المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فتح إدرنة


المراقب العام
22-03-2021, 07:56 AM
https://islamstory.com/images/upload/content/1726038969%D9%81%D8%AA%D8%AD.gif

بدأ مراد الأوَّل حكمه بالسيطرة على مدينة أدريانوبل Adrianople البيزنطيَّة، وكان ذلك على الأغلب في السنة نفسها التي بدأ فيها حكمه؛ أي في عام 1362م[1]، وقد غيَّر اسمها إلى إدرنة Edirne. والحربُ، في الواقع، تقليديَّةٌ بين المسلمين والبيزنطيين، والعداء تاريخي، وقد استمرَّ حتى هذه اللحظة أكثر من سبعة قرون، وسيستمرُّ أكثر من ذلك. التفكير في البدء بإدرنة كان رائعًا من مراد الأوَّل؛ حيث إنَّ السيطرة على المدينة تُحقِّق عدَّة فوائد دفعةً واحدة؛ فهي أوَّلًا مدينة كبيرة ذات إمكانيَّات اقتصاديَّة وعسكريَّة كبيرة، وخسارة الدولة البيزنطيَّة لها تعني الكثير، وثانيًا ستؤدِّي السيطرة على إدرنة إلى تمزيق الدولة البيزنطيَّة، وعزل ممتلكاتها الأوروبيَّة عن القسطنطينيَّة مركز الحكم، وثالثًا -وهذا مهمٌّ جدًّا- هو أنَّ السيطرة على إدرنة ستُؤدِّي إلى السيطرة على كلِّ المحاور الاستراتيجيَّة في أوروبَّا الشرقيَّة، وهذا يحتاج إلى توضيحٍ يسير.

تُعتبر إدرنة هي مفتاح شرق أوروبَّا بكامله؛ وذلك لأنَّ طرق المواصلات الرئيسة في هذا الجزء من أوروبَّا في ذلك الوقت -وربَّما إلى الآن- كانت خمسة؛ وكلها يمرُّ بهذه المدينة الحصينة. وفَهْمُ حركة هذه الطرق سيفيد في فَهْمِ قصة مراد الأول، والدولة العثمانية بشكلٍ عام، وكانت هذه الطرق على النحو التالي[2]:

الطريق الأول؛ وهو محور القسطنطينيَّة، وهو طريق شمالي شرقي من إدرنة إلى القسطنطينيَّة، ومن خلالها يعبر إلى الأناضول، ثُمَّ البلاد العربيَّة، وإيران، وروسيا؛ فهذا الطريق أساسيٌّ لمن أراد أن ينقل شيئًا من آسيا إلى أوروبَّا برًّا، والعكس كذلك.

الطريق الثاني شماليٌّ، ويخرج من إدرنة مخترقًا بلغاريا إلى حدود مولدوڤا الغربيَّة، ومحازيًا لنهر بروت Prut حتى يصل إلى أوكرانيا؛ ومن ثَمَّ جنوب بولندا.

الطريق الثالث يُعرف بالطريق المركزي الكبير، ويبدأ من إدرنة، ثم يتَّجه غربًا، مرورًا بصوفيا Sofia البلغارية، ونيش Niš، وبلجراد Belgrade، الصربيتين، وبودابست Budapest المجرية، وهو في غاية الأهميَّة، ويتفرَّع منه طريقٌ آخر خطر من عند صوفِيا إلى سكوبيه Skopje المقدونية، وسراييڤو Sarajevo، وموستار Mostar البوسنيتين، قبل أن يصل إلى دوبروڤنيك Dubrovnik الكرواتية على البحر الأدرياتيكي.

الطريق الرابع يقع في الجنوب من الطريق السابق، ويتَّجه غربًا كذلك، ويمرُّ بسيرز Serres، ثُمَّ سالونيك Salonika، اليونانيتين، ثم موناستير Manastır (Bitola)، وأوهريد Ochrid المقدونيتين، حتى يصل إلى البحر الأدرياتيكي غربًا عند دوريس Durrës الألبانية.

الطريق الخامس والأخير طريق قصير، ولكنَّه مهمٌّ استراتيجيًّا، ويتَّجه جنوبًا إلى جاليبولي.

هذه هي الطرق الرئيسة في البلقان، وكلُّها تمرُّ -كما رأينا- بإدرنة أساسًا، وهي طرقٌ رومانيَّةٌ قديمة مرَّت بأهمِّ المدن في البلقان، أو يُمكن القول: إنَّ المدن المهمة أُنشأت -أو كبرت- على هذه الطرق، وأهميَّة هذه الطرق ليست عسكريَّة فقط؛ إنَّما هي أهميَّة تجاريَّة أيضًا؛ حيث يتحكَّم الذي يُسيطر على هذه المحاور في حركة البضائع، ويُمكن له فرض الضرائب، كما يستطيع ضرب الحصار المميت على الدولة أو المدينة التي يُريد.

الآن فهمنا أنَّ سيطرة مراد الأول على مدينة إدرنة تعني سيطرته فعليًّا على كلِّ الشرايين التجاريَّة والعسكريَّة لشرق أوروبَّا، وسيتحكَّم ليس فقط في الجوانب العسكريَّة والأمنيَّة لأوروبَّا بكاملها؛ بل في التجارة والاقتصاد، ولا شَكَّ أنَّ هذا سيكون له آثارٌ كبرى، خاصَّةً أنَّ هذه السيطرة خنقت القسطنطينيَّة، وهي أهمُّ مدينةٍ بلا جدال في شرق أوروبَّا كلِّه.

وبالإضافة إلى هذه الآثار العظيمة للسيطرة على إدرنة فإنَّ هذه الخطوات أدَّت إلى نتيجةٍ أخرى خطرة، وهي تمزيق الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة من منتصفها! فواقع الأمر أنَّ أملاك الدولة البيزنطيَّة في أوروبَّا في هذه المرحلة كانت تقتصر على القسطنطينيَّة ونواحيها، بالإضافة إلى معظم اليونان، فكانت السيطرة على إدرنة تعني تمزيق الدولة البيزنطيَّة إلى قسمين: واحد شمالي شرقي، وهو القسطنطينيَّة، وآخر جنوبي وهو اليونان، وأهمُّ مراكزه سالونيك وشبه جزيرة المورة، وهذا التمزيق أدَّى إلى إضعاف الجزئين معًا بعد أن فقدا التواصل البرِّي، ولم يعد أمامهما إلَّا التواصل عن طريق البحر، وهذا بدوره ليس آمنًا على الرغم من ضعف الأسطول العثماني في هذه المرحلة.

