المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حرب القرم (1853-1856م)


المراقب العام
01-03-2021, 06:21 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif

https://islamstory.com/images/upload/content/582773164%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%852.png

كانت روسيا ترقب العلاقات البريطانيَّة العثمانيَّة بقلقٍ شديد، وتعلم أن الإنجليز لن يساعدوا العثمانيِّين إلا بهدف السيطرة على الدولة المتهاوية، وأنها -أي روسيا- إن لم تتحرَّك بشكلٍ عاجلٍ فإنها ستُفاجأ بضياع الدولة العثمانية كلِّها لصالح بريطانيا. أرادت روسيا استفزاز العثمانيِّين للحرب، وهي تعلم أن إمكاناتهم لا تسمح بمقاومتها. نعم يمكن للإنجليز أن يُشاركوا في المعارك ولكن هذا قد يكون متأخِّرًا بعد أن يكون الروس قد أخذوا ما يريدون.
استغلَّ الروس إعطاء العثمانيين فرنسا بعض الامتيازات الخاصَّة برعاية الأماكن المقدَّسة النصرانية في فلسطين، فاعترضت على ذلك، وأرسلت سفيرها للتباحث مع السلطان في شأن إعطاء حقوق مماثلة لروسيا في فلسطين، والتأكيد على مسألة رعاية روسيا للأرثوذكس في كلِّ الدولة العثمانية[1].

كانت المباحثات متشنِّجة، ومع ذلك طلبت بريطانيا من الدولة العثمانية الموافقة على طلب روسيا لتفويت فرصة الحرب عليها، ولكن الروس أثاروا مسألةً جديدة، وهي غلق المضايق أمام السفن الإنجليزيَّة، فلمَّا ماطل السلطان انسحب الروس من المفاوضات، وأغلقوا سفارتهم في إسطنبول، ومِنْ ثَمَّ أعلنوا الحرب على الدولة العثمانية في صيف 1853م[2][3].

بدأت الحرب في 3 يوليو 1853م[4] باقتحام خمسةٍ وثلاثين ألف مقاتل روسي للبغدان والإفلاق، ومِنْ ثَمَّ عبور الدانوب[5]! كان الجيش العثماني مستعدًّا في البلقان، وتمكَّن عمر باشا من توقيف مسيرة الجيش الروسي عند مدينة سليسترا Silistra البلغارية[6]. هجم الروس كذلك في القوقاز، واقتحموا شرق الأناضول، ولكن الجيش العثماني انتصر عليهم وأوقفهم بعد السيطرة على قلعة سان نيكولا[7].

كانت القوى الأوروبية تراقب الموقف، وكان الصمود العثماني أمام الغزو الروسي يُعطي الانطباع أن الدولة العثمانية يمكن أن تُحقِّق مهمَّة دحر الروس بمفردها، ومع ذلك أرسلت بريطانيا وفرنسا أساطيلهما إلى بحر إيجة قريبًا من الدردنيل ليكونا على استعدادٍ للتدخل وقت الحاجة[8]. صَدَقَ توقُّع الأوروبِّيِّين إذ تغيَّر الموقف في 30 نوفمبر لصالح الروس عندما تمكَّن الأسطول الروسي من حرق الأسطول العثماني في البحر الأسود عند ميناء سينوب Sinop شمال الأناضول[9].

كانت هذه الخطوة نقطة تحوُّلٍ في السياسة الأوروبية؛ إذ خشيت بريطانيا وفرنسا من احتلال الروس للدولة العثمانية، فاتَّفقا على بعث رسالة تحذيرٍ للإمبراطور الروسي نيكولاس الأول تحثُّه على إخلاء البغدان والإفلاق. رفض الروس التحذير، فعقد الإنجليز والفرنسيون معاهدة دفاع مشترك مع الدولة العثمانية، ثم في 28 مارس 1854م قامت الدولتان بإعلان الحرب على روسيا[10]، وعلى الفور دخلت السفن البريطانيَّة والفرنسيَّة إلى البحر الأسود، وبدا واضحًا أن العالم على أعتاب حربٍ مخيفةٍ بين الروس من ناحية، والإنجليز والفرنسيين، ومعهم العثمانيين، من جهةٍ أخرى.

