المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الهجرة النبوية .. دروس وعبر


المراقب العام
20-08-2020, 01:57 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



الخطبة الأولى ….
أما بعد : عباد الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، قال الله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(آل عمران : 102). أيها المسلمون : بعد عشر سنين من مبعث نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد أن صَدَعَ بدعوته وجاهد من أجل إبلاغ رسالته، كان أذى قريش قد بلغ حداً من الإيلام لا يُقدّر، ودَرَكاً من الأذَى والصّدّ لا يُتصور، وكان المستضعفون من المؤمنين يجأرُون بلسان الشكوى قائلين : {ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا}(النساء : 75). وكلما حاول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الوصول إلى شيء من هدفه ومَقْصِده، إذَا بصَوْلةِ الباطل تتفنّن وتتجَدَّد، وتزْدَادُ وتشتد، حتى تكَاثَر الكفار على المسلمين، يسومونهم سوء العذاب، يضربونهم ويجلدونهم ويمنعونهم من الطعام والشراب، ويجرونهم في الرمضاء، حتى هموا بحبس نبينا صلى الله عليه وسلم أو قتله أو طرده، كما أخبر الله عز وجل : {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}(الأنفال : 30).

فأذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة حيث الأنصار : الأوس والخزرج، الذين كانوا قَدْ قدِمَ جمْعٌ منهم قبل الهجرة إلى مكة، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، وكانوا في السنة الأولى ستة رجال، وفي العام بعده اثني عشر رجلا، ودعوا قومهم إلى الإسلام حتى لم تبق دار إلا دخلها الإسلام، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وعلى أن ينصروه، ويؤووه، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، وأن لهم الجنة، فترك النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم مكة قائلاً : ((والله إنّكِ لأحبُّ البقاع إلى الله وأحبُّ البقاع إلي، ولوْلاَ أن قوْمَك أخرجوني مِنْكِ ما خرجْتُ). وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم محاطاً بعناية الله ورعايته بعد ما رتب لكل شيء يخصه، فاستعمل عليا رضي الله عنه مكانه صلى الله عليه وسلم ليؤدي الأمانات عنه إلى أهل مكة وليُموِّه على قريش حتى لا يعلموا بخَبَر خُرُوجِه، واختَار رفِيقَ هجرته أبا بكر الصديق رضي الله عنه وكلف ابنه عبد الله بأن يأتيه كل يوم بأخبار قريش، وكلف أسماءَ رضي الله عنها بحمل الزاد والمُؤن إليهما في غار ثور. واستأجر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أرَيْقِط دليلا لهما على الطريق نحو المدينة ووَاعَدَاهُ غار ثور بعد ثلاث وسلماه راحلتيهما، ولما علم المشركون بالخبر تعقبوه إلى أن وصلوا غار ثور فرد الله كيدهم ورجعوا على أعقابهم خاسرين فعمَّى عليهم باب الغار. ففي الصحيحين أن أبا بكر رضي الله عنه قال : نظرتُ إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت : يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال : ((يا أبا بكر : ما ظنك باثنين الله ثالثُهما؟!). وفي ذلك يقول الله عز وجل {إلا تنصرون فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}(التوبة : 40).

فتأمل أيها المسلم في حفظ الله تعالى لأنبيائه وأوليائه، وعظيم قدرته وإعجازه -فإن من توكل على الله كفاه- ولقد توكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله فبلغه هدفه ووصل المدينة في أمن وأمان وقوة ومنعة واستُقبل استقبال الفاتحين فوحد المدينة وجمع شمل المسلمين بها وأسس المساجد وعمر البلاد وصنع الرجال الذين فتح بهم مكة من جديد وفتحوا العالم بأسره بتوفيق من الله وإحسانه، فكان لهم فضل على الإنسانية لا يُعْرف مداه، وديْن في عنق كل مسلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها. عباد الله : لقد شرع الله سبحانه وتعالى الهجرة لنبيه صلى الله عليه وسلم ولصحبه الكرام نصرة لدينه القويم، وطاعة وتقرباً إليه عز وجل، وذلك لعدة مقاصد وأهداف نذكر منها :

1- تمحيص إيمان المؤمنين : فإن الله عز وجل جعل من سنته الثابتة الاختبار والامتحان للمؤمنين لتزكيتهم وترقيتهم قال سبحانه وتعالى : {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا…}(العنكبوت : 1) ولقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه بأشد أنواع البلاء فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، ثم كانت مفارقة الوطن قِمّةَ الامتحان إذ فيها يتحقق التجرد التام والعبودية الكاملة والطاعة المطلقة لله رب العالمين.

