المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف أدار العثمانيون الأراضي التي دخلت في حوزتهم في المائة سنة الأولى؟


المراقب العام
03-06-2021, 07:50 AM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif



https://islamstory.com/images/upload/content/1087929185%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A3%D8%AF%D8%A7%D8%B1.png

لقد واجه العثمانيون تحديًا ضخمًا عندما فُتحت لهم الدنيا بهذه السرعة العجيبة، وهذا التحدِّي الكبير كان في كيفيَّة إدارة هذه المساحات الشاسعة من الأراضي، وكيفيَّة السيطرة على هذا العدد الكبير من الشعوب؛ لقد ضاعف أورخان وابنه مراد الأول، مساحة الدولة العثمانية أكثر من ثلاثين ضعفًا!! فقد كانت في أول عهد أورخان 16 ألف كم2، فصارت في آخر عهد مراد الأول -أي بعد 63 سنة- 500 ألف كم2! وهذا رقمٌ ضخمٌ يحتاج إلى وقفات؛ إذ كيف لم ينفلت زمام الأمور من مراد الأول مع هذا التضخُّم العجيب؟! علمًا بأن الجانب الأكبر من الدولة كان نصرانيًّا وليس مسلمًا!

يعود السرُّ في ذلك إلى «النمط العثماني» في إدارة الدولة، الذي كان يعتمد على طريقتين مختلفتين لإدارة البلاد المفتوحة؛ وهما: طريقة الإدارة المباشرة، أو نظام الولايات، وطريقة الإمارات التابعة، أو نظام الحماية.

أما الطريقة الأولى، وهي طريقة الإدارة المباشرة، أو نظام الولايات، فكان يعني تعيين حاكم عثماني على الولاية، ويتبعه نظامٌ إداريٌّ كاملٌ من المسلمين، وتُقَسَّم هذه الولايات إلى إقطاعيَّات، وتُعْطَى الإقطاعيَّات لكبار الأمراء والفرسان، ويتولَّى كلُّ صاحب إقطاعية إدارة إقطاعيته، ويعمل في هذه الإقطاعية فلاحون وصُنَّاع وتُجَّار وغيرهم، ويتولَّى صاحب الإقطاعية دفع الرواتب، ومتابعة الأمور في الإقطاعية، ويكون دور الدولة رقابيَّا فقط، ويستفيد صاحب الإقطاعية من الدخل الناتج عن العمل فيها، ويُعطي الدولة جزءًا من هذا الدخل، وتتولَّى الدولة الجانب العسكري بشكلٍ كامل؛ حيث تُوجد حاميات عسكرية في كلِّ إقطاعية، وكان النظام العثماني يقضي بأن صاحب الإقطاعية لا يمتلك الأرض الـمُقْطَعة له؛ إنما فقط يأخذ حقَّ الانتفاع بها؛ ومِنْ ثَمَّ يمكن للدولة بعد فترةٍ معيَّنةٍ أن تنقل الإقطاعية من أميرٍ إلى آخر؛ بل كانت الدولة تتعمَّد ذلك حتى لا يستقرَّ كلُّ صاحب إقطاعية في إقطاعيته بشكلٍ راسخٍ قد يدفعه إلى الاستقلال بها في يومٍ ما، وبهذا النظام صارت الدولة أجزاءً كثيرة يُدار كلٌّ منها على حدة، وإن كانت كلها في النهاية تصبُّ في ميزانيَّةٍ واحدةٍ كبرى، وتُحمَى بجيشٍ واحدٍ كبير.

هذا هو النظام الأوَّل، وهو نظام الولايات، أو «الأيالات» بالتعبير التركي Eyalet، وكان يشمل الولايات المهمَّة القريبة من مركز الدولة، سواءٌ في الأناضول أم البلقان.

