المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرات في المنهاج التربوي النبوي


المراقب العام
22-09-2020, 02:48 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



يقول ابن حزم الأندلسي رحمة الله تعالى عليه في كتابه: الفصل في الملل والنحل: “فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم – لمن تدبرها- تقتضي تصديقه ضرورة وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، فلو لم يمكن تلخيص الهدف من بعثة الحبيب صلى الله عليه وسلم في صناعة القدوة، ذلك أن الله تعالى اصطفى محمد ابن عبد الله من أكرم بيت في أشرف بقعه وأحوج زمان إلى مصلح ثم أدبه فأحسن تأديبه وأعده فأتم إعداده ثم بعثه إلى العالمين بالقرآن ليقول لهم: هذا نموذج عبد الله المرضي عند الله تعالى، المستحق للاستخلاف في الأرض، الفائز بالرضوان يوم القيامة، ويقول {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(آل عمران : 31). ويقول {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا…}(النساء : 80).ويقول:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(الحشر : 7). وعليه يكون المنهاج الرباني وصراط الله المستقيم ذا وجهين: وجه علمي هو القرآن الكريم ووجه عملي هو سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي هي الطريقة المثلى لإحلال القرآن الكريم في الواقع إحلالا كاملا شاملا في ثلاثة وعشرين سنة هي زمن بناء النموذج، ولم ينتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. إن محمدا صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة بين لنا كيفية تلقي الوحي الذي هو الهدى النازل من الحق سبحانه {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه}، {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} وكيفية تمثله وتطبيقه على خاصة نفسه، وكيفية تنزيله على أرض الواقع، وتلكم أركان المنهاج الرباني، منهاج الفطرة، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} منهاج يبين القدوة على مستوى الفرد في علاقته بالله تعالى، وعلاقته بنفسه وعلاقته بالناس (أقربين وأحباب وخصوم) وعلاقته بالكون. منهاج يوضح القدوة في تكوين الجماعة المسلمة الجماعة الجسد ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)). منهاج يجلي قواعد بناء نظام الدولة المسلمة على مبادئ الشورى والعدل وتحقيق المصالح العامة وغيرها. ويبقى الحجر الأساس لتنزيل هذا المنهاج “وأجرأته” هو صناعة الإنسان، هو تربية ابن آدم وفق مبادئ هذا المنهاج الرباني الفطري، فإذا كان الوحي هو روح هذا المنهاج، فإن ابن آدم هو جسده، وعلى قدر إحلال هذه الروح في هذا الجسد، وعلى قدر تشرب هذا الجسد لهذه الروح على قدر فعلهما وأثرهما في الواقع، فإن الروح لا تشتغل إلا بالجسد وإن الجسد لا يستقيم إلا بالروح، وإذا استقرت بذرة هذه الروح في القلب وثبتت جذورها فيه، أينعت أغصانها في جوارح الجسم وأعضائه بل خلاياه وذراته، ودخل ابن آدم في السلم كافة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}(البقرة:208)، وصلح لإقامة الدين مع المحسنين على خطى من كان قرآنا يمشي على الأرض. أما إذا كان إحلال الروح في القلب ضعيفا ووجودها في الأطراف والأعضاء ضامرا أو غائبا فإن الخلق يصير مشوها والبناء مشوها. لذلك فقد كان هم الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره المكلف بإحلال منهاج الله تعالى في الأرض هو تربية جيل من حملة هذا المنهاج. يبني الرجال وغيره يبني للقرى شتان بين القرى وبين الرجال. جيل اصطفاه الله تعالى له ليعينوه على إقامة الدين، جيل تميز بقدر من سلامة الفطرة وحظ من أخلاق المروءة ونصيب من فنون القوة، جيل الأشداء، الرحماء، رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على عين الله تعالى وفق برنامج مادته القرآن ودعاماته التربوية:

1- توحيد المعبود

2- توحيد المتبوع

3- توحيد المرغوب

أولا: توحيد المعبود: إن اللبنة الأساس التي وضعها المصطفى صلى الله عليه وسلم لبناء المنهاج وإحلال روح القرآن في قلب الإنسان هي التعريف بالله تعالى، إذ لا يصحح التصور ولا تسلم العقيدة ولا يرسخ الإيمان إلا بالتحقق بالعلم بالله تعالى كما وصف نفسه سبحانه في كتابه بالصفات العلى والأسماء الحسنى {فاعلم أنه لا إله إلا الله} لذلك ترى القرآن المكي عامة وأوائل ما نزل منه خاصة يصرف الآيات في بيان هذه القاعدة ليرسخ بها الإيمان في قلوب المستجيبين لتنقلهم من شقاوة الكفر إلى حلاوة الإيمان، وتهاجر بهم من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد. إن الآيات القرآنية التي ينزل بها الروح الأمين على قلب النبي الصادق فيرتلها على أصحابه غضة طرية تحمل معها شحنتها التي نزلت بها فتنزل في قلوبهم نزول الغيث على الأرض الطيبة فتنشئهم خلقا آخر {فتبارك الله أحسن الخالقين}. فترى أحدهم يعذب في الله عذابا لا تطيقه صم الجنادل، ويراود عن نفسه ليقول في ربه بهتانا يرضيهم، أو في أصنامهم نكرا يشفيهم فيقول: أحد، أحد… لساني لا يطاوعني، وكيف يطاوعه اعوجاجا وقد استقام على الهدى رشادا. وترى آخر ينفق ماله لفداء المستضعفين فإذا لامه أبوه قال يا أبت إني إنما أفعل ما أفعل ابتغاء وجه الله تعالى : {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى}(الليل:21). وترى الشاب المنعم الرافل في غنى أمه، المعد لسيادة قومه، تغمر بشاشة الإيمان قلبه فتعاديه الأم ويسلمه الأهل فيعرى من نعم الدنيا الفانية كلها حتى إذا استشهد كفن في دمه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}(الأحزاب:23)، وترى وترى… إنها نماذج بشرية عرفت الله تعالى حق المعرفة وأحبته فلم تتلق إلا منه، ولم تنفعل تقدما أو تقهقرا، غضبا أو سرورا إلا للأمور الصادرة عنه سبحانه، ولم تتأثر إلا بوحيه أو ما قبله ميزان وحيه، فمحضت لله تعالى المحبة وصدقت له الطاعة وأخلصت له النية، وأحسنت له العمل، فتحققت بمعنى لا إله إلا الله، وتخلقت بمقتضياتها، قدوتها في ذلك الحبيب عليه الصلاة والسلام.

