المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موقعة كوسوڤو الأولى


المراقب العام
23-03-2021, 09:00 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



https://islamstory.com/images/upload/content/1562566578%D9%83%D9%88%D8%B3%D9%88%D9%81%D9%882.gi f

موقعة كوسوڤو الأولى[1]:

وصلت هذه الأنباء إلى مراد الأوَّل، فجهَّز جيشه الرئيس وتحرَّك بأربعين ألف مقاتل[2]، ومعه ابناه بايزيد ويعقوب، وتوجَّه مباشرةً إلى غرب البلقان، وقد أحرز مراد الأوَّل فضيلة السبق، فوصل بجيشه إلى الأرض التي اختارها لتكون ساحةً للقتال، وهي في كوسوڤو الآن، في مكان شمال غرب بريشتينا Prishtina العاصمة، وكانت المعركة الكبيرة؛ «معركة كوسوڤو»؛ وذلك في يوم 28 يونيو 1389م[3].

دارت معركة من أهم المعارك في تاريخ أوروبا! إذ إنَّها رسمت مستقبل المنطقة لقرون! اكتسح الجيش العثماني جيوش الصرب والبوسنة وحلفائهما، وفي خلال ثماني ساعات أُبيد الجيش النصراني تقريبًا؛ بل قُتِل الملك لازار ملك الصرب[4]، وفقدت المنطقة بأسرها أيَّ أملٍ في الخروج من الحكم العثماني، على الأقل في غضون السنوات القادمة، والواقع أنَّ العثمانيين حكموا هذه المناطق كلَّها لمدَّة خمسة قرون كاملة بعد هذه الموقعة الخالدة.

لقد كانت ملحمة حاسمة حقًّا!

ومع هذه النهايات السعيدة للمعركة فإنها حملت في خواتيمها أنباءً مؤلمة للمسلمين؛ فقد أراد الله أن يمنح المجاهد العظيم مرادًا الأول شرف الشهادة، فطعنه أحد الجنود الصربيين في أثناء تفقُّده للجرحى في نهاية المعركة[5]! وهذا هو الوحيد من أمراء بني عثمان الذي فاز بالشهادة في كلِّ تاريخها.

لقد كانت نهاية مُشِّرفة لبطل عاش حياته مجاهدًا، وحقَّق عددًا كبيرًا رائعًا من الانتصارات والأمجاد، وتولى من بعده ابنه بايزيد الأول المعروف بالصاعقة.

دَفن العثمانيون أحشاء البطل في أرض الموقعة في كوسوڤو (في مكانٍ ما زال مزارًا إلى اليوم)، ونُقِل الجسد إلى مدينة بورصا[6]، فللبطل قبران إذن! أحدهما في كوسوڤو، والثاني في بورصا!

مثَّلت هذه المعركة نقطةً سوداء لم تُنْسَ قط في التاريخ الصربي[7]، وعلى مرِّ الأجيال توارث الصربيون التباكي على جيش الصرب وملكها لازار، وسجَّل المؤرخون، والأدباء، والفنانون من الرسامين والنحاتين ذكريات هذه المعركة الكبيرة، ولقد حمل الاهتمام بهذه الموقعة صورًا كثيرةً في التاريخ القديم والحديث للصرب.

يقول المؤرخ الأميركي فرديناند شيڤيل Ferdinand Schevill: «ظهرت مئات الأغاني في السنوات المتأخرة، وأخذ كل منشد جديد يفخر بالإسهام في تفصيلات جديدة، تزيد ثراء عمَّا قاله أسلافه، فأصبحنا نسمع عن البطولة، والخيانات، والقتلة، وعن أولئك الذين يصنعون ملاحم وطنية يحتفظ بها الصرب حية في نفوسهم لقرون»[8].

ومن صور تَذَكُّر الصرب لموقعة كوسوڤو بناء مشهد كبير لتخليد ذكرى الملك لازار، وقد بُنِي المشهد على تبة اسمها «جازميستان» «Gazimestan»، وكلمة جازميستان كلمة من أصل تركي، ومكونة من مقطعين: الأول، وهو جازي Gazi، تعني الغازي، والثاني، وهو ميستان، تعني «مكان»، فالمشهد يعني «مكان البطل»، وغالب الأمر أن هذه تسمية تركية لتخليد ذكرى مراد الأول؛ ولكن بنى الصرب هذا المشهد في هذا المكان لصرف الذهن إلى البطل الحقيقي في رؤيتهم، وهو الملك لازار، مع أنه هُزِمَ هزيمة قاسية؛ لكنهم فعلوا ذلك لتخليد ذكرى آخر المدافعين عن المملكة الصربية[9].

