته الأولى بعد فتح المدينة، وهو قرار تحويل الكنيسة إلى مسجد[6]، وأطلق عليه اسم «الجامع الكبير لآيا صُوفيا»[7].

كان وقت العصر قد دخل، فأمر السلطان برفع الآذان، فرُفِع، ثم صلَّى السلطان وحاشيته العصر بالمسجد الجديد[8]. وبعد الصلاة صعد السلطان إلى أعلى سطح الكنيسة، وهي من أعلى الأبنية في القسطنطينيَّة، وبذلك صار قادرًا على رؤية معظم معالم المدينة من هذا المكان المرتفع، فنظر هنا وهناك ليرى تفاصيل المدينة التي ستكون عمَّا قريب عاصمةً لدولته[9]، ثم بعد ذلك قفل راجعًا إلى معسكره[10] ليأخذ قسطًا من الراحة بعد هذا اليوم الطويل!

مكث السلطان الفاتح في القسطنطينيَّة لمدَّة ثلاثة أسابيع بعد الفتح قبل أن يعود إلى عاصمته الحاليَّة أدرنة [11]، وفي هذه الأسابيع الثلاثة أخذ عدَّة قرارات مهمَّة، وقام ببعض الأعمال الكبرى، وحيث إنَّ هذه الأعمال كانت تتداخل مع بعضها البعض وتتقاطع تفصيلاتها مع تفاصيل أخرى فإنَّني إيثارًا للتوضيح سأُناقش هذه القرارات والأعمال في هيئة مسائل منفصلة؛ حتى يُمكن استيعاب كلِّ مسألةٍ بشكلٍ كامل، وهذه المسائل تشمل ما يلي:

المسألة الأولى: تحويل كنيسة آيا صُوفيا إلى مسجد:
أمر السلطان محمد الفاتح بسرعة تحويل كنيسة آيا صُوفيا إلى مسجد[12]؛ فالفتح كان اليوم الثلاثاء 29 مايو، ولم يَبْقَ إلَّا ثلاثة أيَّام على يوم الجمعة، وكان الفاتح يُريد أن تكون صلاة الجمعة الأولى في المدينة في هذا المسجد الجديد، لذلك ففور الأمر بهذا التحويل بُنِيَت مئذنةٌ خشبيَّةٌ للمبنى، ووُضِع فيه منبر الخطيب، وحُدِّدت القبلة، وبُنِي فيها محرابٌ ليُصلِّي فيه الإمام[13].

إنَّ هذا التحويل للكنيسة يحمل الكثير من التساؤلات عند المؤرِّخين، ويرى بعضهم أنَّ هذا مخالفٌ لشريعة الإسلام لأنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يفعل ذلك عندما فتح القدس ، ولم يُحوِّل كنيسة القيامة إلى مسجد[14]، والأمر يحتاج إلى شيءٍ من التفصيل.

أوَّلًا: فرَّقت الشريعة الإسلاميَّة بين البلاد التي تُفْتَح صلحًا والبلاد التي تُفْتَح عنوة؛ فالبلاد المفتوحة صلحًا -كالقدس- لا تُحوَّل كنائسها إلى مساجد أبدًا؛ بل تكون أحكام البلد كلِّها متطابقةٍ مع البنود التي اتٌّفِق عليها بين الطرفين قبل الفتح، ولهذا لم يكن جائزًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يُحَوِّل كنيسة القيامة أو غيرها إلى مسجد، أمَّا البلاد التي تُفْتَح عنوة -أي بالحرب- مثل القسطنطينيَّة، فإنَّ المسلمين يملكون «كلَّ» ما فيها، ومنها الكنائس، ولهذا يجوز للحاكم المسلم أن يُحَوِّل ما شاء من كنائس هذا البلد إلى مساجد[15]، وقد حذَّر الفاتحُ إمبراطورَ الدولة البيزنطيَّة من هذه العاقبة إذا رفض تسليم البلد صلحًا، ولكنَّ الإمبراطور رفض التسليم، ومِنْ ثَمَّ دارت الحرب، فكان هذا من نتائجها الطبيعيَّة.

