المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صورتان للقدس: الأسر الصليبي والتحرير الإسلامي


المراقب العام
16-09-2020, 08:05 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



القدس مدينة ورمز حضاري وبؤرة صراع بين أصحاب الأرض والتاريخ وأولئك القادمين من خارج الأرض ومن خارج التاريخ. فالقدس ليست مدينة مثل سائر مدن الارض، وإنما هي مدينة ارتبطت بالأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. وهذه الديانات اعتنقها سكان فلسطين وتحولوا من أحدها الى الآخر بحسب مرور الزمان وتطورات التاريخ وتقلبات السياسة والحرب. لكن القدس التي ولدت عربية على أيدي اليبوسيين، ظلت على عروبتها وإن دخلت ضمن مقدسات الأديان الثلاثة.

https://islamstory.com/images/upload/content/1004119816222222222222222222.png

والقدس كانت رمزًا وهدفًا في الصراع الذي دار بين المنطقة العربية والفرنج الصليبيين القادمين من أوروبا تحت راية الصليب طوال قرنين من الزمان 1097- 1292م ورسمت كتب التاريخ صورتين للمدينة المقدسة في خضم أحداث الحركة الصليبية، إحداهما تصور المدينة حال وقوعها في أسر الصليبيين، والأخرى تصورها بعد أن تحررت على يد المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي. ولم تكن هاتان الصورتان هما كل ما رسمته كتب التاريخ للمدينة المقدسة، ولكننا آثرنا أن نعيد انتاجهما في شيء من “المقابلة” بين موقف الغازي المغتصب وموقف صاحب الحق الذي يسترد حقه… فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

حصار واحتلال
كان الفصل الأخير في الحملة الصليبية الأولى 1095– 1099م يتمثل في ذلك الحصار الذي فرضه الصليبيون على مدينة بيت المقدس واستمر على مدى خمسة أسابيع من 7 حزيران يونيو الى 15 تموز يوليو 1099م. فقد وصلت رحلة الألف ومئتي ميل الى منتهاها. وأخيرًا صافحت عيون الفرنج الصليبيين المدينة المقدسة التي زعم قادتهم أنهم جاؤوا لتحريرها وجعلوها الهدف النهائي لرحلتهم.

فعلى مدى أكثر من عامين بعد وصول الصليبيين الى المنطقة، شغلتهم منازعاتهم الداخلية وأطماعهم عن الهدف والرمز بعد أن تجلى إفلاسهم الايديولوجي في غمار أعمال السلب والنهب والقتل والدمار التي صارت عنواناً على وجودهم في كل مكان حلوا به. وكانت آخر محطاتهم هي مدينة أنطاكية التي مكثوا فيها تسعة شهور بعد أن استولوا عليها، وكادت الحرب تنشب بين النورمان بقيادة بوهيموند والفرنج بقيادة ريمون السانجيلي حول السيادة على المدينة. وعندما هددت جموع الصليبيين من العامة بإحراق المدينة، بادر الزعماء المتخاصمون بالسير نحو القدس. وحين صافحت عيونهم المدينة المقدسة أدركوا أن نهاية رحلتهم باتت وشيكة، وحين أسدل الليل ستاره امتطى تنكرد النورماني صهوة جواده لكي يرفع علمًا نورمانيًا فوق كنيسة الميلاد قبل أن تطأ قدم أي صليبي تراب مدينة القدس.

كان الصليبيون خرجوا من الغرب الأوروبي تحدوهم الحماسة والأطماع الدنيوية ويحركهم الأمل في الغفران الكنسي الذي وعدهم به البابا في خطبته التي ألقاها في كليرمون في جنوب فرنسا يوم السابع والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر سنة 1095م. فقد حثهم على “تحرير” القدس والمسيحيين الشرقيين من المسلمين الذين نسب إليهم كل الشرور والآثام المعروفة والمجهولة في سخاء وكرم شديدين. وخرجت “الحملة المقدسة” تسعى نحو هدفها وخلفت في البلقان المسيحية طريقًا ترصعه القرى المحترقة والجثث المطروحة والبيوت المدمرة والحقول الخاوية دليلًا على أن “جيش الرب” قد مرّ من هناك.