ولم يكتفِ مراد الأوَّل بذلك إنَّما خطا خطوةً عبقريَّةً من الناحية الاستراتيجيَّة أوضحت مدى ذكائه وحنكته، وفي الوقت نفسه أوضحت رؤيته المستقبليَّة للدولة العثمانيَّة، وهذه الخطوة هي نقل العاصمة العثمانيَّة من بورصا بالأناضول إلى إدرنة بأوروبَّا[3]!

كان نقل العاصمة يعني نقل القوَّات الرئيسة إلى إدرنة، وهذا يعني قوَّة الدفاع عنها، وكان يعني نقل طاقم الحكم والإدارة إلى هذه المدينة مع ما يترتَّب عليه من زيادة قيمة المدينة عند الدولة، وأهمُّ من كلِّ ذلك هو نقل المسلمين من الأناضول إلى هذه المدينة الأولى في الدولة، وهذا أدَّى إلى أسلمة المدينة، أو تتريكها (تحويلها إلى تركيَّة) في وقتٍ قصير، وهذا سيُؤدِّي بلا شك إلى بقاء هذه المدينة المهمَّة في حوزة الدولة العثمانيَّة.

وهذا التغيير للعاصمة أوضح الرؤية المستقبليَّة لمراد الأوَّل؛ حيث إنَّه أوضح بشكلٍ جليٍّ أنَّ المستقبل هو الانسياح في أوروبَّا، وأنَّ الفتوح الإسلاميَّة ستأخذ شكلًا جدِّيًّا في هذه المناطق؛ لأنَّ العاصمة لن تكون على أطراف الدولة؛ بل عادةً ما تكون في الأماكن الاستراتيجيَّة ذات الحماية الكبرى، وهذا يعني أنَّ إدرنة ستكون في وسط الدولة العثمانيَّة، وهذا يعني فتح شرق أوروبَّا، وعندها تُصبح إدرنة متوسِّطة بين الأناضول والشرق الأوروبِّي.

وتمَّ التنفيذ بسرعة، ونُقِلَت دواوين الحكم إلى إدرنة، وصارت المركز الأوَّل للدولة العثمانيَّة، وستظلُّ العاصمة لمدَّة تقترب من تسعين عامًا حتى يتمَّ نقل العاصمة من جديد إلى القسطنطينيَّة بعد فتحها.

إنَّ هذه الخطوات المدروسة عكست بوضوحٍ مدى العمق السياسي، والإداري، والعسكري، الذي كان يتمتَّع به مراد الأوَّل.

انتهج مراد الأول بعد ذلك سياسةً واضحةً تبغي السيطرة السريعة المنظَّمة على البلقان قبل أن يفيق البيزنطيون من سقوط إدرنة، وقبل أن يفيق الصرب من اضطراب مُلْكِهم بعد موت مَلِكِهم الأعظم دوشان؛ تطلَّبت هذه السياسة عبور نهر ماريتزا Maritsa river في عام 1363م[4]؛ أي بعد عامٍ واحدٍ من ولايته، وهذا النهر يُمثِّل الحدود الفاصلة بين تركيا واليونان الآن. اعتبر زعماء أوروبَّا أن هذا تصعيدٌ خطرٌ من مراد الأول؛ إذ كان هذا يعني أنَّ الجيوش العثمانية لن تكتفي بحرب الدولة البيزنطيَّة في منطقة الأناضول والقسطنطينية؛ بل ستسعى إلى أملاكها في البلقان، وستُتْبِع ذلك بالممالك التابعة للصرب. لم ينتظر مراد الأول ردود فعل الأوروبيين؛ إنَّما انطلقت جيوشه في عدَّة اتجاهاتٍ في آنٍ واحدٍ لتفتح عدَّة مدنٍ استراتيجيَّةٍ في شرق اليونان وبلغاريا. في غضون شهور من عام 1363م تمكَّن العثمانيون من فتح مدينتي فيليبه[5] Filibe (الآن بلوڤديڤ Plovdiv)، وستارا زاجورا[6] Stara Zagora، وهما في بلغاريا الآن، و-أيضًا- مدينتي كوموتيني Komotini، وألكسندروبوليس[7] Alexandroupolis على بحر إيجة، وهما في اليونان الآن. كان النجاح كبيرًا، ومزعجًا جدًّا للإمبراطور البيزنطي چون الخامس، خاصَّةً أنَّ مدينة فيليبه كانت هي المصدر الرئيس للحبوب والغذاء الذي يمدُّ القسطنطينية باحتياجاتها[8]، كما أنَّ هذه الفتوحات عزلت القسطنطينية تمامًا عن الغرب، ولم يعد ممكنًا أن يصل إليها أحدٌ برًّا عبر أوروبَّا، إنَّما صار الوصول إليها بحريًّا فقط!

أدَّت هذه الفتوحات السريعة إلى فزعٍ بيزنطيٍّ كبير؛ وتجاوز الإمبراطور كلَّ التوقعات؛ حيث قرَّر أن يطلب المساعدة من البابا الكاثوليكي في روما في مقابل أن يُوَحِّد الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، وهذا يعني تخليه عن مذهبه الأرثوذكسي[9]! وهذه خطوة تُعبِّر عن انهيارٍ كبيرٍ في معنويَّات البيزنطيين؛ فهذا عندهم بمثابة الكفر! ومع ذلك فهذه الخطوة كانت آثارها السلبيَّة على الدولة البيزنطية أكبر بكثيرٍ من منافعها؛ إذ أدَّت إلى انقساماتٍ داخليَّةٍ دون أن تُحمِّس البابا بشكلٍ كافٍ لمساعدة القسطنطينية؛ ومع ذلك انتبه البابا لخطر العثمانيين، وسيبدأ جهوده الخاصَّة في مقاومتهم، ليس حبًّا في الدولة البيزنطية؛ ولكن حرصًا على البلقان نفسه، وخوفًا من تطوُّر الأمر فَيَصِل المسلمون إلى وسط أوروبَّا الكاثوليكي.

تحرَّك البابا أوروبان الخامس Urban V ببطء، فلم يستجب له بجدية من الدول الكاثوليكيَّة إلَّا المجر، فتكونت حملة صليبية شاركت فيها بقوة الدول الأرثوذوكسيَّة، مثل صربيا، وبلغاريا، ورومانيا، وانضمَّت إليهم البوسنة، وتوجَّهت الجيوش صوب إدرنة[10].

في عام 1364م ارتطم الجيش العثماني بالجيوش الصليبيَّة على ساحل نهر ماريتزا على بعد خمسة عشر كيلو مترًا فقط من إدرنة، وكانت المعركة في اتِّجاهٍ واحد؛ إذ استطاع العثمانيُّون حسم المعركة بسرعة، وانكسرت جيوش الصليبيِّين انكسارًا كبيرًا، وفقد الصرب معظم جيشهم إلى الدرجة التي عُرفت فيها الموقعة في التاريخ بمعركة «صرب صنديغي» Sırp Sındığı؛ أي هلاك الصرب[11]! وهذه المعركة هي التي أعطت العثمانيِّين الفرصة لدخول البلقان كلِّه، والقتال ضدَّ جيوش الصرب والرومان والبلغار والمجر؛ إذ إنَّهم بدءوا المسلمين بالحرب، فصارت هذه المعركة المسوِّغ الشرعي، والواقعي، لوجود العثمانيِّين في منطقة البلقان.