ثانيًا: يأتي هذا الفعل من قبيل المعاملة بالمثل؛ فهذه أحكام الحروب في العالم بشكلٍ عامٍّ، وخاصَّةً في هذه الحقبة، ولقد قام الإسبان في الأندلس ”الأندلس" بتحويل «كلِّ» مساجد البلد إلى كنائس بعد السيطرة على مدنها، بل فعلوا أكثر من ذلك؛ إذ غدروا بالمسلمين الذين فُتِحَت مدنهم «صلحًا»، وقاموا بنكث العهد الذي قطعوه على أنفسهم بعدم تحويل مساجد المدن إلى كنائس[16]، وهذا ما لم يفعله الفاتح قط مع أيِّ مدينةٍ أوروبِّيَّة فُتِحَت صلحًا.

ثالثًا: إذا فهمنا هذه الحقيقة الشرعيَّة أدركنا أنَّ الأمر ليس قاصرًا على كنيسة آيا صُوفيا أو غيرها؛ إنَّما هو حكمٌ عامٌّ يشمل كلَّ الكنائس، ولهذا فلا حرج أن تذكر المصادر أنَّ هناك كنائس أخرى قد تحوَّلت إلى مساجد في القسطنطينيَّة؛ فقد ذكر بعضهم أنَّ الفاتح حوَّل نصف كنائس المدينة إلى مساجد[17]، وحصر البعض الكنائس التي حوَّلها الفاتح إلى مساجد في كلِّ تاريخه، وفي كلِّ المدن المفتوحة، فوجدها سبعة[18]، وارتفع المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو بهذا الرقم إلى سبعة عشر[19].

رابعًا: مع أنَّ الفاتح كان قادرًا -من الناحية الواقعيَّة والشرعيَّة- على تحويل «كلِّ» كنائس القسطنطينيَّة إلى مساجد فإنَّه لم يفعل ذلك؛ لأنَّه -كما سيأتي في نقطةٍ لاحقة- كان يُريد لأهل المدينة من النصارى أن يُمارسوا عباداتهم بشكلٍ طبيعي، وبحُريَّةٍ كاملة، بل ترك لهم كنيسة الرسل المقدَّسة، وهي كنيسةٌ عظيمةٌ عندهم، وتُوَازي كنيسة آيا صُوفيا في القداسة، وسوف نرى علاماتٍ أخرى كثيرةً في سياق القصَّة تُؤكِّد حِرْص الفاتح على إعطاء الحرِّيَّة الدينيَّة للنصارى في المدينة.

خامسًا: لا بُدَّ أن ننظر إلى عامل «الحاجة إلى دور العبادة»؛ فالكنائس الموجودة في المدينة الآن أكثر بكثيرٍ من حاجة السكان النصارى، بينما سيقطن في المدينة الآن عددٌ كبيرٌ من المسلمين، خاصَّةً بعد تحويلها إلى عاصمةٍ للدولة العثمانيَّة، وهؤلاء ليست لهم مساجد تكفي لحاجاتهم، ويكفي أن نُقارن بين عدد الجيش البيزنطي في البلد، وهو خمسة آلاف تقريبًا، بعدد الجيش العثماني، وهو على أقلِّ تقدير يزيد على مائة ألف، والنسبة بين الشعبين قد تكون هي النسبة نفسها بين الجيشين، فحاجة السكان المسلمين إلى المساجد الكثيرة ستكون كبيرة، فلم يكن تحويل الكنائس إلى مساجد نوعًا من النكاية في النصارى، ولا نوعًا من إظهار عزَّة الإسلام وقوَّته، بل كانت حاجةً ملحَّة اقتضتها التركيبة الديموجرافيَّة الجديدة للمدينة.

