المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإيمان في الحضارة الإسلامية


المراقب العام
23-12-2020, 07:57 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



حديث جبريل \ لم يتضمن التعريف بالإيمان فقط، ولكنه تضمن التعريف بالإسلام، والإيمان، والإحسان، وأشراط الساعة، ليكوِّن مجْمُوع ذلك ((الدِّين)) بإيمانه الباطني، وإسلامه الشامل لكل الأعمال الصالحة سواء تعلق الأمْرُ بأركان العبادات، من صلاة وزكاة، وصوم، وحج، أو تعلق الأمْرُ بإقامة الشريعة في مجالات المعاملات، والحدود والجزاءات، أو تعلق الأمْرُ بالفضائل والأخلاق والسلوكات إلى غير ذلك مما هو من صميم الإسلام الذي يُفْصِح عن مكنون الإيمان المستقر في القلب. أما الإحسان فهو عبارة عن إتقان الإخلاص في كل عمل من أعمال الإسلام سواء كان صلاة أو زكاة أو صياماً، أو صدقة أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، أو قياماً بدعوة، أو دفاعاً عن مظلوم.. أما التعريف بأشراط الساعة فهو عبارة عن التوعية بالأخطار المحدقة بالدين إذا لم نَقُم بحراسته من أصحاب الهوى الذين يعملون على خدمة مصالحهم الخاصة سواء باسم الدين، أو باسم التجديد للدين، أو باسم تحييد الدين أو باسم تشويه الدين، أو باسم المحاربة الصريحة للدين. فكلٌّ من الإيمان والإسلام والإحسان وإدراك الأخطار المستقبلية يُكوِّن مجموع العناصر الأساسية للدين، والتفريطُ في جزء من أجزاء الدين أو عنصر من عناصر الدين الأساسية يكوِّن ثَغْرة في الدين، كلما تباطأنا في سَدِّها وترميمها وإصلاحها أعقبتْها ثغرة أخرى، فأخرى، فأخرى…. إلى العُرْوة الأخيرة التي هي الصلاة، والتي إن انتَهَتْ كان ذلك إيذانا بقيام الساعة {وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثمَّ لا يَكُونُوا أمْثَالَكُم}(محمد : 38).

وسورة العصر أقصر سورة تجمَعُ الدين كله، لأن التواصي بالحق يجمع كل الوسائل الكفيلة بقيام الدين من جهة، وكل الوسائل الكفيلة بصيانته وحفظه وحراسته من الناسفات والهادمات والمفسدات الصغرى والكبرى، أما التواصي بالصبر على الحق فهو مُنْذِرٌ بأن الأمْرَ ليس سهلا، ويحتاج إلى صبر ومصابرة، وجهاد ومجاهدة، وتحمُّل ومعاناة، وكُلّها صفات لا يقوم بها إلاّ أولو العزم من الدّعاة والعلماء والوُلاّة الربّانيين الذين تاجروا مع الله تعالى تجارة رابحة. فانعدام التواصي بالحق تبعه الدّخول إلى حصْن الأعمال الصالحة، حيث بدأ التخريب في الصلاة، والزكاة والصيام، وجميع أنواع المعاملة، ثم انتقل إلى تقبيح المعروف وتحسين المنكر، ثم خطا خطوة أخرى أجْرأ منها وأفظع، حيث انتقل التخريب إلى تشويه كل داعٍ للخير أو متشبث به، وتشجيع لكل مُفسد أثيم، وأصبح الجهر بالكفر والفسق والفجور مدنيةً وحضارةً، والدّعوة للإيمان بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب والجنة والنار غَيْباً من الغيبيّات لا يحترفها إلا المهووسون المشعوذون الدجالون المتاجرون بالدين لتحقيق المكاسب المادية، لأن هذا هو مبلغهم من العلم، علمٌ ترابي يرْشَحُ من عقل ترابي، بنهَم ترابي، وهدف ترابي، وظلام ترابي، فأنَّى للقلب المتحجِّر المتكلِّس أن يخترقه نور الهدى الصادر من الله نور السماوات والأرض؟!.