تُعرف هذه الموقعة بموقعة ماريتزا الأولى، نسبةً إلى نهر ماريتزا، وقد سُمِّيت الأولى لأنَّ هناك معركةً ثانيةً ستحدث في المكان نفسه بعد سبع سنوات؛ حيث سيسعى الصرب للانتقام لأنفسهم من الهزيمة الثقيلة.

وتُعَدُّ هذه المعركة الكبرى امتدادًا للحروب الصليبيَّة الأوروبيَّة ضدَّ الأمَّة الإسلاميَّة، والحروب الصليبيَّة هي الحروب التي يُعْلَن فيها الدافع الديني بشكلٍ صريح، كما أنَّها تأخذ الطابع الأممي؛ حيث تتجمَّع عدَّة دولٍ نصرانيَّةٍ لحرب المسلمين، وكانت آخر الحروب الصليبيَّة هي الحملة السابعة على مصر في سنة 1248م[12]؛ أي قبل هذه المعركة بـ 116 سنة، وإن كانت هناك حملة صليبيَّة ثامنة على تونس في سنة 1270[13][14]، فإذا عددناها من الحملات الصليبيَّة فإنَّه قد مرَّ عليها 94 سنة، فهذه عودةٌ من جديدٍ إلى الحروب الصليبيَّة بعد قرابة المائة عام، وسوف نرى أنَّ هذا الطابع الصليبي الأممي سيتكرَّر كثيرًا مع الدولة العثمانيَّة؛ حيث ستتحمَّل وحدها عبء صدِّ الهجمات الصليبيَّة، سواءٌ القادمة من أوروبا الشرقيَّة أم الغربيَّة.
كانت هذه المعركة سببًا في تغيير موازين القوى في شرق أوروبَّا بشكلٍ كبير؛ حيث صارت الدولة العثمانيَّة هي القوَّة الأولى بلا منازعٍ حقيقي.

ويُمكننا بعد هذه الموقعة النظر بعينٍ متفحصةٍ إلى موازين القوى في منطقة شرق أوروبَّا والأناضول على النحو الآتي:

القوَّة الأولى صارت هي الدولة العثمانيَّة.

القوَّة الثانية متنازعة؛ فهناك قوَّتان كبيرتان مجروحتان في المنطقة، وأعني بهما قوَّة الدولة البيزنطيَّة وقوَّة المجر؛ فالدولة البيزنطيَّة مع أنَّها تعرَّضت إلى هزائم كثيرة في الآونة الأخيرة، سواءٌ من الكاثوليك أم من المسلمين، فإنَّها ما زالت تحتفظ بتاريخٍ عميقٍ يُعطيها رهبةً كبيرةً، كما أنَّ لها وجودًا ملموسًا في نفس كلِّ أرثوذكسي؛ حيث إنَّها حاملة لواء الأرثوذوكسيَّة منذ قرون، فضلًا عن امتلاكها لعددٍ كبيرٍ من الحصون والقلاع والمدن القويَّة، هذا بالإضافة إلى شبكةٍ كبيرةٍ من العلاقات مع كثيرٍ من دول العالم بحكم أنَّها كانت من أكبر إمبراطوريَّات الدنيا، أمَّا القوَّة الثانية وهي قوَّة المجر، فهي قوَّةٌ كاثوليكيَّةٌ لها أطماعٌ كثيرةٌ في شرق أوروبَّا؛ حيث ترى هذه المنطقة هي مساحة التمدُّد الطبيعيَّة لها، وكانت المجر إمبراطوريَّةً مستقلَّةً لها أمجادٌ كثيرة، ولكنَّها تعرَّضت هي الأخرى في الفترة الأخيرة إلى عدَّة هزائم كانت آخرها هذه المعركة التي تحدَّثنا عنها منذ قليل، وهي معركة ماريتزا الأولى. نعم لم تكن الكارثة ضخمة بالنسبة إلى المجر؛ لأنَّ الجيش الرئيس في المعركة كان الجيش الصربي، لكنَّها على العموم كانت هزيمةً مذلَّةً جعلت المجر تُعيد حساباتها من جديد؛ خاصَّةً أنَّ التعاون بينها والأمم الأوروبيَّة في جنوب شرق أوروبَّا تعاونٌ غير وثيق؛ لكون المنطقة بكاملها أرثوذوكسيَّة، وهذا أَشْعَرَ ملكها لويس الأوَّل Louis I بالضعف.

تأتي بعد ذلك عدَّة قوى جُرحت بشدَّة وتأثَّرت تأثُّرًا كبيرًا؛ ولكن لا شكَّ أنَّها ستُحاول استعادة زمام المبادرة، ولن تقبل بالتسليم الكامل في هذا التوقيت، وهي قوى المنطقة المحليَّة المتمثِّلة في عدَّة دول وإمارات منفصلة، نرصد منها خمسة على وجه التحديد، وهي قوى صربيا، والبوسنة، وبلغاريا، ورومانيا، وألبانيا. هذه القوى كلُّها تعرَّضت للهزيمة في معركة ماريتزا، وتعرَّض بعضها للهزيمة من قبل على يد أورخان والد مراد الأوَّل، وصارت كلُّها في مرحلة انكسارٍ نسبي، وإن كان أضعفها في الواقع هي مملكة البلغار؛ وذلك للفوضى السياسيَّة التي كانت تُعانيها في ذلك الوقت، بالإضافة إلى ملاصقتها للدولة العثمانيَّة القويَّة؛ ممَّا جعل أرضها مسرحًا مناسبًا لعمليَّات الجيش العثماني، وقد بدا هذا واضحًا من الاختراقات السهلة التي قامت بها الدولة العثمانيَّة في الأراضي البلغاريَّة عام 1363م قبل معركة ماريتزا الأولى بعامٍ واحد، مع العلم أنَّ دولة البلغار آنذاك كانت تقع شمال جبال البلقان؛ أي تُمثِّل شمال بلغاريا الآن وليس كل بلغاريا، أمَّا الجنوب الحالي لبلغاريا فكان تابعًا للدولة البيزنطيَّة.

