المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شر غائبة منتظر


امانى يسرى محمد
25-01-2021, 09:45 PM
عباد الله، مع مرور الأعوام، وتعاقب الليالي والأيام، تتكاثر الفتن، وتتعاظم المحن، فتنٌ كقِطَعِ الليل المظلم يُرقِّق بعضها بعضًا، فتن شديدة يمحق الله تعالى بها الكافرين والمنافقين، ويُثبِّت بها المؤمنين، ويضاعف أجورهم، وبين يدي الساعة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم سنواتٌ خدَّاعات، يُخوَّن فيها الأمين، ويُؤتمن الخائن، ويُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب الصادق، يصبح المعروف فيها منكرًا، والمنكر معروفًا، تنقلب فيها الموازين، وتختلُّ الفِطَرُ، ويتعاظم الشر؛ ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3].



إلا أن هناك فتنةً عظمى، وبَلِيَّةً كبرى، لن يمر على الناس فتنةٌ أشدُّ منها منذ أن خُلق آدم، وإلى قيام الساعة، تلكم يا عباد الله هي فتنة المسيح الدجال، وما أدراكم ما المسيح الدجال؟! رأس الكفر، ومستنقع الفتن، وأسُّ الضلال، وشرُّ غائبٍ يُنتظر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بادروا بالأعمال سبعًا؛ هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا، أو غِنًى مُطغيًا، أو مرضًا مُفسدًا، أو هِرَمًا مُفنِّدًا، أو موتًا مُجْهِزًا، أو الدجال؛ فشرُّ غائب يُنتظر، أو الساعة، والساعةُ أدهى وأمرُّ))، والحديث وإن كان في سنده نظر، إلا أن معناه صحيح.



وقد حذَّر المصطفى صلى الله عليه وسلم أمَّتَهُ الدجال كثيرًا، بل إنه ما كان يخاف عليها أمرًا أعظمَ من الدجال؛ وذلك لعِظَمِ فتنته، وضخامة بليته؛ فعن النواس بن سمعان رضي الله عنه: ((أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ذات غَدَاة، فخفض فيه ورفع، حتى ظننَّاه في طائفة النخل))؛ يعني: كأنه في أطراف المدينة؛ [رواه مسلم]، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتخوَّفون الدجال، ويستعيذون بالله من فتنته العظيمة؛ التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((ما كانت ولا تكون فتنة حتى تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال، وما من نبيٍّ إلا وحذَّر قومه الدجال))؛ [والحديث صحيح].



والدجال رجل من بني آدم، له صفات كثيرة، جاءت بها أحاديث صحيحة لتعريف الناس بحقيقته، وتحذيرهم من شرِّه وخطورته.



وهذه الصفات تميزه عن غيره من الناس بكل وضوح، فلا يُفتَن به إلا جاهل غلبت عليه شِقْوَتُهُ، نعوذ بعزة الله وقدرته من كل فتنة وشر.



ومن هذه الصفات التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم أنه: ((شابٌّ أحمر، قصير أفحج، جَعْدُ الرأس، أجلى الجبهة، عريض النحر، ممسوح العين اليمنى، وعينه اليسرى عليها لحمة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مسلم يكتب أو لا يكتب، وهو عقيم لا يُولَد له))، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال بين ظهراني الناس، فقال: ((إن الله ليس بأعورَ، ألَا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينُهُ عِنَبَةٌ طافِيَةٌ))؛ [متفق عليه]، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه كافر، ثم تهجَّاها: "ك ف ر"، يقرؤه كل مسلم))؛ [متفق عليه].



أيها المسلمون، والدجال يخرج من جهة المشرق؛ من خراسان، من يهودية أصبهان، ثم يسير في الأرض فلا يترك بلدًا إلا دخله، عدا مكة والمدينة، فلا يستطيع دخولهما؛ لأن الملائكة تحرسها من كل جهاتها؛ فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدجال يخرج من أرض بالمشرق يُقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المَجانُّ المُطْرَقَةُ))، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفًا من اليهود))؛ [والحديث صححه ابن حجر]، وفي رواية لمسلم: ((يَتْبَعُ الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطَّيَالِسَةُ)).



وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الدجال أنه يقول: ((وإني أُوشِكُ أن يُؤذَن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدعُ قريةً إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطَيْبَةَ؛ فهما محرمتانِ عليَّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدةً منهما، استقبلني مَلَكٌ بيده السيف صَلْتًا يصُدُّني عنها، وإن على كل نَقْبٍ منها ملائكة يحرسونها))؛ [رواه مسلم].



وثبت في الحديث الصحيح: ((أن الدجال لا يدخل أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطور، والمسجد الأقصى))، وجاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((وإن من فتنته أن معه جنةً ونارًا، فنارُهُ جنةٌ وجنتُهُ نار، فمن ابتُليَ بناره، فلْيَسْتَغِثْ بالله، وليقرأ فواتح الكهف، فتكون عليه بَرْدًا وسلامًا، كما كانت النار على إبراهيم، وإن من فتنته أن يقول لأعرابيٍّ: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بنيَّ، اتَّبِعْهُ؛ فإنه ربك، وإن من فتنته أن يُسلَّط على نفس واحدة، فيقتلها وينشرها بالمنشار، حتى يَلقَى شقَّتَيْنِ ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا، فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له ربًّا غيري، فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وأنت عدوُّ الله، أنت الدجال، والله ما كنت بعدُ أشدَّ بصيرةً بك مني اليوم))؛ [صححه الألباني].