ومن صور التخليد -أيضًا- لهذه المعركة الاحتفاء الكبير بالجندي الذي قتل مرادًا الأول في آخر هذه المعركة، وهذا الجندي هو ميلوش أوبيليتش Miloš Obilić، وقد منحته الكنيسة الصربيَّة في القرن التاسع عشر من الميلاد لقب قدِّيس، ويحتفل به الصربيون كلَّ عام[10].

وأخيرًا من هذه الصور ما فعله سلوبودان ميلوسوڤيتش Slobodan Milošević رئيس يوغوسلاڤيا السابق، الذي خطب في ذكرى هذه الموقعة في أرض المعركة سنة 1989م في ذكرى مرور ستَّة قرون كاملة على الموقعة، وقد حضر خطبته هذه مليون صربي[11]، وكانت آثار هذه الخطبة كبيرة؛ إذ إنه بعد تفكيك يوغوسلاڤيا سنة 1992م قامت الحرب بين الصرب والبوسنة، وكان الانتقام الصربي الذي تابعه العالم أجمع، وحدثت المجازر الجماعية للمسلمين المدنيين من أهل البوسنة وكوسوڤو، وتكرَّرت حوادث الاغتصاب؛ كما هو معلوم، وحملت هذه المجازر البشعة كلَّ صور الحقد الصربي المتراكم على مدار القرون.

لم ينسَ الصربيون قط موقعة كوسوڤو الأولى!

لقد كانت أحلام الصربيين كبيرة في تكوين إمبراطوريَّةٍ كبرى تُسيطر على البلقان بكامله، وكان من الممكن جدًّا لهذه الأحلام أن تتحقَّق، خاصَّةً في ظلِّ الضعف البيزنطي الظاهر، لولا أن ظهر العثمانيون، فحقَّقوا النصر تلو النصر على الصرب، وجيوش النصارى بشكلٍ عام، ثم كان النصر الكبير في كوسوڤو، والذي قضى على أحلام الصرب نهائيًّا.

والحقُّ أن الإنسان ليعجب لكون المنهزمين يتذاكرون معركة كوسوڤو جيدًا على مدار القرون؛ بينما نجد أن معظم المسلمين -الذين انتصروا في موقعة كوسوڤو انتصارًا كاسحًا- لا يسمعون أصلًا عن هذه الموقعة الخالدة!
إنَّه إهمالٌ غير مقبولٍ للتاريخ الإسلامي الكبير.

ترك مراد الأول رحمه الله بعد استشهاده دولةً عظيمةً مؤثِّرة، لها مكانة لا يجهلها القريب ولا البعيد.

كانت المساحة التي تسلَّمها مراد الأول من أبيه أورخان هي 95 ألف كم2 معظمها في الأناضول (86.5 ألف كم2 في الأناضول، و8.5 آلاف كم2 في أوروبا)، فإذا به يضاعف هذه المساحة أكثر من خمس مرات في غضون سبعٍ وعشرين سنة هي مدة حكمه، فتصل الدولة إلى مساحة خمسمائة كيلو متر مربع! تجاوزت أملاك الدولة العثمانية في أوروبا 291 ألف كم2، وهذا يشمل بلغاريا كلها، وشمال ووسط اليونان، وجنوب صربيا، وشرق ألبانيا، بالإضافة إلى مقدونيا، وكوسوڤو، كاملتين.

أما في الأناضول فقد شملت حدود الدولة العثمانية عدَّة إمارات تركيَّة في غرب الأناضول، هي إمارات قراسي وحميد، وچاندار، وأماسيا، بالإضافة إلى مدينة كوتاهية، وكذلك المدن الأولى التي امتلكها عثمان وأورخان، وهذه المساحات تبلغ في إجمالها حوالي 208 ألف كم2. هذه الأرقام تعني أن الجانب الأكبر من الدولة العثمانية صار في أوروبا! إذ إن المساحة الأوروبِّيَّة في الدولة صارت تُمثِّل حوالي 58% منها، وستظلُّ مساحة القسم الأوروبي من الدولة العثمانية أكبر من الآسيوي حتى زمن سليم الأول، والذي تسلَّم الحكم سنة 1512؛ أي أكثر من قرنٍ كاملٍ من الزمن، وهذا قد يتطلَّب منَّا وقفات كثيرة لفهم طبيعة الأمور؛ إذ إنه من المعروف أن سكان أوروبا كلهم من النصارى، ومِنْ ثَمَّ صارت نسبة السكان النصارى في الدولة العثمانية أكبر من نسبة السكان المسلمين، وهذا كانت له بعض الآثار التي نحتاج لدراستها، كما أنه تَطَلَّب بعض الترتيبات من الدولة العثمانية.