هناك قوى أخرى في المنطقة لم تتدخل في هذه النزاعات بشكلٍ مباشر؛ لأنَّها في هذه اللحظة لم تتعارض بشكلٍ صريحٍ مع مصالحها، وأعني بها قوَّة جمهوريَّة البندقية الإيطاليَّة، بالإضافة إلى قوَّة جمهوريَّة چنوة الإيطاليَّة كذلك. أمَّا جمهوريَّة البندقية فكانت تمتلك معظم شبه جزيرة المورة Mora جنوب اليونان، كذلك جزيرة كريت Crete، وجزيرة نيجروبونتي Negroponti، وبعض الجزر الأخرى الصغيرة في بحر إيجة، بالإضافة إلى جزرٍ كثيرةٍ في البحر الأيوني والأدرياتيكي. وبالنسبة إلى جمهوريَّة چنوة فكانت هي المنافس التقليدي لجمهوريَّة البندقية، وكانت تمتلك عددًا كبيرًا من المدن في ساحل الأناضول الغربي، وجزرًا محدودةً في بحر إيجة، وبعض المدن في سواحل البحر الأسود، وأهمها في الشمال في منطقة القرم.
إذًا كانت هذه هي القوى الموجودة في المنطقة، وقد مالت الكفَّة بشكلٍ كبيرٍ بعد موقعة ماريتزا الأولى لصالح الدولة العثمانيَّة، وهذا أدَّى إلى أمرٍ غريبٍ لم يكن متوقَّعًا في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة، وهي تَقَدُّم جمهوريَّة دوبروڤنيك الإيطاليَّة (تعرف -أيضًا- بجمهوريَّة راجوزا Ragusa) سنة 1365م بطلب تبعيَّةٍ للعثمانيين، مع السماح لها بالتجارة في الأراضي العثمانية، في مقابل تعهُّدها بدفع جزيةٍ سنويَّةٍ تُقدَّر بخمسمائة دوقيَّةٍ ذهبيَّة[15]! واقع الأمر أنَّ هذا لم يكن الطلب الأول للحماية، ولكنَّها فعلت ذلك من قبل في عام 1358[16]، فكان هذا من قبيل تجديد الطلب، أو تفعيله بشكلٍ رسمي!

ووجه الغرابة أنَّ جمهورية دوبروڤنيك بعيدةٌ جدًّا عن أملاك الدولة العثمانيَّة؛ حيث إنَّها تطلُّ على ساحل البحر الأدرياتيكي، وهي واقعةٌ في زماننا المعاصر في دولة كرواتيا، ويفصل بينها وبين أملاك الدولة العثمانيَّة في ذلك الزمن مساحاتٌ كبيرةٌ، تشمل أجزاءً من كرواتيا، والبوسنة، والجبل الأسود، وكوسوڤو، وصربيا، وبلغاريا، والمسافة بين حدود الدولة العثمانيَّة الغربيَّة (مدينة فيليبه في هذه الآونة) وبين جمهوريَّة دوبروڤنيك تزيد على خمسمائة كيلو متر، وهي مسافةٌ طويلةٌ جدًّا؛ خاصَّةً إذا نظرنا إلى العوائق الجغرافيَّة الكثيرة التي تحول بين الدولتين.

وواقع الأمر أنَّ جمهورية دوبروڤنيك لها سماتٌ خاصَّة، وصفاتٌ متميِّزة، جعلتها تُقْدِم على هذه الخطوة العجيبة، وفي ذلك التوقيت؛ فالجمهوريَّة هي إمارةٍ صغيرةٍ جدًّا، ولكنَّها في غاية الثراء، وقامت المدينة على أكتاف التجَّار الأغنياء، والسياسيِّين المحترفين، والدبلوماسيِّين المهرة، واستطاعت أن تكون جزءًا لا يتجزَّأ من تجارة أوروبَّا في ذلك الوقت، وقد يرجع هذا النشاط الاقتصادي الكبير إلى احتلال البندقية لها فترةً طويلةً من الزمن (من سنة 1205 إلى سنة 1358)[17]، وهذا يعني أنَّها تحرَّرت من البندقية قبل سبع سنوات فقط من طلبها للحماية من الدولة العثمانيَّة، وبطبيعة الحال فإنَّ قوَّة جمهوريَّة دوبروڤنيك العسكريَّة كانت صغيرةً للغاية، ولا شَكَّ أنَّها تعرف أنَّها مطمعٌ لكلِّ القوى الموجودة في المنطقة لكثرة أموالها واتِّساع تجارتها، ومِنْ ثَمَّ كان لزامًا عليها أن تنضوي تحت لواء إحدى هذه القوى بإرادتها حتى يُمكن لها أن تُقاوم أطماع الغزاة والمحتلِّين.

وقع اختيار دوبروڤنيك على الدولة العثمانيَّة لأسباب؛ أولها أنَّ الدولة العثمانيَّة هي أكبر القوى المعاصرة في المنطقة، وأحدثها نشوءًا؛ ممَّا يُعطي الانطباع أنَّها ستكون طويلة العمر نسبيًّا عن القوى الأخرى، والأمر الثاني أنَّها بعيدةٌ عنها في هذا التوقيت ما يجعل احتلال الدولة العثمانيَّة فعليًّا لها أمرًا مستبعدًا، على عكس القوى القريبة منها مثل صربيا أو البوسنة، والأمر الثالث أنَّ الدولة العثمانيَّة مشهورةٌ بالوفاء بالوعود، ومِنْ ثَمَّ يُمكن أن تعقد جمهوريَّة دوبروڤنيك في هذا الوقت معاهدة حماية مع الدولة العثمانية تحصل فيها على بعض الامتيازات التي ستستمرُّ مدًى طويلًا، أمَّا لو تأخَّرت الجمهوريَّة في طلب الحماية فقد تُفْرَض عليها في زمانٍ آخر تكون الدولة العثمانيَّة قد توسَّعت فيه بشدَّة حتى اقتربت من حدودها، وعندها قد لا تستطيع الجمهوريَّة الحصول على هذه الامتيازات، ومن هنا كان طلبها سريعًا بالانضواء تحت الحماية العثمانيَّة.

ومهما يكن من أمرٍ فإنَّ هذا يُعطي الانطباع الواضح أنَّ الدولة العثمانيَّة صارت هي القوَّة الأولى في المنطقة بعد معركة ماريتزا الأولى، وهذا سيُعطي مرادًا الأوَّل جرأةً على الانسياح الأكبر في جنوب شرق أوروبَّا، والوصول بالدولة العثمانية إلى بقاعٍ لم يكن يتخيَّل أحدٌ أن تصل إليها في هذا الزمن القصير.