كانت روسيا تعتقد أن النمسا ستقف إلى جوارها لسابق وقوف روسيا إلى جوارها في عام 1848م، منذ ستِّ سنوات فقط، أثناء قمع النمسا لثورةٍ في المجر[11]، ولكن النمسا كانت لها حساباتٌ أخرى؛ حيث كانت تخشى من التواجد الروسي في شرق أوروبا، فلم تتعاطف مع الغزو الروسي، واتجهت النمسا لاحقًا إلى مشاركة بريطانيا وفرنسا في الدفاع عن الدولة العثمانية، فعقدت معهما معاهدةً في مارس 1854م، ثم عقدت معاهدةً أخرى في أبريل مع بروسيا ضدَّ روسيا، وبعدها طلبت من روسيا سحب قوَّاتها من الإفلاق والبغدان لتمنع الحرب المرتقبة، فرضخت روسيا إزاء هذا الاجتماع الأوروبي، وسحبت قوَّاتها، ومِنْ ثَمَّ دخلت القوات النمساوية إلى الولايتين التابعتين للدولة العثمانية كقوَّات حفظ سلام إلى أن تنتهي الأزمة[12][13]. هذا الإنهاء للحرب في الدانوب لم يكن كافيًا لتوقُّف الحرب كلِّها؛ إذ وجدت بريطانيا وفرنسا الفرصة سانحةً لتدمير القوَّة الروسيَّة البحريَّة في البحر الأسود، ومِنْ ثَمَّ أكملتا المخطط دون توقف!

اختار الحلفاء أن يُوجِّهوا ضربتهم للروس في شبه جزيرة القرم، ووقع اختيارهم على ميناء سيڤاستوبول Sevastopol الاستراتيجي. قامت الأساطيل الإنجليزيَّة، والفرنسيَّة، والعثمانيَّة، بعمليَّة إنزال بري في القرم في 14 سبتمبر 1854م[14]، وبعدها بستَّة أيام -في 20 سبتمبر- انتصروا على الجيش الروسي في موقعة ألما Alma، وبات الطريق إلى سيڤاستوبول مفتوحًا[15]. تباطأ الحلفاء في حصار المدينة لأسبابٍ كثيرةٍ كان منها عدم القدرة على التنسيق الجيِّد بين الجيشين الإنجليزي والفرنسي، وكان منها انتشار الكوليرا في الجيش، وكثرة الإصابات في الجنود، بالإضافة إلى البرد القارس، وهكذا لم يستغل الحلفاء انتصارهم في ألما، وقد كلَّفهم هذا البطء عامًا كاملًا من الحصار للمدينة؛ حيث تمكَّن الروس من دعمها بالمؤن والسلاح[16][17].

في 17 فبراير 1855م حاول الروس تخليص مدينة إيوباتوريا Eupatoria على البحر الأسود، ولكنهم هُزِموا من الجيش العثماني هزيمةً كبيرة[18]، وتمكَّن الحلفاء بعد هذه الموقعة من السيطرة على المحاور التي تقود إلى سقوط سيڤاستوبول. مع أن الخسائر البشريَّة كانت قليلة في هذه المعركة إلا أن النصر الاستراتيجي كان واضحًا، وهذا رفع جدًّا من معنويَّات الجيش العثماني الذي حقَّق النصر، ولفت الأنظار إلى التقدُّم الذي حقَّقه في السنوات الأخيرة بعد التحديثات، ومع ذلك فيشهد المؤرِّخ الإنجليزي جاي أرنولد Guy Arnold أن هذا النصر أدَّى إلى تعمُّد الإنجليز والفرنسيين لتجاهل العثمانيِّين أثناء المعارك، وعدم إعطائهم واجباتٍ كبرى، لئلا يُنْسَب لهم النصر، ولئلا يشعروا بكينونتهم، وكانوا -أيضًا- يتعمَّدون عدم الاستجابة لنصائحهم العسكريَّة، ويُرْجِع المؤرِّخ الإنجليزي ذلك إلى كراهية الأوروبيِّين للأتراك على مدار السنين[19]!