سادسًا: عند استسلام مدينة جالاتا الچنويَّة دون قتال، أي صلحًا، ومع أهميَّة المدينة الاستراتيجيَّة إلَّا أنَّ الفاتح لم يقمْ بتحويل أيِّ كنيسةٍ من كنائسها إلى مسجد[20]، وهذا يُؤكِّد أنَّه كان حريصًا على التعامل مع المسألة بشكلٍ فقهيٍّ سليم، وسيظلُّ الوضع في جالاتا على هذا الحال حتى عام 1475م، وعندها سيحتاج المسلمون لمسجدٍ في جالاتا لتغيُّر بعض الظروف السياسيَّة والديموجرافيَّة، حتى في هذه الظروف فلن يأخذ المسلمون كنيسةً يُحوِّلونها إلى مسجدٍ هناك إلَّا على سبيل الهبة من قيادة جالاتا النصرانيَّة[21]، وهذا في الواقع من أروع الأمثلة على اهتمام الفاتح بالشريعة، وكذلك اهتمامه بحفظ حقوق الآخرين.

سابعًا: لا بُدَّ عند النظر إلى مسألة تحويل كنيسة آيا صُوفيا على وجه التحديد إلى مسجد أن ننظر إلى البعد السياسي في القضيَّة؛ فكنيسة آيا صُوفيا ليست مجرَّد مكان يُؤدِّي فيه النصارى العبادة، وإنَّما هي قيادةٌ روحيَّة، ورمزٌ لكلِّ شعوب الأرثوذكس في العالم. أَلَا ترى كيف يكون أثر الراية في الجيوش والمعارك؟ إذا سقطت الراية خارت قوى الجنود، مع أنَّ الذي يحمل الراية جنديٌّ واحدٌ قد لا يكون أقوى الجنود، ولكنَّها رمزٌ للجيش كلِّه.

هكذا كانت كنيسة آيا صُوفيا. إنَّها راية الأرثوذكس في الدنيا! فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الأرثوذكس في الدولة العثمانيَّة كثيرون جدًّا، سواءٌ في القسطنطينيَّة نفسها، أم في بقيَّة الولايات العثمانيَّة الأوروبِّيَّة -كبلغاريا، واليونان ، ومقدونيا، وصربيا- أدركنا قيمة أن يقوم السلطان محمد الفاتح بعملٍ ليكون مثل إسقاط الراية، وهو تحويل هذه الكنيسة إلى مسجد! هكذا أدرك الأرثوذكس في الدولة أنَّ المسألة قد حُسِمَت، ولعلَّ هذا هو الذي يُفسِّر عدم وجود أيِّ ردِّ فعلٍ من داخل الدولة لسقوط القسطنطينيَّة (1453م)، حتى الردود الخارجيَّة لم تأتِ قط على مستوى الحدث، ومرجع ذلك إلى الإحباط من إمكانيَّة التغيير أو المقاومة، وهذا يرجع إلى فضل مثل هذه الأعمال الاستثنائيَّة.

ثامنًا: لم يَسْعَ الفاتح إلى إحداث تغييراتٍ كثيرةٍ في مبنى كنيسة آيا صُوفيا؛ بل حافظ على شكله البيزنطي المعروف، ولم يُضِف له إلَّا مئذنةً واحدة، أمَّا بقيَّة مآذنه فقد أُضيفت في عهودٍ لاحقة، وكانت كنيسة آيا صُوفيا مليئةً بالصور والأشكال، وكان الكثير منها للكائنات الحيَّة، فلم يكن جائزًا أن تبقى بهذا الوضع بعد تحوُّل المبنى إلى مسجد، فلم يقم الفاتح بتحطيمها؛ إنَّما اكتفى بتغطيتها بطبقةٍ من الكلس[22]،[23]، وإنَّما حرص الفاتح على عدم القيام بأعمالٍ جذريَّةٍ تُغيِّر من شكل المبنى منطلقًا من رغبته في عدم استفزاز النصارى، فكان بذلك حريصًا على الوسطيَّة؛ إذ قلَّص فرصة قيام النصارى بثورةٍ أو مقاومة، وذلك بإحداث أقلِّ ضررٍ ممكن، وهذا من حُسْن سياسته.