أيضًا من النتائج العجيبة لمعركة ماريتزا الأولى أن تنازل الإمبراطور البيزنطي عن كبرياء إمبراطوريته العظيمة، وسافر إلى بودا عاصمة المجر «ليستجدي» المساعدة من ملكها لويس الأول، وهذه هي المرَّة الأولى في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية التي يخرج فيها الإمبراطور من بلده ليطلب مساعدةً أجنبيَّة[18]، والواقع أنَّ اللقاء لم يكن مشجِّعًا، ووصلت تعليماتٌ من البابا أوروبان الخامس إلى ملك المجر بعدم التعاون مع الإمبراطور البيزنطي إلَّا بعد توحُّد الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية[19]، وهو الأمر الذي لم يحدث قط؛ لذا فشلت المفاوضات.

شجَّعت هذه الأمور الدولة العثمانيَّة على التقدُّم أكثر في الأراضي البيزنطيَّة؛ ممَّا وسَّع دائرة الفتوحات، ففتحت ساموكوڤ Samokov (أقل من خمسين كيلو متر جنوب شرق صوفِيا) في عام 1367م، ثُمَّ فتحت قاوالا Kavala، ودراما Drama (شرق اليونان) في سنة 1371م[20]، وبذلك اقتربت الدولة العثمانيَّة من حدود صربيا غربًا، وبلغاريا شمالًا.

لم يستطع أمراء دول البلقان المحيطة بالدولة البيزنطيَّة أن يصبروا على هذا التوسُّع التدريجي للعثمانيِّين، وكان عليهم أن يتناسوا هزيمة معركة ماريتزا الأولى سنة 1364م، والآن بعد مرور سبع سنوات على الهزيمة سيُعاودون الكَرَّة في الهجوم على الدولة العثمانيَّة، وفي المكان نفسه! ولا أدري إن كان اختيارهم للأرض نفسها راجعًا إلى العامل النفسي على أمل أن يمحوا الهزيمة السابقة من الذاكرة، وتُصبح أرض المعركة ذكرى سعيدة بدلًا من ذكريات الهزيمة المرَّة، وسيكون ذلك عاملًا مهمًّا في تحفيز الجنود، أم أنَّ هذا الاختيار راجعٌ إلى رغبتهم في نقل ميدان المعركة إلى أرض عدوِّهم، حتى إذا تمَّت هزيمةٌ جديدةٌ لا يكون من نتيجتها احتلال مساحاتٍ جديدةٍ من أراضيهم، أم أنَّهم أرادوا المباغتة المفاجئة لإحداث إرباكٍ في الصفوف العثمانيَّة، أم أنَّ هذه العوامل مجتمعة كانت حاضرة. على كلِّ حالٍ فإنَّ الجيوش الصليبيَّة، وهي جيوش بلغاريا ورومانيا وصربيا، تجمَّعت من جديد، والتقت مع المسلمين في يوم 26 سبتمبر 1371م[21] في المكان نفسه، وللعجب فقد تكرَّر سيناريو المعركة الأولى؛ ولكن بشكلٍ أكبر وأقسى؛ فقد حقَّقت الجيوش العثمانيَّة نصرًا جديدًا ساحقًا على الصليبيِّين[22]، وليس هذا فقط؛ ولكن قُتِل في المعركة ملك صربيا ڤوكاشين Vukašin[23]، وقُتل أخوه وليُّ العهد أوجليشا Uglješa[24]، وهذا أدَّى إلى خللٍ كبيرٍ للغاية في القيادة الصربيَّة، التي كانت تتزعَّم تجميع الجيوش لقتال المسلمين.

فتحت هذه المعركة الطريق لمراد الأوَّل لكي يطرق على الحديد وهو ساخن، فقرَّر الانسياح في البلاد البلقانيَّة غربًا، وعدم الاكتفاء بالتحرُّك في الأراضي التي كانت تابعةً للدولة البيزنطيَّة؛ بل غزو بلاد الصرب، وما يتبعها من أقطارٍ في غرب البلقان، والوصول إلى مسافاتٍ بعيدةٍ جدًّا عن مركز العثمانيِّين الرئيس في إدرنة. ومع ذلك فهو لم يبدأ في هذه الحملات البعيدة إلَّا بعد أن أجبر الإمبراطور البيزنطي على قبول التبعيَّة له، ودفع الجزية[25]، وبذلك اطمئنَّ إلى حماية ظهره أثناء حملاته الأوروبيَّة.

بدأت هذه الحملات في اتجاه الغرب البلقاني مباشرةً في العام التالي لمعركة ماريتزا الثانية؛ أي في عام 1372م، واستكملت في غضون ثلاثة عشر عامًا فتح قطاعٍ كبيرٍ للغاية من هذه الأراضي على النحو التالي:

في عام 1372م فُتحت مدينتي كارافيرا Karaferye، وكوستنديل Kostendil[26]، وكارافيرا (تُعرف الآن باسم ڤيريا Veria)، وهي في شمال غرب اليونان على بعد خمسة وخمسين كيلو متر غرب مدينة سالونيك، أمَّا مدينة كوستنديل فهي تقع في أقصى غرب بلغاريا خارج حدود الدولة البيزنطيَّة في ذلك الوقت؛ أي في أملاك صربيا المنهارة آنذاك، ولم يكن هناك ردُّ فعلٍ يُذكر من المملكة الصربيَّة على هذا الاجتياح، وهذا دفع مراد الأوَّل إلى التوغُّل في الأراضي الصربيَّة، ووصل الأمر إلى فتح مدينة نيش الموجودة في جنوب شرق صربيا الآن، وهي مدينةٌ كبيرة؛ بل تُعدُّ المدينة الثانية في مملكة صربيا بعد العاصمة بلجراد، وكان هذا الفتح الكبير في سنة 1375م[27]. ثبَّت العثمانيُّون أقدامهم في الأماكن المفتوحة، ثم حقَّقوا في 1382م، أو في 1385م[28]، نصرًا مجيدًا بفتح صوفِيا عاصمة بلغاريا بعد حصار ثلاث سنوات.

أدَّى فتح صوفِيا -ومن قبلها نيش- إلى قطع الإمدادات الصربيَّة القادمة من بلجراد وشمال البلقان عن المناطق الجنوبيَّة، وهذا شجع العثمانيِّين على توجيه حملاتٍ منظَّمةٍ إلى منطقة مقدونيا، وشرق ألبانيا، الواقعتين جنوب صربيا، وعليه فقد فتحت عدَّة مدن مهمَّة في هذه المنطقة في سنة 1385م، أهمها مدينة موناستير (جنوب شرق مقدونيا الآن)، كما فُتحت في السنة نفسها مدينة أوهريد جنوب غرب مقدونيا، ومدينة دِبره (Debre، وتُكتب الآن Debar)، وهي في أقصى غرب مقدونيا على الحدود مع ألبانيا، وأخيرًا فتحت مدينة كورجه Görice شرق ألبانيا[29][30].