2- التخلص من الظلم والتبوُّؤ بالمنزلة الحسنة، والفوزُ بالأجر الأكبر في الآخرة. قال تعالى : {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}(النحل : 41).
3- إقامة الدين كنظام يضبط أمور الناس وحياتَهم كُلَّها، ثم حمايتُه من عبث العابثين، وتحقيق وعْد الله لعباده المؤمنين الصابرين المحتسبين المجاهدين بالنصر والتمكين، قال تعالى : {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم…}(النور :53)، وقال تعالى : {الذين إن مكانهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور}(الحج : 39). جعلنا الله سبحانه وتعالى جميعا ممن حسنت عاقبتهم ولاقوا الله وهو راضٍ عنهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين…. أما بعد : عباد الله : إن الحديث عن الهجرة والقيامَ بها يجدد الإيمان ويبعث اليقين في نفوس المسلمين، ويشد العزم ويقوي الأمل للمجاهدين، الذين يرجون ما عند الله والدّار الآخرة، لا يبتغون بجهادهم وكفاحهم مالاً ولا جاهاً ولا سلطاناً، وإنما يبتغون إصلاحاً وخيراً وأماناً. وإننا إذا ذكرنا الهجرة ذكرنا الإيمان القوي الصادق والصبر الجميل، وذكرنا التضحية والفداء، والبذل والعطاء، والأخوة والإيثار، وأكثر من ذلك أن نذكر نصر الله تعالى لأوليائه وأتقيائه، ومحبَّته لأصفيائه، وأنه من توكل على الله هداه ومن لاذَ بِه كفاه شر الأشرار وفتنة الكفار {أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه}(الزمر : 36).

أيها المسلمون : لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية) وقال صلى الله عليه وسلم : ((المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَه الناس على أموالهم وأنفسهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فأين نحن من قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا؟ ألم يحن الوقت بعد لنا أن نعي دورنا في الحياة جيداً وندرك بأننا أصحاب رسالة ورثناها عن رسولنا الأعظم وطوّقْنا بها أعناقنا إذا لم نعمل بمقتضاها وأديناها إلى غيرنا ووفينا بذلك، فأين دورنا من نصرة دين الله ورسالة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؟ أما آن لنا أن نهاجر إلى الله حقا ونفِرّ بديننا من بطش الفتن والمنكرات والمغريات والمعاصي التي حلت بنا من كل جانب؟ أما آن الأوان لنا كباراً وصغاراً رجالا ونساء آباءً وأمهاتٍ رعاةً ومرعيين أن نهجر كل مظاهر البعد عن ديننا؟ أما آن لكل راع لرعيته أن يأخذ بيد شبابنا الضائع لهجر الخلاعة والمجون والتّحلي بالجد والاجتهاد؟ و عدم إضاعة الوقت فيما لا يفيد؟ أما آن الأوان للعصاة من أمتنا أن يتوبوا ويُقْلِعوا عن معاصيهم؟ ألم يأن لكل مسلم أن يهجر الإسراف ويتحلى بالاقتصاد في الإنفاق والبعد عن التبذير وإضاعة المال..؟ أما آن الأوان لوسائل الإعلام من قنوات وفضائيات وإذاعات وغيرها أن تهجر كل برامج الهدم ونشر الرذيلة في الأسرة والشارع والمجتمع؟ أما آن لك أيها الإنسان وأنت في صحراء المعصية وقد قَحطت العين وقسِي القلبُ أن تتأمل قول من يخاطبك بقوله مذكرا إياك بأنك : قطَعْت شهُور العُمْر لهْواً وغَفْلةً ولمْ تحْتَرِم فِيما أتَيْت المُحرّما فلا رجَبَ وافَيْتَ فيه بحقِّه ولا صُمْت شهر الصّوم صوماً مُتمّما ولا في ليَالي عشر ذي الحجّة الذي مضَى كُنْت قوّاما ولا كُنت مُحْرما فهلْ لك أن تَمحو الذّنوب بعبْرَة وتَبْكي عليها حسْرة وتندّما وتَسْتقبل العام الجديد بتوْبةٍ لعلّك أن تمْحُو بِها ما تقدّما؟ أخي المسلم : إن الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء، فاسمع إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبين لك حقيقتك في هذه الحياة، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول : ((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)(أخرجه البخاري). قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ((إنكم تغْدُون وترُوحُون إلى أجل قد غُيِّب عنكم عِلْمُه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا). وقال عمر رضي الله عنه : ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن لكم، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله) {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}. فحري بنا جميعا أيها المسلمون أن نقف مع أنفسنا وقفة جادة للمراجعة والمحاسبة، ماذا قدمنا لديننا؟ وماذا أضفنا لرصيدنا العلمي؟ وماذا قدمنا للمجتمع والناس؟ هل ازْددنا قرباً من الله، واعتصاماً بحبله المتين، واقتداء برسوله الكريم؟ وهجرنا ما يغضب الله ورسوله، وتخلّصنا من قبائح أعمالنا أم ضيّعنا كل شيء وساعتها نندم ولات حين مندم؟. فاللهم يا أكرم الأكرمين يارب يا قريب يا مجيب نسألك ونحن كلنا أمل ورجاء أن تدخل علينا هذا العام الهجري الجديد بالخير واليمن والبركات والتوبة والإنابة إليك وحدك يا كريم يا مغيث، ونسألك أن تجعل المسلمين فيه على خير حال، وعلى كلمة سواء كلمة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” آمين…..

د. عبد اللطيف احميد