المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ينابيع الرجاء - النبع الحادي عشر: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} ​


نبيل القيسي
22-10-2020, 07:30 AM
دخل طاوس اليماني على عبيد الله بن أبي صالح يعوده من مرضه، فقال له عبيد الله: ادعُ الله لي يا أبا عبد الرحمن! قال: ادعُ لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه[1]. وجاء رجُلٌ إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك با لله أن تدعو لي فأنا مُضْطَرٌّ، فقال: إذا فاسأله فإنَّه يُجيبُ المضطَّر إذا دعاه. فمن هو المضطر بحق؟! فاسمع أقوالهم: قال ابن عبَّاس: هو ذو الضَّرورة المجهود. وقال السُّدِّيُّ: الذي لا حول له ولا قوة. وقال ذو النُّون: هو الَّذي قطع العلائق عما دون الله[2]. ومن أنواع المضطرين: المريض، ولذا كان طاوس يقول: دعاء المريض مستجاب، أما سمعت قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ[3]. وصدق الشَّاعر المؤمن (المضطر) حين حكى تجربته العملية قائلا: وإني لأدعو الله والأمر ضيِّقٌ ... عليَّ فما ينفكُّ أن يَتَفرَّجا ورب أخٍ سُدَّت عليه وجوهُه ... أصاب لها لما دعا الله مخرجا سبحانه فارج الهمِّ وكشَّاف الكُرَب! هو من ساءل الكفرة.. من بارزوه بالعصيان حين عدَّد عليهم نعمه في كتابه العزيز، فقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ} فسبحان من أشهد الكفار على إجابته دعوة المضطرين منهم! فما بالك بالمضطرين من عباده المؤمنين؟! ولذا قيل في قيمة الاضطرار وأثرها على إصابة سهم الدعاء: خيرُ الدعاء ما هيَّجَته الأحزان[4]. وسبب إجابة دعوة المضطرين هو ذكره الإمام القرطبي: والسبب في ذلك أنَّ الضرورة إليه باللَّجَأ ينشأ عن الإخلاص وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقعٌ وذمّةٌ وُجِدَ مِنْ مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر[5]. وانظر اضطرار سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وتقطع أسبابه يوم بدر لتذوق معنى الاضطرار، ثم تقلِّد شعوره في دعائك، وتسلك طريقه في رفع حاجاتك: رفع يديه صلى الله عليه وسلم داعيا حتى سقط الرداء عن كتفيه ورؤي بياض إبطيه، وهو يلهج: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض». فما زال يهتف بها مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر الصديق متأثِّرا بحاله، ثم التزمه من ورائه قائلا: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربَّك، فإنه سينجز لك ما وعدك. كان هذا دعاء سيد النبيين وقدوة العالمين وهو يعلِّم أمته فنَّ الاضطرار وسبل الافتقار، فما أسرع الخير والمدد بالانهمار {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ}. وهنا خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خففة وهو في العريش، ثُمَّ انتبه وقال: «أبشِر يا أبا بكر! أتاك نَصْرُ الله.. هذا جبريل آخِذٌ بِعنان فرس يقوده على ثناياه النَّقع». واسمع ما مرَّ بأبي حامد الغزالي من شدة كادت تعصف بدينه وإيمانه، وما لقيه من شهوات وشبهات لم ينجِّه منها إلا دعاء المضطرين: فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة قريبا من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ قفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطييبا للقلوب المختلفة إليَّ، فكان لساني لا ينطق بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة ... ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى، التجاء المضطر الذي لاحيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب[6]. ولذا جاء في الحكم العطائية: ما طلب لك شيءٌ مثل الاضطرار، ولا أسرعَ بالمواهب مثل الذلة والافتقار. إن الاضطرار مالٌ يمنحك الله إياه لتستجلب به أرباحا غزيرة، وإن الاضطرار في قلبك جزء يسير من عطاء رباني ينتظرك وفضل عظيم ترفل فيه عن قريب، ولذا كانت الشدائد عند المؤمنين مفتاح المواهب. ولعل هذا ما اكتشفه ابن القيم في قيمة كنز الاضطرار الذي أهدته له أيادي المحن، وذلك حين قصَّ تجربته الإيمانية قائلا: من كمال إحسان الرَّب تعالى أن يُذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر، ويُعَرِّفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بِضِدِّها[7]. دعوات المكروب: واسمع ماذا كان يقول صلى الله عليه وسلم عندما يُحزِنه شيء في كلمات تعبِّر عن اضطراره وغاية افتقاره: «كان إذا كرَبه أمر قال: يا حي يا قيوم .. برحمتك أستغيث» [8]. وهو ما أوصى به ابنته فاطمة في كلمات تنبعث منها حرارة الحاجة ولوعة الفاقة، ثم أوصاها أن تكرِّر ذلك مرتين يوميا كجرعة لازمة واقية من الكروب والأحزان: «ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، وأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا»[9]. وقوله صلى الله عليه وسلم كذلك لأسماء بنت عميس .. يعلِّمها قطع الروابط والعلائق إلا بالله، وذلك بترديد كلمة التوحيد مع كل كرب شديد: «ألا أعلمك كلمات تقولهن عند الكرب؟ اللهُ .. الله ربي لا أشرك به شيئا»[10]. يا خالق الخلق يا رب العباد ومن *** قد قال في محكم التنزيل ادعوني إنّي دعوتك مُضطرا فخُذ بيدي *** يا جاعل الأمر بين الكاف والنون نجَّيتَ أيوب من بلواه حين دعا *** بصبر أيوب يا ذا اللطف نجّيني واطلق سراحي وامنُن بالخلاص كما *** نجَّيتَ من ظلمات البحر ذا النون كيف الوصول؟! لكن كيف تصل إلى هذا الاضطرار؟! وكيف تعلم أنك قد حصَّلت ما ينفعك منه ويلِّغك مقصودك؟! وهل لذلك علامات؟! أجاب على هذا مُوَرِّقٌ العِجلي رحمه الله، فوصف لك صورة المضطر بحق كي تقارن دعاءك به، وتحشو قلبك بما في قلبه، وتقصِّر بذلك السِّكة إلى العطاء، وتختصر الطريق إلى إجابة الدعاء، فقال رحمه الله: "ما وجدتُ للمؤمن مثلاً إلاَّ رجلاً في البحر على خشبة، فهو يدعو يا ربِّ يا ربِّ، لعل الله عزَّ وجلَّ أن ينجيَه[11]. وانقطاع الأسباب هو أوسع باب من أبواب الرجاء، وتسلق قمة الاضطرار هو الذي يوصلك إلى أفضل العطايا، وانظر كيف فطن الإمام الجنيد إلى هذه اللطيفة، فحين جاءته امرأة شاكية: ادعُ اللَّه تعالى لي فإن ابنا لي ضاع، فقال: اذهبي واصبري، فمضت ثُمَّ عادت فقالت مِثل ذلك، فقال لها الجنيد: اذهبي واصبري فمضت، ثُمَّ عادت ففعلت مِثل ذلك مرات، والجنيد يقول لها: اصبري، فقالت: عيل صبري ولم يبق لي طاقة، فادع لي، فقال الجنيد: إن كان كما قُلْت فاذهبي، فقد رجع ابنك! فمضت ثُمَّ عادت تشكر له، فقيل للجنيد: لم عرفت ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62][12]. [1] صفة الصفوة 1/454. [2] القرطبي 13/222. [3] اللطائف والظرائف 267 عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي - دار المناهل، بيروت. [4] الرسالة القشيرية 2/426. [5] تفسير القرطبي 13/223. [6] المنقذ من الضلال ص 174،175- ط دار الكتب الحديثة. [7] مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 1/306. [8] حسن: رواه الترمذي عن أنس كما في صحيح الجامع رقم: 4777. [9] صحيح: رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة والبيهقي في الأسماء كما في السلسلة الصحيحة رقم: 227. [10] حسن: رواه أحمد ,ابو داود ابن ماجة عن أسماء بنت عميس كما في صحيح الجامع رقم: 2623. [11] الزهد لأحمد بن حنبل ص 247 – ط دار الكتب العلمية. [12] الرسالة القشيرية 1/421-422. خالد أبو شادي