ولم يكتفِ العثمانيُّون بذلك؛ إنَّما استغلُّوا حالة الضعف الكبير التي يُعاني منها الحلفاء الذين اشتركوا في معركة ماريتزا الثانية فوجَّهوا نشاطهم إلى منطقة شمال البلقان، وتجاوزوا سلسلة الجبال هناك، وفتحوا في عام 1385 عدَّة مدنٍ واقعةٍ بين جبال البلقان جنوبًا ونهر الدانوب شمالًا، وهذه هي آخر حدود الدولة البيزنطيَّة ناحية الشمال. شملت هذه الفتوحات مدن تيرنوڤا Tırnova (الآن ڤيليكو تارنوڤو Veliko Tarnovo)، ولوفجه Lofca (الآن لوڤيتش Lovech)، وبلونه Plevne (الآن بليڤين Pleven)، وزشتوي Ziştovi (الآن سويشتوڤ Svishtov)، ورسجك Ruscuk (الآن روز Ruse)، وتُتراكان (الآن بالاسم نفسه Tutrakan)، وأخيرًا سيليسترا (الآن بالاسم نفسه Silistra)[31]. توجد كلُّ هذه المدن في شمال جمهوريَّة بلغاريا الحاليَّة، وبذلك وصلت حدود الدولة العثمانيَّة الشماليَّة إلى نهر الدانوب؛ بينما وصلت حدودها الغربيَّة إلى جنوب صربيا وشرق ألبانيا ومعظم مقدونيا، أمَّا الحدود الجنوبية في البلقان فقد وصلت إلى بحر إيجة.

اتَّسعت بذلك الدولة العثمانيَّة جدًّا في البلقان، وزادت مواردها وإمكانيَّاتها؛ ومع ذلك فهي لم تتعمَّد أن تخوض حربًا في الأناضول من أجل التوسُّع؛ لأنَّها كانت تتجنَّب قتال المسلمين قدر استطاعتها؛ بل كان مراد الأوَّل يُؤمن أنَّ كلَّ نصرٍ يُحقَّق في البلقان سيُضيف إليه أرضًا في الأناضول؛ حيث سيسعى الأمراء الأتراك هناك إلى الانضمام إليه، والاستفادة من قوَّته، أو على الأقلِّ تجنُّب الصدام المحتمل معه، وكان مراد الأوَّل يُدرك قوَّته وضعف الآخرين؛ لذلك كان يستغلُّ المناسبات المختلفة التي تسمح له بضمِّ الإمارات التركيَّة في الأناضول دون قتالٍ أو عنف، ومن ذلك أنَّه صاهر چرميان أوغلو في سنة 1378م عندما زوَّج ابنه بايزيد من ابنته، وقد تنازل له چرميان أوغلو عن مدينة كوتاهية نتيجة هذا التزاوج[32]، وفي سنة 1382م قرَّر حميد أوغلو ترك إمارة حميد (إسبارطة) لمراد الأوَّل نظير مبلغ 80 ألف قطعةٍ ذهبيَّة[33]، وفي سنة 1383م اعترفت إمارة چاندار بالسيادة العثمانيَّة عليها دون قتال، وكذلك فعلت إمارة أماسيا سنة 1385م[34]، وبذلك توسَّعت الدولة العثمانيَّة جدًّا في الأناضول حتى ضمَّت معظم الأناضول الغربي، ووصلت في حدودها إلى إمارة قرمان القويَّة.

كانت إمارة قرمان تعتبر نفسها وارثة العرش السلجوقي؛ بحكم أنَّها كانت أقوى الإمارات في زمان السلاجقة، وبحكم أنَّ مقرَّها كان في عاصمة السلاجقة الروم (قونية)، وهذا يعني أنَّ كلَّ دواوين الحكم والجيوش الرئيسة كانت في هذا المكان، وقد نظرت الإمارة بعين الحسد إلى قوَّة العثمانيِّين المتنامية منذ أيَّام عثمان وأورخان، والآن في زمان مراد الأوَّل؛ ولكن زاد في إزعاجها تسارع الإمارات التركيَّة في الأناضول للانضمام إلى الدولة العثمانيَّة، وشعرت بأنَّها لو صبرت على ذلك طويلًا لتوحَّد الأناضول كلُّه تحت راية العثمانيِّين، واختفى بذلك ذكر القرمانيِّين في التاريخ.

بالإضافة إلى ما سبق فإنَّ إمارة بني قرمان كانت تتواصل بعلاقات صداقة قويَّة مع دولة المماليك في مصر والشام، وهذا يُعطيها زخمًا كبيرًا في المنطقة؛ لأنَّ دولة المماليك في ذلك الزمن تُعَدُّ هي الدولة الإسلاميَّة الأولى في المنطقة، وقد يكون في العالم كلِّه آنذاك، وهذه الصداقة مع المماليك كانت تُعطي القرمانيِّين ثقةً كبيرةً في الوقوف في وجه العثمانيِّين، على الرغم من أنَّ المماليك أنفسهم -حتى الآن- لم ينظروا إلى العثمانيِّين نظرة خوفٍ أو قلقٍ أو منافسة، إنَّما كانوا يعدُّونهم إخوة، وأصدقاء على قدرٍ كبيرٍ من الاحترام؛ خاصَّةً أنَّ ميدان عملهم وتوسُّعهم بعيدٌ جدًّا عن أعمال المماليك وتحرُّكاتهم؛ بل لعلَّهم ينظرون إلى العثمانيِّين على أنَّهم حائط صدٍّ أوَّل ضدَّ صليبيِّ أوروبَّا، الذين عانى منهم المسلمون في مصر والشام كثيرًا.
كانت هذه هي الملابسات التي نظَّمت العلاقة بين القرمانيِّين والعثمانيِّين في هذه الحقبة؛ ولكن حدث تطوُّرٌ سلبيٌّ في حقِّ القرمانيِّين في سنة 1386م؛ حيث عقد العثمانيُّون معاهدة صداقةٍ مع المماليك[35]، وهذا أخاف القرمانيِّين جدًّا؛ حيث شعروا بأنَّهم لو تركوا الأمور بلا حسمٍ فإنَّ الدائرة ستدور عليهم قريبًا، ومن ثَمَّ فكَّر قائدهم علاء الدين في الإقدام على خطوةٍ صداميَّةٍ جريئة، تحفظ له كينونته في الأناضول.

كانت هذه رؤية علاء الدين زعيم قرمان في الأناضول؛ ولكن رؤية مراد الأوَّل كانت مختلفة! حيث كان يسعى إلى التعامل السلمي في المسألة قدر الإمكان، ولا يسعى لأيِّ صدامٍ مع قرمان؛ بل يُريد أن يحتفظ بكامل قوَّته للوقوف في وجه البيزنطيِّين، والصرب، والبلغاريِّين، وغيرهم من جيوش أوروبَّا؛ بل إنَّه سعى إلى تحسين علاقته قبل ذلك بأمير قرمان إلى أقصى درجةٍ؛ حيث زوَّجه من ابنته نفيسة خاتون[36]! وهذا الزواج السياسي يهدف إلى تطمين علاء الدين إلى أنَّ الأمير مراد الأوَّل لن يتعدَّى على أملاك زوج ابنته!