وبعد تقلبات كثيرة وصلت الحملة الصليبية الى مشارف القدس، وبدأوا في اليوم التالي يفرضون حصارهم على المدينة المقدسة. ولم يكن هناك ما يلائم هذا الموقف سوى تلفيق بعض الأخبار عن الرؤى والأحلام المقدسة لكي تبعث الطمأنينة في نفوس أولئك الذين أنهكتهم رحلة الألف ومئتي ميل من غرب أوروبا الى فلسطين، وشاعت في معسكر الصليبيين أنباء عن اشتراك القديس جورج في القتال ضد المسلمين.

وفي يوم الجمعة الخامس عشر من يوليو 1099م= 22 شعبان 492 هجرية تمكن الصليبيون من اقتحام المدينة ساعة الظهيرة، أي ساعة صلب المسيح عليه السلام في التراث الديني المسيحي.

ودخل الصليبيون المدينة الجريحة بعد أن غادرها قائد الحامية الفاطمية افتخار الدولة ورجاله. وأعقبت ذلك مذبحة رهيبة جرت على سكان المدينة المدنيين من دون تمييز، وهكذا نجا العسكريون في حين هجم الصليبيون على المسالمين. وأبيحت المدينة المقدسة على أيام عدة لكل صنوف النهب والسلب والقتل والتخريب، وفاض الدم في شوارعها وطرقاتها وساحاتها لدرجة أن المؤرخين الصليبيين من شهود العيان تباهوا بأن الخيول كانت تخوض في دماء الضحايا حتى أعقابها. وذكر أحدهم أنهم كانوا يحرقون ضحاياهم ثم يفتشون في الرماد عن الذهب الذي كان معهم.

وفي هذا الجو الموحش الكئيب اجتمع الصليبيون في كنيسة القيامة، وأياديهم تقطر دمًا ووجوههم تنطق تعبًا، وجباههم تتفصد عرقًا، لكي يؤدوا صلاة الشكر!!

وظلت جثث الضحايا مطروحة في أنحاء المدينة أيامًا عدة، وفاحت في المدينة رائحة الحريق والدخان ممزوجة بنتن الجثث. وعندما خفت شهوة القتل لدى الصليبيين، كانت أولى المهام الاستعمارية التي واجهتهم هي مواراة الجثث وتنظيف المدينة وتنظيم الاستيطان الصليبي فيها. ثم بدأت مناقشة مشكلة حكم المدينة، واجتمع الزعماء من رجال الكنيسة والعلمانيين لكي يقرروا ما ينبغي عمله في الإدارة الصليبية للمدينة الأسيرة.

هكذا كانت الصورة الأولى للقدس، صورة تضج باللون الأحمر لون الدم والنار، يحيط به ويتخلله اللون الأسود، لون الدخان والحزن والحقد والغضب. هذه الصورة رسمها غزاة غاصبون جاؤوا تحت راية الدين لكي يزرعوا مستوطناتهم على الأرض العربية في فلسطين.

ومرت سنوات طوال على المدينة الأسيرة بلغت بضعًا وثمانين سنة، قبل أن يتمكن صلاح الدين الأيوبي من تحريرها في 27 رجب سنة 583هـ= 2 أكتوبر 1187م، وأقيمت خطبة الجمعة في المدينة المحررة بعد أن ظلت ممنوعة زمنًا طويلًا.

الصورة المناقضة
بعد حصار قصير تمكنت قوات المسلمين من اقتحام مدينة بيت المقدس، وأصدر صلاح الدين تعليماته المشددة الى جنوده بعدم مهاجمة المدنيين، وسمح لبطريرك اللاتين بأن يخرج ببغاله التي تحمل الذهب والنفائس التي حملها من كنيسة القيامة من دون أن يتعرض له أحد. ويغلب على الظن أن الجنود المسلمين كانوا يتحرقون غيظًا وهم يشاهدون البطريرك يخرج بكنوزه سالمًا، ومن ناحية أخرى كان عليهم أن يلتزموا التزامًا صارمًا بتعليمات قائدهم.

كان عدد القتلى والأسرى كبيرًا الى درجة أذهلت المؤرخين، ورقّ قلب الملك العادل أخي صلاح الدين، فطلب إطلاق سراح آلاف عدة منهم إكرامًا له ووافق السلطان بلا تردد. وكان فتح القدس وتحريرها في يوم الجمعة أيضًا. ويذكر المؤرخون أن صلاح الدين أخرج من القدس ستين ألفًا من الفرنج بعدما أسر ستة عشر ألفًا ما بين ذكر وأنثى، وقبض فدية قدرها ثلاثمئة ألف دينار مصرية دفعها بعض الأسرى الذين افتدوا أنفسهم. ولكن البطريرك اللاتيني وجد في كرم السلطان المسلم فرصة لكي يحرر بعض الأسرى من دون أن يدفع فديتهم من الأموال التي في حوزته، فطلب من السلطان إطلاق عدد من الأسرى إكرامًا له ووافق صلاح الدين.