وكما رأينا حديث جبريل \ يُبيّن أسُسَ الدِّين بسَقْفِه الإحْساني نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبيّن أمْر الإسلام بخطوطٍ أخرى -تشبه ما ورد في حديث جبريل \- ولكن بأسلوب يوضح المراحل المتدرجة تصاعديّاً، وذلك في حديث معاذ رضي الله عنه : ((عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسِير، فقلت : يا رسول الله أخبِرْنِي بعمل يُدخلني الجنة ويُباعِدُني عن النار، قال : ((لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه : الخط الأول : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئا))، الخط الثاني ((وتقيم الصلاة، وتوتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت))، الخط الثالث : ثم قال : ((ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل شعارُ الصالحين، قال ثم تلا {تتجَافَى جُنُوبُهم عن المَضَاجِع يَدْعُون ربّهم خَوفاً وطَمَعاً وممّا رزقنَاهُم يُنفِقُون فلا تَعلم نفس ما أُخْفِي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانُوا يعملون}(السجدة : 15)، ثم قال توضيحا لأمر الإسلام بأسلوب وأمثلة أخرى : ((ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟!)) قلتُ بلى يا رسول الله قال : الخط الأول : ((رأس الأمر : الإسلام)) بعقيدته وأركانه وشريعته وأخلاقه طبعا. الخط الثاني : ((وعموده الصلاة)) لأنه لا دين بدون صلاة، ولا عقيدة صحيحة بدون صلاة. الخط الثالث : ((وذروة سنامه : الجهاد)) لأنه الوسيلة الوحيدة لحفظ الإسلام في الرأس والعمود سواء كان الجهاد تعليميا أو اقتصاديا، أو سياسيا، أو دفاعا عن الأوطان الإسلامية. الخط الرابع : ثم قال : ((ألاً أُخْبِرك بِمِلاكِ ذلك كُلِّه؟!)) قلت بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، وقال : ((كُفَّ عَلَىْك هَذَا)) وهذا ذِروة الإحسان، أن يصبح اللسان غير مشتغل إلا بما يرضي الله تعالى، من تلاوة للقرآن، ودعوة للإسلام، وذكر الله تعالى، وإصْلاح بين الناس، وأمر بمعروف أو نهي عن منكر.. فرحِم الله امْرأً قال خيْراً فغَنِم، أو سَكَتَ فَسَلم. فقلت : يا نبيَّ الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال : ((ثَكِلَتْكَ أمُّكَ يا مُعَاذُ، وهَلْ يَكُبُّ النّاسَ فِي النّارِ على وجُوهِهِم -أو على مناخرهم- إلاّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))(1).
المفضل فلواتي – رحمه الله تعالى
—-

1- الحديث رواه الترمذي في الإيمان وصححه انظر التاج الجامع من أحاديث الــــرسول 49/2- 50.

وحصائد الألسنة : ج حصيد بمعنى محصود، فكأن اللسان آلة الحَصْد، والأثر الذي يُحدثُه هو المنتوج المحصود، ونظراً لخطورة اللسان -والإعلام بجميع أنواعه لسان- فإننا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -كما جاء في الصحيحين : ((إنّ الرّجُلَ ليتَكَلَّم بالكلمةِ ما يتَبَيّن فيها يزِلُّ بِهَا في النّارِ أبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ)) وقد دخل عمر على أبي بكر رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه، فقال عمر : مَهْ، غفر الله لك. قال أبو بكر : هذا الذي أورَدَني المهَالِك، وقال ابن بُريدة رأيت ابن عباس رضي الله عنه أخذ بلسانه وهو يقول : ويحك قل خيراً تغنم، أو اسكتْ عن سوء تسلَم، وإلا فاعلَم أنك ستَنْدَم، إذن ضبط اللسان في المنهج الإسلامي من أعلى أنواع الجهاد.

انظر ايضاح المعاني الخفية ص 247.