ومع كلِّ هذه الخلفيَّات فإنَّ علاء الدين أقدم على خطوةٍ متهوِّرةٍ في سنة 1386م؛ بعد رؤيته للانتصارات العثمانيَّة المتلاحقة في أوروبَّا، وبعد انضمام عددٍ من الإمارات التركيَّة لمراد الأوَّل، وبعد معاهدة الصداقة العثمانيَّة المملوكيَّة، وهذه الخطوة هي احتلال «بك شهري» التابعة للدولة العثمانيَّة[37]!

كانت هذه الخطوة متهوِّرةً فعلًا؛ لأنَّ الفارق بين القوَّتين كبيرٌ لصالح العثمانيِّين، وليس هناك ظهرٌ يدعم القرمانيِّين في حربهم للدولة العثمانيَّة؛ ولكن من الواضح أنَّ الحقد أعمى عين علاء الدين عن تقدير الموقف تقديرًا عسكريًّا سليمًا، كما أنَّه لم يحفظ علاقته الأسريَّة الحميمة بأبي زوجته مراد الأوَّل، كما أنَّ هذا التهوُّر أوضح مدى عدم الاكتراث الذي كان يتميَّز به علاء الدين؛ حيث لم يُراعِ انشغال مراد الأوَّل في همومٍ أوروبيَّةٍ كبيرة؛ ومصارعته لعدَّة ممالك صليبيَّة كبرى في آنٍ واحد.
ومع رغبة مراد الأوَّل في التعامل السلمي في الملفات الإسلاميَّة بالأناضول فإنَّه لم يستطع السكوت عن هذا التعدِّي الخطر؛ لأنَّ السكوت معناه استمرار التعدِّي، وتشجيع الأمراء الأتراك الآخرين على التحرُّك المشابه في أماكن أخرى من الأناضول؛ لذا تحرَّك مراد الأوَّل بسرعةٍ بجيشٍ كبيرٍ بلغ سبعين ألف مقاتلٍ إلى قرمان؛ بل سبقه ابنه بايزيد بمناورةٍ عسكريَّةٍ سريعةٍ للغاية استطاع فيها أن يقضي على جيوش القرمانيِّين، وأن يفرض سيطرته الكاملة على المناطق المعتدى عليها؛ بل سيطر بتحرُّكه هذا على مدينة أنقرة[38]، وهذا أعطى أهميَّةً كبرى لهذا الإنجاز. لأجل هذا النصر السريع المفاجئ أُعْطِي بايزيد لقب «الصاعقة» (بالتركيَّة يلدريم Yıldırım).

ومع هذا النصر الكبير، وعلى الرغم من الجرم الشنيع الذي وقع فيه علاء الدين، فإنَّ مرادًا الأوَّل قَبِل وساطة ابنته نفيسة خاتون في حقِّ زوجها، وعفا عن علاء الدين، وتجاوز المسألة[39].

لقد كان مراد الأوَّل عاقلًا رزينًا حكيمًا، لم يُرِدْ أن يُعمِّق الجِراح في الأناضول، وآثر أن يُفرِّغ جهده وطاقته لحروبه الأوروبِّيَّة بدلًا من إبقاء فتيل الفتنة مشتعلًا في الأناضول، وقد برزت في هذا الموقف شخصيَّة مراد الأوَّل المتَّزنة، ولم يكن انفعاليًّا عصبيًّا مثل كثيرٍ من الأمراء المعاصرين له.

هدأت الأمور في الأناضول، وعاد مراد الأوَّل من جديد للاهتمام بشئون البلقان، وحشد قوَّاته في أطراف المناطق المفتوحة في غرب البلقان وشماله، وهذا الحشد أدَّى إلى قلقٍ شديدٍ في الممالك الصليبيَّة المحيطة؛ ممَّا دفعها إلى قبول الحماية العثمانيَّة عليها والتبعيَّة لدولة المسلمين في مقابل جزيةٍ سنويَّةٍ يدفعونها إلى العثمانيِّين[40]. فعلت ذلك مملكة صربيا بعد أن فشلت في إيقاف تمدُّد الدولة العثمانيَّة في الأملاك الصربيَّة في مقدونيا وشمال اليونان، وبعدها بقليلٍ، فعلت مملكة دوبروچا (Dubruja) الشيء نفسه، ودفعت الجزية كالصرب[41] (ومملكة دوبروچا هي مملكة في شرق البلقان في دلتا الدانوب، تُقْتَسَم حاليًّا بين رومانيا وبلغاريا).

***

هذا الاتِّساع في الجبهات كان لا بُدَّ أن تكون له ضريبة، وهذه الضريبة كانت هزيمتين في أقصى الغرب؛ حيث يقلُّ المدد، وتضعف المعرفة بالجغرافيا! كانت الهزيمة الأولى قاسية، وكانت في عام 1386م عند مدينة بلوشنيك Pločnik، وكانت من جيش صربيا، بعد أن غدر أميرها لازار هريبيليانوڤيتش Lazar Hrebeljanović بعد معاهدة الجزية مع الدولة العثمانية، وعاونته في هذه المعركة قوَّاتٌ من البوسنة[42]. كان الجيش العثماني بقيادة لالا شاهين باشا Lala Şahin Pasha، وكان قوامه عشرين ألف جندي، وقد فقد أكثر من نصفه في المعركة[43]! أمَّا الهزيمة الثانية فكانت محدودةً نسبيًّا، وكانت في 27 أغسطس عام 1388م، عند مدينة بيليشا Bileća (جنوب البوسنة على حدود الجبل الأسود)، وكانت ضدَّ جيش البوسنة بقيادة الدوق ڤلاتكو ڤوكوڤيتش Vlatko Vuković، وهو أحد كبار القادة هناك[44].

كانت هاتان المعركتان هما أوَّل خسارتين لجيشٍ عثمانيٍّ في البلقان؛ ومع كونهما محدودتين نسبيًّا إلَّا أنَّ آثارهما كانت كبيرةً للغاية؛ فقد كشفتا عن إمكانيَّة هزيمة الجيوش العثمانيَّة بعد حالة اليأس التي عمَّت شرق أوروبَّا بعد الانتصارات الإسلاميَّة المتوالية. نعم كان هناك خطأٌ واضحٌ من الجيش العثماني بالتوغُّل إلى مسافةٍ كبيرةٍ جدًّا غربًا دون أن تكون له قواعد حمايةٍ خلفيَّةٍ تضمن الأمان له؛ لكن هذا كلَّه لا يمنع تفوُّق الجيش الصربي، ثم البوسني.