إن الإنجليز والفرنسيين لم يريدوا دفاعًا قط عن الدولة العثمانية، ولم يرغبوا في قيامها البتَّة، ولم تَصْفُ قلوبهم لها في لحظة، وغاية ما هنالك أنهم يريدون التهامها بمفردهم دون الروس، والحقُّ أن هذا ليس خطأهم؛ إنما خطأ الذين شجَّعوهم على التدخل في شئون المسلمين، واستعانوا بهم على الجيش المصري قبل ذلك، وظنُّوا أن الاتكاء عليهم أفضل من التسليم لمحمد علي باشا، وهذه هي النتيجة! عمومًا كان للنصر العثماني في إيوباتوريا أثر سلبي كبير على الروس، إلى الدرجة التي يعتقد فيها بعضهم أنه عجَّل بوفاة الإمبراطور الروسي المريض نيكولاس الأول، الذي مات في 2 مارس 1855، بعد أسبوعين من الهزيمة[20]، بل يعتقد بعضهم أنه انتحر لعلمه أن هذه الموقعة ستكون سببًا في سقوط سيڤاستوبول، ومِنْ ثَمَّ الخسارة أمام الحلفاء[21]! ومع أن احتمال الانتحار بعيد، وليس عليه أدلَّةٌ كافية، إلا أن هذا الافتراض يوضِّح مدى تقدير المؤرِّخين لهذه الهزيمة الكبيرة.

استأنف الإمبراطور الروسي الجديد ألكسندر الثاني Alexander II الحرب ضدَّ الحلفاء ولكن عزيمته كانت أقل. سقطت سيڤاستوبول في 9 سبتمبر 1855م[22]. هدأت وتيرة الحرب بعد سقوط المدينة الحصينة. كانت بريطانيا ترغب في إكمال الضغط على روسيا، بينما ارتأت فرنسا أن تنهي الحرب، أمَّا النمسا فقد سعت للوساطة بشروطٍ مجحفةٍ على الروس[23]. أخيرًا اضطرَّ الإمبراطور الروسي إلى الاعتراف بالهزيمة، وقبول الصلح مع الحلفاء، فاتُّفِق على عقد مؤتمر سلام في باريس الذي انتهى بتوقيع معاهدة باريس في 30 مارس 1856[24].

كانت المعاهدة تهدف في مجملها إلى تحجيم قوَّة الروس، وتقوية الدولة العثمانية بالشكل الذي يُحقِّق توازن القوى في شرق أوروبا، وبالتالي يمنع روسيا من التضخُّم مستقبلًا على حسابها. كانت المعاهدة بمشاركة بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا، والدولة العثمانية، بالإضافة إلى النجم الصاعد أوروبيًّا مملكة سردينيا[25]، التي ستصُبح لاحقًا مملكة إيطاليا. قضت المعاهدة بتجريد البحر الأسود من السلاح، ومنع روسيا من إنشاء ترسانات عسكريَّة في موانئ البحر، أو تسيير أيِّ سفينةٍ حربيَّةٍ فيه، وأعطت المعاهدة حقَّ إدارة المضايق للدولة العثمانية، وأعادت لها المدن التي أخذتها روسيا في الحرب، وفي المقابل أعادت قوات الحلفاء المدن الروسيَّة لها، شريطة عدم بناء تحصيناتٍ عسكريَّةٍ بها.

أقرَّت المعاهدة باستقلاليَّة الدولة العثمانية، وسيادتها على أراضيها، وإن كانت قد أقرَّت بالحكم الذاتي للإفلاق والبغدان تحت رعايةٍ أوروبِّيَّة، مع بقائهما منفصلتين غير متحدتين. حدَّدت المعاهدة -أيضًا- القلاع التي يمكن للعثمانيين أن يستخدموها في صربيا، وكانت ستَّ قلاع شاملةً قلعة بلجراد. -أيضًا- نصَّت المعاهدة على حرِّيَّة الملاحة الدوليَّة في نهر الدانوب[26].