هذا الوضع المتميز للدولة العثمانية، وهذا التأمين لمستقبلها لعدة قرون، جعل المؤرِّخين العالميِّين يضعون مرادًا الأول في مكانة متميزة بين أقرانه من الأمراء والملوك، وما أكثر الشهادات القيمة التي قيلت في حقه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قال المؤرخ الفرنسي فيرناند جرينارد Fernand Grenard في حقه: «لا يمكن أن يُعْثَر على حاكم على مستوى السلطان مراد بين معاصريه من الحكام الأوروبيين. لم يكن داهية عسكريًّا، وأستاذًا استراتيجيًّا فحسب؛ بل كان في الوقت ذاته دبلوماسيًّا مرهفًا، كان حاكمًا بالفطرة، جعل من العثمانيين أمَّة موحَّدة، عرَّفهم بالمُثل وزودهم بها؛ كان عند وفاته قد أمَّن مستقبل هذه الدولة لخمسة قرون»[12].

بل إننا نجد شهادة عظيمة ينقلها أوزتونا Yılmaz Öztuna عن مؤرخ بيزنطي معاصر لمراد الأول وهو خالكوكونديلاس khalkokondylas (ويُكْتب -أيضًا- Chalkokondyles) قال فيها: «قاد 37 حربًا في رومللي والأناضول وانتصر في جميعها. كان جسورًا رابط الجأش، فعَّالًا، شديدًا ونشيطًا في شيخوخته؛ كما في شبابه، منظمًا لا يهمل أي تدبير، ولا يشرع في عمل ما لم يخططه بكامل وجوهه، يعامل الدول والأشخاص الذين يطيعونه ويقومون بخدمته بالحسنى واللين والكرم مهما كانت أديانهم. كان قاسيًا على من يُظْهِر له العداء. لم ينجُ أحدٌ من قبضته. يصدق في قوله حتى لو انقلبت الأمور إلى ضده بعد ذلك. حصل على ثقة الجميع سواء من الأعداء أم الأصحاب»[13].

استشهد مراد الأول وهو في الثالثة والستين من عمره، وهو أحد الشخصيات البارزة في تاريخ المسلمين، وهو ممن جمع بين الكفاية والتقوى، وبين القوَّة والأمانة، وبين السياسة والأخلاق، وهو بذلك يُعَدُّ نموذجًا لكل حاكم مسلم، ولا شَكَّ أن المسلمين يحتاجون إلى دراساتٍ أكثر، وتحليلاتٍ أعمق، لفهم سيرته، وما وقع في عهده من أحداث، وقد ترك دولةً راسخةً سلَّمها لابنه بايزيد الصاعقة، قويًّةً في وجه أعدائها، باسطةً يدها بالعون لكلِّ أصدقائها، رافعةً رأس المسلمين عاليةً في أجزاءٍ عاشت ردحًا من الزمان قبل ذلك في اضطراباتٍ وقلاقل.

رحم الله مرادًا الأول وجعل مثواه الجنة[14].



[1] عُرِفَت بالأولى لأنَّ هناك معركةً ثانيةً ستحدث في المكان نفسه عام 1448.
[2] Cox, John K: The History of Serbia, Greenwood Publishing Group, westport, CT, USA, 2002., p. 30.
[3] Cowley, Robert & Parker, Geoffrey: The Reader's Companion to Military History, Houghton Mifflin Books, New York, USA, First edition, 1996.p. 249.
[4] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988، صفحة 1/100.
[5] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 135.
[6] القرماني، أحمد بن يوسف بن أحمد: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: أحمد حطيط، فهمي السعيد، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1412هـ=1992م.صفحة 3/15.
[7] Gibbons, Herbert Adam: The Foundation of the Ottoman Empire: A History of the Osmanlis Up To the Death of Bayezid I, 1300-1403, The Century CO, NewYork, USA, 1916., p. 178.
[8] Schevill, Ferdinand: The Hist of Balkan Peninsula: From the earliest times to the present day, New York, 1933., 1933, pp. 187–188.
[9] Columbus, Frank H.: Kosovo–Serbia: A Just War? Hauppauge, Nova Science Publishers, New York, 1999., p. 125.
[10] Emmert, Thomas A.: Milos Obilic and the Hero Myth, Journal of the North American Society for Serbian Studies, Washington, United States, 1996., p. 10.
[11]Popolo, Damian: A New Science of International Relations: Modernity, Complexity and the Kosovo Conflict, shgate Publishing, Farnham, UK, 2011., p. 180.
[12] Grenard, Fernand: Grandeur et Decadence de l'Asie, l'Avenement de l'Europe, Paris, 1939., p. 5.
[13] أوزتونا، 1988 صفحة 1/102.
[14] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 115- 121.