كان من الطبيعي بعد هاتين الخسارتين أن يطمع الصربيون والبوسنيون في طرد العثمانيين من البلقان، أو على الأقل من غربه، فاتَّفق ملك الصرب لازار مع ملك البوسنة تڤرتكو الأول Tvrtko I على تجميع جيشٍ كبيرٍ للتصدِّي بشكلٍ مباشرٍ للعثمانيِّين في البلقان، ومِنْ ثَمَّ وُجِّهَت الدعوة إلى جيوش المنطقة الصليبيَّة، فجاءت القوَّات متسارعةً من عدَّة دول، وكانت القيادة العامَّة للجيش لملك الصرب لازار[45].[46].



[1] Gökbilgin, M. Tayyib: Edirne, In: Gibb, Hamilton Alexander Rosskeen; Kramers, Johannes Hendrik; Lewis, Bernard; Pellat, Charles; Schacht, Joseph & et al.: The Encyclopaedia of Islam, E. J. Brill, Leiden, Netherlands, 1965., vol. 2, p. 683.
[2] شوجر، بيتر: أوروبا العثمانية 1354 – 1804، ترجمة: عاصم الدسوقي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م. الصفحات 92، 93.
[3] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 1/492.
[4] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988، صفحة 1/98.
[5] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 68.
[6] سرهنك، 1895 صفحة 1/491.
[7] أوزتونا، 1988 صفحة 1/98.
[8] Shaw, Stanford Jay: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Volume I, Cambridge University Press, New York, USA, 1976., vol. 1, p. 18.
[9] رستم، أسد: الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، دار المكشوف، بيروت، الطبعة الأولى، 1955م. صفحة 2/247.
[10] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. الصفحات 130، 131.
[11] Nicolle, David: Armies of the Ottoman Turks 1300-1774, Osprey Publishing, London, 1983., p. 28.
[12] بالار، مشيل: الحملات الصليبية والشرق اللاتيني، عين للدراسات والبحوث الإنسانيَّة والإجتماعيَّة، الهرم-مصر، الطبعة الأولى، 2003م. صفحة 232.
[13] روسو، ألفونص: الحوليات التونسية منذ الفتح العربي حتى احتلال فرنسا للجزائر، نقلها عن الفرنسية ونقحها وحققها وضبطها بأمهات المصادر التونسية وقدم لها بدراسة نقدية: محمد عبد الكريم الوافي، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي–ليبيا، 1989م. صفحة 79.
[14] المطوي، محمد العروسي: الحروب الصليبية في المشرق والمغرب، دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الثانية، 1982م. صفحة 136.
[15] Carter, Francis W.: Dubrovnik (Ragusa): A Classic City-state, Seminar Press, 1972., p. 196.
[16] Jelavich, Barbara: History of the Balkans: Eighteenth and Nineteenth Centuries, Cambridge University Press, New York, USA, 1983., vol. 1, p. 98.
[17] شوجر، 1998 الصفحات 191-193.
[18] Geanakoplos, Deno: Byzantium and the crusades, In: Setton, Kenneth Meyer; Hazard, ‏Harry W. ‏& Zacour, Norman P.: A History of the Crusades, The University of Wisconsin Press, Madison, Wisconsin, USA, (vol. 3, The fourteenth and fifteenth centuries, 1975)., vol. 3, pp. 69–103.
[19] Housley, Norman: King Louis the Great of Hungary and the Crusades, 1342–1382, The Slavonic and East European Review, University College London, School of Slavonic and East European Studies, London, United Kingdom, Vol. 62, No. 2, 1984., p. 202.
[20] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/98، 99.
[21] أوزتونا، 1988 صفحة 1/99.
[22] محمود، سيد محمد السيد: تاريخ الدولة العثمانية (النشأة - الازدهار) وفق المصادر العثمانية المعاصرة والدراسات التركية الحديثة، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1428هـ=2007م. صفحة 102.
[23] Ćirković, Sima M.: The Serbs, Translated: Vuk Tošić, Malden Blackwell Publishing, Malden, Massachusetts, USA, 2004., p. 79.
[24] Ostrogorski, Georgije: History of the Byzantine State, Basil Blackwell, Oxford, UK, 1956., p. 481.
[25] Necipoğlu, Nevra: Byzantium Between the Ottomans and the Latins: Politics and Society in the Late Empire, Cambridge University Press, New York, USA, ‏2009., p. 128.
[26] أوزتونا، 1988 صفحة 1/99.
[27] أوزتونا، 1988 صفحة 1/99.
[28] Petkov, Kiril: The Voices of Medieval Bulgaria, Seventh-Fifteenth Century, Brill, 2008., p. 506.
[29] حليم، إبراهيم: التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية، مطبعة ديوان عموم الاوقاف، القاهرة، الطبعة الأولى، 1323هـ=1905م.صفحة 43.
[30] سرهنك، 1895 صفحة 1/492.
[31] أوزتونا، 1988 صفحة 1/99.
[32] حليم، 1905 صفحة 43.
[33] القرماني، أحمد بن يوسف بن أحمد: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: أحمد حطيط، فهمي السعيد، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1412هـ=1992م. صفحة 3/14.
[34] أوزتونا، 1988 صفحة 1/99.
[35] Muslu, Cihan Yüksel: The Ottomans and the Mamluks: Imperial Diplomacy and Warfare in the Islamic World, I. B. Tauris, NewYork, USA, 2014., pp. 71-72.
[36] أوزتونا، 1988 صفحة 1/100.
[37] فريد، 1981 صفحة 134.
[38] القرماني، 1985 صفحة 15.
[39] أوزتونا، 1988 صفحة 1/100.
[40] Ćirković, Sima M.: Kosovska bitka u istoriografiji: Redakcioni odbor Sima Ćirković (urednik izdanja), Zmaj, 1990., p. 64.
[41] أوزتونا، 1988 صفحة 1/99.
[42] Klaić, Vjekoslav & Macan, Trpimir: Povijest Hrvata od najstarijih vremena do svršetka XIX stoljeća, Nakladni zavod MH, 1981., p. 288.
[43] Mirčetić, Dragoljub: Vojna istorija Niša, Prosveta, 1994., p. 102.
[44] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2005., pp. 20-21.
[45] Cowley, Robert & Parker, Geoffrey: The Reader's Companion to Military History, Houghton Mifflin Books, New York, USA, First edition, 1996., p. 249.
[46] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 97- 115.

AbuHossam
23-03-2021, 04:52 AM
بسم الله ما شاء الله؛ بوركت يا أخي