المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحضارة الإسلامية وضرورات العلم


المراقب العام
03-11-2020, 03:33 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



بمقدور المرء أن يؤشر على عدد من المبادئ الأساسية في الحياة والتصّور الإسلامي، تحتّم اعتماد طرائق العلم ومناهجه وكشوفه المعرفية وتطبيقاته (التقنية)، لأنها تسهم إسهاماً أكيداً في (تعزيز) هذه المبادئ وتأكيد عناصر ذلك التصوّر، وتساعد على السير بهما صوب مزيد من التنفيذ في أرض الواقع، والتحقّق في مجرى الفعل الحضاري.


ومبدأ “الاستخلاف” الذي يطرحه الإسلام في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو أحد هذه المبادئ التي يرفدها العلم ويمكن لها في الأرض.

إن الإنسان المسلم مستخلف في العالم، بعث لتطويره وإعماره وتذليل صعابه والاستجابة لتحدياته، من أجل تسوية أرضيته كي تكون أكثر ملاءمة لحياة مطمئنة تعلو على الضرورات، بعد أن تتحرر منها، وتكون أكثر قدرة على التوجه إلى أعلى، إلى خالقها جلّ وعلا، دون أن تحني ظهورها ثقله الجاذبية أو ضرورات التراب.

وهكذا فإن تنفيذ مهام الاستخلاف، ومنحها الضمانات الكافية، وإعانتها على تحقيق أهدافها في التقدم الدائم، لن يتأتى بدون اعتماد طرائق البحث العلمي ومناهجه للكشف عن سنن العالم والطبيعة ونواميس الكون من أجل الإفادة من طاقاتهما المذخورة وتحقيق أكبر قدر من الوفاق بين الإنسان وبين محيطه. وبدون ذلك، فإن مبدأ الاستخلاف لن يكون بأكثر من نظرية أو عقيدة تسبح في الفراغ.

وثمة ذلك المبدأ الأساس من مباديء الحياة والفكر الإسلامي: التوازن بين الحاجات الروحية والمادية. وهي مسألة عميقة في نسيج القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث نراها تأخذ أكثر من اتجاه وتتلّبس أكثر من شكل. ولطالما غفلنا عن واحدة من أشد البديهيات وضوحاً في هذا المجال، وهي أن الله سبحانه ما دام قد سخّر لنا الأرض بما ينسجم ودورنا في العالم، فإن من التناقض الواضح المرفوض في الإسلام قطعياً، أن يركّب الإنسان -من قبل الله سبحانه- تركيباً معيناً، وأن تسخّر الأرض -بإرادة الله سبحانه- لتلبية متطلبات هذا التركيب، ثم تجيء الأديان -من عند الله أيضاً- لكي تفصل بين الروحي والمادي وتجنح باتجاه الأول، ولكي تنصب الحواجز وتقيم الأسلاك الشائكة بين مطالب التركيب الآدمي وبين خيرات الأرض ومنافعها المسخّرة.

وما دام الأمر كذلك.. ما دام أنه لا حياة إسلامية بمعنى الكلمة، إن لم يتحقق ذلك التوازن العادل بين طرفي التكوين الإنساني، بل في نسيج هذا التكوين بشكل أدق، وما دام قد أريد للتجربة الإسلامية أن تتحرك على أرض الواقع وتصّوغ إنساناً متوازناً قديراً على الفعل والحركة، غير متأزم أو جانح أو مكبوت، فلابدّ من طرائق العلم وحقائقه وتطبيقاته، لتنفيذ هذه الرؤية التعادلية التي لا نجدها في أي مذهب أو عقيدة أخرى في هذا العالم بهذا القدر من الشمولية والالتحام.

هناك -أيضاً- مبدأ (التسخير) وهو ملمح أساسي من ملامح التصوّر الإسلامي للكون والحياة، يحتم ولا ريب اعتماد العلم لتحويله إلى أرض الواقع والتحقّق بعطائه الكريم.

إن العالم والطبيعة، وفق النظرة الإسلامية، قد سخّرا للإنسان تسخيراً، والله سبحانه قد حدّد أبعادهما وقوانينهما ونظمهما وأحجامهما بما يتلاءم والمهمة الأساسية لخلافة الإنسان في العالم وقدرته على التعامل مع الطبيعة تعاملاً إيجابياً فاعلاً.

ولقد أراد الإسلام أن يقدّم طريقاً أو منهجاً وسطاً بصدد هذا التعامل فأعلن مبدأ تسخير الطبيعة لخدمة الأهداف الإنسانية، ولكنه في الوقت نفسه، ضبط صيغ التعامل بين الطرفين بقيم ومبادئ وأعراف تحقق أقصى درجات التكشف والإبداع، وتنشئ أكثر الصيغ الحضارية ملاءمة لطموح الإنسان ومكانته في الكون..

وبدون اعتماد قدرات العلم، منهجاً وحقائق وتطبيقاً، فلن يكون بمقدور أية جماعة إسلامية أن تنفذ مبدأ التسخير وأن تحوّله إلى فعل متحقّق.

تبقى ـ أخيراً ـ ضرورة اعتماد العلم للتحقق من واحد من أهم المبادئ في المنظور الإسلامي، والديني عموماً، وهوالارتباط المحتوم بين نظام الخلق المعجز ووجود الخالق سبحانه.

إن العلم هوالأداة التي تكشف عن هذا الارتباط، وتضيئه وتزيده إيضاحاً. ولقد كتب الكثيرون عن معجزة الخلق، وقطع حشود من العلماء أعمارهم بحثاً وتنقيباً فانتهوا إلى إحدى المسلّمات الكبرى في تاريخ العلم: أنه لابدّ للخلق من خالق.. مسألة محسومة لا تقبل ” لجاجة ولا إنكاراً.. إن الخلق ما دام على هذه الدرجة من النظام والضبط والدقة والتوافق والحركة المرسومة والهدف المقصود والارتباطات الهادفة، فلابدّ أن يكون صادراً عن إرادة فوقية قادرة مدبرة.. إنها مسألة محسومة برياضيات العلم ومعادلاته.. والشواهد كثيرة، والنتائج التي يتمخض عنها السعي العلمي الجاد لا تعدّ ولا تحصى. وسوف يكون من قبيل التكرار لو اقتبسنا هنا نصوصاً للنتائج والشهادات والأقوال.

وعلى هذا فإن البحث العلمي يعد ضرورة من ضرورات الحياة الإسلامية ما دام يمارس هذه الوظيفة الخطيرة في الكشف عن سرّ الكون والحياة، ويقود إلى صانع الكون والحياة جلّ في علاه، وفق أشد الطرائق إقناعاً، ولأنه يلتقي مع العبادة نفسها في التوجه إلى الخلاّق العظيم.