خرجت الدولة العثمانية منتصرةً في الظاهر؛ فهي لم تفقد شيئًا من أراضيها، وحقَّقت النصر العسكري في بعض المعارك، ومع ذلك لم يكن الأمر إيجابيًّا تمامًا! فالنصر الحاسم تحقَّق بدخول بريطانيا وفرنسا، وكان تدخلهما في الشأن العثماني سافرًا، وظهر ضعف الحكومة العثمانية البالغ الذي منعها من أخذ أيِّ قرارٍ يُعارض السياسة الأوروبِّيَّة، وخاصَّةً الإنجليزيَّة. -أيضًا- كانت الحرب عبئًا اقتصاديًّا كبيرًا على الدولة. بالإضافة إلى ما سبق كان تدخل الدول الأوروبية في شأن الإفلاق والبغدان من الأمور الدافعة إلى استقلالهما لاحقًا، حيث برز عدم قدرة العثمانيين على الدفاع عنهما.

أخيرًا كانت حرب القرم لافتةً لأنظار الروس إلى أن دولتهم وجيشهم يحتاجان إلى إصلاحٍ وتحديث، وهذا ما فعله الإمبراطور الجديد ألكسندر الثاني، وسيكون لهذا الإصلاح أثرٌ على العلاقة مع الدولة العثمانية لصالح الروس[27].




[1] طوسون، عمر: الجيش المصري في الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم 1853-1858، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1416هـ=1996م (ب). الصفحات 45، 46.
[2] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. الصفحات 494، 495.
[3] طقوش، محمد سهيل: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1434هـ=2013م صفحة 388.
[4] برون، جفري: تاريخ أوروبا الحديث، ترجمة: علي المزروقي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان–الأردن، 2006م.صفحة 503.
[5] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988، صفحة 2/48.
[6] Badem, Candan: The Ottoman Crimean War: (1853–1856), Brill, Leiden, Netherlands, 2010., pp. 101-109.
[7] فريد، 1981 صفحة 497.
[8] Sondhaus, Lawrence: Naval Warfare, 1815–1914, Routledge, London, UK, 2001., p. 57.
[9] Mikaberidze, Alexander (Editor): Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2011 (A)., vol. 2, p. 837.
[10] Lambert, Andrew: The Crimean War: British Grand Strategy Against Russia, 1853–56, Ashgate Publishing Limited, Surrey, UK, Second Edition, 2011., pp. 94, 97.
[11] فريد، 1981 صفحة 496.
[12] سنو، عبد الرؤوف: العلاقات الروسية – العثمانية (1687 - 1878): حرب القرم (1853 - 1856)، مجلة تاريخ العرب والعالم، دار النشر العربية للدراسات والتوثيق، بيروت، العددان 77-78، الجزء السابع، 1985م (أ). صفحة 37.
[13] كامل، مصطفى: المسألة الشرقية، مطبعة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1898م. الصفحات 124، 126، 127.
[14] طوسون، 1996 (ب) صفحة 188.
[15] Figes, 2010, p. 216.
[16] فشر، هربرت. أ. ل.: تاريخ أوروبا في العصر الحديث (1789-1950)، ترجمة: أحمد نجيب هاشم، وديع الضبع، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، 1972م.صفحة 224.
[17] Sweetman, John: The Crimean War: Essential Histories, Osprey Publishing, Oxford, UK, 2001., p.89.
[18] Clodfelter, Micheal: Warfare and Armed Conflicts: A Statistical Encyclopedia of Casualty and Other Figures, 1492-2015, McFarland & Company, Inc., Publishers, Jefferson, North Carolina, USA, Fourth Edition, 2017., p. 179.
[19] Arnold, Guy: Historical Dictionary of the Crimean War, The Scarecrow Press, Lanham, Maryland, USA, 2002., p. 147.
[20] Radzinsky, Edvard: Alexander II: The Last Great Tsar, Translated: Antonina W. Bouis, Free Press, New York, USA, 2005., p. 96.
[21] Kapustina, 2015, p. 292.
[22] برون، 2006 صفحة 507.
[23] فشر، 1972 الصفحات 224، 225.
[24] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 291.
[25] Rozakis, Christos L. & Stagos, Petros N.: The Turkish Straits, Martinus Nijhoff Publishers, Leiden, Netherlands, 1987., p. 85.
[26] Hurewitz, J. C. (Editor): The Middle East and North Africa in World Politics: A Documentary Record, Compiled and Translated: J. C. Hurewitz, D. Van Nostrand Company, New York, USA, 1956., vol. 1, pp. 153-156.
[27] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 2/ 1084- 1088.