أيها المسلمون، وفتنة الدجال أعظم الفتن منذ أن خلق الله آدم وإلى قيام الساعة؛ وذلك بسبب ما يُجريه الله على يديه من الخوارق العظيمة التي تُبهر العقول، وتحيِّر الألباب، وعندها يتميز المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب؛ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلقٌ أكبر من الدجال))؛ [رواه مسلم]، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان؛ أحدهما رأيَ العين ماءٌ أبيض، والآخر رأيَ العين نارٌ تأجَّج، فإما أدركَنَّ أحدٌ، فليأتِ النهر الذي يراه نارًا، وليُغمِّض، ثم لْيُطَأطِئ رأسه، فيشرب منه؛ فإنه ماء بارد))؛ [رواه مسلم]، وجاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وصف الدجال: ((إنه خارجٌ خُلَّةً بين الشأم والعراق، فعاث يمينًا وعاث شمالًا، يا عباد الله، فاثبُتوا، قلنا: يا رسول الله، وما لَبْثُهُ في الأرض؟ قال: أربعون يومًا؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كَسَنَةٍ، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدُروا له قدره، قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرتْهُ الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتُمطر، والأرض فتنبِتُ، فَتَرُوح عليهم سارِحَتُهم أطولَ ما كانت ذرًا، وأسبغه ضُرُوعًا، وأمدَّه خواصرَ، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردُّون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون مُمْحِلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخَرِبة فيقول لها: أخرجي كنوزكِ، فتتبعه كنوزها كيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثم يدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جَزْلَتَيْنِ رميةَ الغرض، ثم يدعوه، فيُقبل ويتهلَّل وجهه يضحك))؛ [رواه مسلم]، وجاء في رواية البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه – الدجال - يأتي وهو محرَّمٌ عليه أن يدخل نِقابَ المدينة، فينزل بعض السِّباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذٍ رجل، وهو خير الناس - أو من خيار الناس - فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلتُ هذا، ثم أحييتُهُ، هل تشكُّون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله، ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشدَّ بصيرةً مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يُسلَّط عليه))، ويظل الدجال طوال الأربعين يومًا التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم يَعِيث في الأرض فسادًا، يضل به الله الكافرين والمنافقين، ويُثبِّت به المؤمنين، وتعمُّ فتنته، فلا ينجو منها إلا القلة من المؤمنين، ((حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند المنارة الشرقية بدمشق، فيجتمع حوله المؤمنون الثابتون، فيسير بهم قاصدًا الدجال، ويكون الدجال عند نزول عيسى متوجِّهًا إلى بيت المقدس، فيلحق به عيسى عليه السلام عند باب "لُدٍّ" - وهي بلدة قرب بيت المقدس - فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب المِلح، فيقول له عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربةً لن تفوتني، فيتداركه فيقتله بحَرْبَتِهِ، وينهزم أتباعه، فيتبعهم المؤمنون، فيقتلونهم، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبدالله، هذا يهوديٌّ خلفي، تعالَ فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود))؛ [والحديث في صحيح مسلم].



بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم.





الخطبة الثانية


الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله، وعظيم سلطانه؛ أما بعدُ:

فاتقوا الله أيها الناس، وسَلُوا الله الثبات على دينه، والسلامة من الفتن؛ فإن فتنة الدجال فتنة عظيمة، وخطره خطر كبير، فقد ورد أن الرجل يرى من نفسه الصلاح، فإذا أتى الدجال انخدع به وفُتن؛ لعظم ما يرى معه من الآيات والخوارق، أَلَا وإن قلوب العباد بين أُصبعين من أصابع الرحمن سبحانه، يقلِّبها كيف يشاء؛ ولذا كان أكثر دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، ومن حكمة الله تعالى وتقديره كثرةُ الفتن في آخر الزمان؛ لتمحيص المؤمنين ومَحْقِ الكافرين، فعلى المسلم أن يتقيَ الله سبحانه وتعالى، وأن يخلِصَ العبادة له جل وعلا، وأن يحرص على الثبات على دينه، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثٌ إذا خرجْنَ لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض))؛ [رواه مسلم].



وأرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم أمَّتَهُ إلى ما يعصم المسلم بإذن الله من الدجال؛ من ذلك: التسلح بسلاح الإيمان، واليقين بصفات الله الحسنى التي لا يشاركه فيها أحد، فيعلم المسلم أن الدجال بَشَرٌ يأكل ويشرب، والله تعالى مُنزَّهٌ عن ذلك كله، وأن الدجال أعورُ، والله جل وعلا ليس بأعورَ، وأنه ليس لأحد أن يرى ربه حتى يموت، والدجال يراه الناس عند خروجه، مؤمنهم وكافرهم.



ومن ذلك: الدعاء والتعوذ بالله تعالى من فتنته، وخاصةً في الصلاة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا تشهَّد أحدكم فَلْيَسْتَعِذْ بالله من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال))؛ [والحديث رواه مسلم].



ومنها: أنه ينبغي لكل مسلم أن يساهم في نشر أحاديث التحذير من فتنة الدجال، فقد ورد أن من علامات خروجه نسيانَ ذِكْرِهِ على المنابر؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يخرج الدجال حتى يَذْهَلَ الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر)).



ومنها: حفظ سورة الكهف؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أدرك الدجال أن يقرأ عليه فواتح سورة الكهف، وفي بعض الروايات خواتيمها؛ وجاء في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عُصم من الدجال))، وفي رواية: ((من آخر الكهف))؛ [والحديث في مسلم].



فينبغي لكل مسلم أن يحرص على قراءة سورة الكهف، وعلى حفظها، وترديدها، خصوصًا يوم الجمعة، خير يوم طلعت عليه الشمس، ونعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.



ويا ابن آدم، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحْبِبْ من شئت فإنك مفارقه، ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يَبلىب، والديان لا يموت

عبد الله محمد الطوالة
شبكة الالوكة