كان صلاح الدين الأيوبي في موقف عسكري متفوق، ولم يكن هناك ما يمنعه من أن يذبح الصليبيين الذين كانوا داخل المدينة المقدسة. ولكنه لم يفعل، فقمة انتصاره على الجيوش الصليبية تحققت عند حطين، على مقربة من بحيرة طبرية في فلسطين يوم 24 ربيع الثاني 582 هـ= 4 يوليو 1187م. إذ خسر الصليبيون في هذه المعركة أكبر جيش أمكن جمعه منذ قيام الكيان الصليبي. كما كان القائد الذي انتصر هو صلاح الدين الايوبي، صاحب السيادة على المنطقة العربية الإسلامية بأسرها.
وما حدث بعد معركة “حطين” كان أشبه بنزهة عسكرية بالنسبة الى الجيش الإسلامي، إذ سارعت المدن والقلاع الصليبية الى الاستسلام إما لصلاح الدين نفسه وإما لقادة جيوشه. وبسرعة شديدة تم استرداد عكا ويافا وبيروت وجبيل، ثم عسقلان وغزة، وبذلك بات الطريق مفتوحًا الى القدس التي حررها بعد حصار قصير.

كانت أولى مهام الإدارة الإسلامية في المدينة المحررة تتمثل في إعادتها الى طبيعتها، مدينة عربية تفتح قلبها لأتباع الديانات الثلاثة السماوية من دون تفرقة أو حقد. ولم يصادر المسلمون ممتلكات النصارى، بل إنهم سمحوا للصليبيين بالحج الى القدس وزيارة كنيسة القيامة. واحتج ريتشارد الأول، ملك انكلترا ريتشارد قلب الأسد، الذي كان أحد قادة الحملة الصليبية الثالثة على ذلك، ولكن السلطان صلاح الدين ردّ عليه بأن دينه يأمره بأن يتيح للناس حرية ممارسة عباداتهم. وبدأت في المدينة المقدسة عملية إعادة المؤسسات ذات الطبيعة الدينية والاجتماعية والثقافية الى سابق عهدها.

وأعيد المسجد الأقصى وقبة الصخرة الى المسلمين. وأقام صلاح الدين صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، كما بنى في القدس مدرسة للشافعية، وبذلك وضع أساس حركة إعادة تعمير ما خربه الصليبيون في المدينة المقدسة. كما فتح الطريق أمام بناء تلك المدارس والمكاتب والمستشفيات التي زخرت بها القدس في الفترة التاريخية اللاحقة.

هكذا كانت الصورة الثانية زاهية بألوانها التي تحمل إشارات البناء والتقدم في ظل حكم أصحاب الحق في المدينة المقدسة، وكان على الغزاة الغرباء القادمين من وراء البحار أن يعودوا الى بلادهم الأصلية.

هاتان الصورتان جزء من لوحة تاريخ المدينة المقدسة وليستا كل اللوحة، فقد رحل صلاح الدين الأيوبي عن الحياة في شهر صفر 589هـ= مارس 1193م. وبوفاة هذا السلطان توارت عن مسرح التاريخ شخصية ظلت ملء العين والقلب وموضع الإعجاب والهيبة من جميع المعاصرين، أعداء كانوا أم حلفاء. ولكن الظروف التي أنجبته لقيادة الأمة في مواجهة الغزو الصليبي كانت لا تزال قائمة، فالفرنج ما زالوا فوق الأرض العربية في فلسطين، كما أن خطر قدوم حملات صليبية أخرى من أوروبا كان لا يزال ماثلًا.

وكان على المسلمين والعرب أن ينتظروا قرناً آخر من الزمان حتى يتحقق لهم النصر على الصليبيين، إذ كان خلفاء صلاح الدين الأيوبي على غير شاكلته، لدرجة أنهم تنازعوا في ما بينهم بدلًا من الوحدة، واستعانوا بعدوهم ضد بعضهم البعض، وأضاعوا ملكهم بعدما تخلوا عن دورهم[1].


[1] المصدر: دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.