المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صيود الأوراد (غنائم الأوراد) - صيود الأوراد (5): أنعمتَ عليهم


نبيل القيسي
29-11-2020, 11:22 PM
نواصل مع ما فتح الله به تعالى من صيود الأوراد، وما زلنا مع الفاتحة، وقد وصلنا إلى قوله تعالى: {صراط الذين أنعمتَ عليهم}: فتأكيدًا على أن الفاتحة أمّ القرآن، وكأن كلَّ ما في القرآن قد خرج منها أو له أصل فيها، تصريحًا أو تلميحًا، فإن هذه الآية فيها إشارة إلى قصص الأنبياء وتاريخ الصالحين، وموكب الإيمان الضارب في التاريخ، منذ فجر الرسالات الإسلامية إلى قيام الساعة.. وقد بَيَّن الله تعالى مَن هم هؤلاء المُنعم عليهم كما في الآية الأخرى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }[النساء:69]. والذي يلفت النظر: لماذا أضاف الطريق إلى المُنعَم عليهم، رغم إنه صراط الله تعالى كما في الآيات: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ}[سبأ: 25-26] {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا}[الأنعام: 126]، {صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1، وسبأ: 6]، فما دلالة ذلك، وما الحِكمة منه؟ ففي إضافة الطريق إلى هؤلاء الرفقة فوائد: 1- إن في إضافة الصراط إليهم تشريف لهم وإكرام، وهو في سياق المدح والامتنان، فهو إذن نوع من الترغيب في سلوكه، لأنه بسلوك صراطهم يصبح مُخلَّد الذكر مثلهم، ممدوحًا عند الله محمودًا مثلهم، والواحد مِن الناس لو يعلم أن وجودَه مع قومٍ يجعل وسائل الإعلام تَذكر اسمه أو تُظهِر جسمه لاجتهدَ في الكونِ معهم، فما بالك بأن يذكره الله رب العالمين في أرقى أنقى وأبقى وسيلة علم وإعلام؟... 2- فيه أيضًا تشجيعٌ على سلوك هذا الطريق وإيناسٌ من الوحشة، بأنك لست وحدك السالك فيه، فقد سبقك إليه هؤلاء، وسيلحق بك آخرون.. فلا تستوحش مِن قلة السالكين حولك وعلى مرأى عين رأسك، ولكن انظر بعين قلبك تجد جمَّا غفيرًا وجمعًا كريمًا يمتدُّ صَفُّهُ على طول الطريق.. هداني الله إلى هذا بعد تأمل وتدبُّر ففرحتُ به، ثم وجدتُّ ابن القيم يقول: "فأضاف الصراطَ إلى الرفيق السالكين له، وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرا.."[مدارج السالكين، 1/ 46]، فحمدتُ الله تعالى على التوفيق. 3- فيه أيضًا أن وجود الدعاة الهداة ضرورة من ضرورات المنهج، وسبب من أسباب الهداية وتحقيق منهج الله في الأرض، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر يقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»(مسلم، برقم:[1763]) فبهم يُنصر دين الله وتقوم الحجة على الناس، فعلى المسلم أن يعيش إسلامه في رفقة طيبة، مهما قلَّ عددها، لأنه كما في الحديث: «عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية»(أبو داوود، السنن، رقم:[ 547])، وهو إرث عظيم ورَّثه لنا الحبيب فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن»(الترمذي، السنن، برقم:[ 2165] وقال حسن صحيح). 4- فيه أيضًا إبراز القدوة: وكأنه يقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأنعام:90]، ولأنَّ الدعوة التنظرية لا تكفي ولو كانت أطنانًا من الكلام البليغ الجميل، والدعاء أيضًا وحده لا يُتَوقَّف عليه كما سبق في صيد: {اِهدنا}، وإنما لا بد لك أن تتخذ لنفسك قدوة صالحة تقتدي بها، ورفقة صالحة تتعاون معها وتستأنس بها.. فإن لم تجد فيمن حولك.. فاذكر هؤلاء الذين أنعم الله عليهم وابحث عن واحد منهم تقتدي به، وعلى رأسهم نجم القدوات الأعظم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]. فإنه مِن أكثرِ ما أضر بالدعوة والتربية والالتزام اليوم هو نقصان القدوة الصالحة، ناهيك عن شبابنا وشابَّاتنا الذين اتخذوا نجوم الفن الآفلة قدوات فهَوَوْا بهم في مدارك الهوى، ولو اقتدوا بالمُنعَم عليهم لعَلَوْا في مدارج الهُدى. 5- إنه مهما هالتك النِّعم فإن النِّعمة الحقيقية هي التي فيها هؤلاء، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أنعم الناس وهو يربط الحجرين على بطنه من الجوع، وما توقد نارٌ في بيته الأهلة ذوات العدد، ويؤثِّر الحصير في جنبه حتى يبكي عمر.. وهو مع ذلك على رأس الذين أنعم الله عليهم.. فإن فاتتك هذه النِّعمة فأنت مُعدَم وإن حُزت مفاتيح قارون.. والفرق في التالية: 6- {أنعمتَ} بيان أن الهداية إلى الصراط المستقيم نِعمة، نعمة عظيمة لا تدانيها نعمة، مما يتنافس فيه الناس ويتكاثرون فيه، وكل ما في أيدي الناس من عَرضٍ ومتاع، بلا هداية، فإنما هو { نَعمة} بفتح النون، وليس {نِعمة} بكسر النون.. فاحرص على النِّعمة وإياك والنَّعمة: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}[المزمل: 14]، {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ}[الدخان:25-28]، وإنما تكون ممدوحة حين تكون مثل: {نِعْمَتَ اللَّه}. والفرق كالرزق المبارك والرزق المشؤوم. قال أبو منصور: "النَّعْمة، بِفَتْحِ النُّونِ، التَّنَعُّمُ، والنِّعْمة، بِكَسْرِ النُّونِ، إِنْعَامُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ"[لسان العرب: 13/ 104]، وفي تاج العروس: "النِّعمةُ:-بكسر النُّون- مَا قُصِدَ بِه الإحْسَانُ والنَّفْعُ"[انظر: تاج العروس:33/ 399]. فالنَّعمة بفتح النون: هي مجرد المسرة والفرح والترفه بانفتاح أسبابها الدنيوية، كمال في الحديث: «كيف أَنْعَم وصاحب القرن قد التقمه؟» أي كيف أتنعم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط»(مسلم، في صحيحه، بقرم:[ 2807]).