ثانيا: توحيد المتبوع: إن الله تعالى أرسل رسلا وأنزل معهم كتبا، كما أرسل رسلا ولم ينزل معهم كتبا، لكنه سبحانه لم ينزل كتبا فقط دون أن يأتي بها رسل، ذلك أن التلقي عن الله تعالى واستيعاب الوحي وإحلاله في النفس ثم في الواقع ليس بالأمر الذي يطيقه كل الناس، بل آحاد الناس ممن صنعهم المولى على عينه وأهلهم لتحمل هذه الأمانة الشاقة تأهيلا ثم أرسلهم ليكونوا للناس قدوة، وإن دينا أساسه توحيد المعبود سبحانه غيبا لا يكمل إلا بتوحيد متبوع واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه النموذج في التلقي والتحقق والتخلق والجهاد، ولا يستقيم توحيد المعبود وعبادته إلا باتباع الرسول وطاعته، فلا تبقى في قلب المؤمن طاعة لأحد غيره صلى الله عليه وسلم كائنا من كان إلا من وافقه عليه الصلاة والسلام سواء كان أبا أو أما أو شيخا أو زعيما أو عشيرة أو قبيلة أو هوى… وذلك مقتضى قولنا في كلمة التوحيد “محمد رسول الله”. والناظر في حال الأمة يرى أن هذا الأمر ضعيف فيها، إذ لو تحقق هل كنت ستجد هذه الاختلافات بين طوائف الأمة بل هذه الخصومات، بل هذه الحروب الطاحنة. لو كان للجميع متبوع واحد هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدينون بولاء إلا له، لكانوا على طريق الاهتداء ولطرحوا الأهواء ولانتصروا على الأعداء {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(المائدة :56)، أما جيل التأسيس، جيل القدوة، فقد تحققوا أو تخلقوا بهذه الصفة فلم يختلفوا فترى بعضهم يفارق أمه وأباه وعشيرته وقبيلته وحلفائه “ويتولى الله ورسوله” ويتحمل في ذلك صنوف الإذاية والتنكيل فيحتسب وتكون العاقبة للمتقين.

ثالثا: توحيد المرغوب: وهي الدار الآخرة {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(القصص: 83) لقد ربى الحبيب صلى الله عليه وسلم صحابته على استحضار الآخرة في كل خطوة يخطونها في الدنيا، فلا يتحركون حركة في الدنيا إلا إذا نظروا إلى مآلاتها في الآخرة، فيقدمون أو يحجمون. رباهم على ادخار جزائهم للآخرة فلا ينتظرون من الدنيا جزاء ولا شكورا، بل يفرون من ذلك ويغبطون من انتقل إلى الدار الآخرة ولم ينل من حظوظ الدنيا شيئا كمصعب وحمزة وغيرهما رضي الله تعالى عن الجميع. رباهم على استرخاص كل ما يصيبهم في الدنيا من فتن ومصائب لهوانها في جنب الله تعالى ولعظيم الجزاء الذي يناله أهلها الصابرون المحتسبون في الآخرة. رباهم على ذلك بآيات الترغيب والترهيب، ووصف الجنة والنار والصراط والميزان والحساب وأهوال القيامة، والإكثار من ذكر هادم اللذات فكأنه رأي العين {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}(الزمر-9)، فملكوا الدنيا وما ملكتهم، وتصرفوا فيها وما أطغتهم، وعملوا فيها وما ألهتهم، وامتطوها وإلى الجنان أوصلتهم. خــلاصـة: إن الحبيب صلى الله عليه وسلم ربى جيل القدوة على توحيد الله تعالى فتوحد لديه مصدر التلقي، فتلقى الهدى الخالص من الله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}(النساء : 82)، فلم تعصف به الأهواء. ورباهم على توحيد المتبوع وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فسلكوا نهجا واضحا وصراطا مستقيما، ولم تتفرق بهم السبل {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الزخرف: 52). ورباهم على توحيد المرغوب فكانوا أخرويين لا يأخذون من الدنيا إلا زادا يوصلهم إلى الآخرة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}( القصص :77)

د. يوسف علوي