أمَّا النظام الثاني فهو نظام التبعية، أو الحماية، وفيه تقبل الدولة العثمانية ببقاء الإمارة التابعة محكومةً بحاكمها السابق قبل الفتح، أو الضمِّ، وهو حاكمٌ نصرانيٌّ في الولايات النصرانية، أو حاكمٌ مسلمٌ في الولايات الأناضوليَّة، وقد يُعَيِّن العثمانيون حاكمًا آخر يدين لهم بالولاء؛ ولكن من أهل البلد نفسه، وليس من العثمانيين، ويتولَّى هذا الحاكم إدارة إمارته بالطريقة نفسها التي كانت تُدار بها قبل الفتح العثماني، ويحكمها بالقوانين نفسها التي كانت سائدةً فيها، وكل ما هنالك أنه يدفع جزيةً سنويةً إلى الدولة العثمانية، كما أن الدولة العثمانية متكفِّلةٌ بالدفاع عنه عسكريًّا في حال تعرُّضه لهجومٍ من دولةٍ أخرى؛ أي تقوم الدولة العثمانية «بحماية» هذه الإمارة في نظير الجزية المدفوعة، وقد يُطلب من هذه الإمارة أن تُشارك الدولة العثمانية في بعض حروبها، وليس للإمارة التابعة أن تأخذ قرارات عسكرية خاصَّةً بها، ولا أن تعقد أحلافًا سياسية مع دولٍ أخرى دون موافقة الدولة العثمانية؛ إنها إذن إمارات «تابعة» للدولة العثمانية؛ لكنَّها لا تُدار بالعثمانيين.

هذا النظام الثاني كفل للدولة العثمانية ضمَّ مساحاتٍ كبيرةٍ من الأرض دون تحمُّل عبء إدارتها، وكانت الدولة تستفيد من العائد المادِّي المـُحَصَّل من هذه الإمارات التابعة، بالإضافة إلى تحجيم قوَّتها العسكرية؛ ممَّا يجعلها مأمونة الجانب إلى حدٍّ ما، ولم يكن العائد المادِّي بطبيعة الحال كالعائد المادِّي المتحصَّل من الولايات التي تُدار بشكلٍ مباشر؛ ولكنَّه كان بشكلٍ عامٍّ يُحَقِّق استقرارًا في الدولة من جانب، ويُحقِّق توفيرًا في النفقات والمهام الإدارية من جانبٍ آخر، كما أنه كان على هوى أمراء البلد الأصليين، والعائلات الحاكمة فيه؛ إذ إنهم يحتفظون بألقابهم ومراكزهم، ويُحَصِّلون الجانب الأكبر من أرباح الزراعة والصناعة والتجارة في بلدهم.

ولا يخفى على أحدٍ أن هذا النظام الثاني، مع كونه يوسِّع مساحة الدولة بشكلٍ مطرد، فإنه يحمل في طيَّاته عيوبًا خطرة؛ فهذه الإمارة التي تُدار بأهلها لا يمكن أن تشعر بالولاء للدولة العثمانية؛ ومِنْ ثَمَّ فعند تغيُّر الأحوال، وعند ظهور ضعفٍ في القيادة العثمانية، أو تعرُّض الدولة لأزمةٍ كبيرة، أو ظهور عدوٍّ قويٍّ مناوئ للدولة، فإن هذه التبعيَّة سرعان ما تنهار، وقد تنضمُّ الإمارة إلى دولةٍ أخرى، أو تستقلُّ بذاتها، كما أن هذا النظام لم يكن يُعطي الدولة العثمانية فرصة تعليم الإسلام للسكان؛ إذ يبقى نظامها الديني والتعليمي والاجتماعي؛ كما هو قبل الفتح، وغاية ما هنالك أن يُنْشأ مسجد أو مساجد في بعض الأماكن؛ لكن دون أيِّ نوعٍ من الدعوة في داخل الإمارة التابعة، وهذا أدَّى بدوره إلى زيادة ضعف الانتماء للدولة.

والواقع أن هذا النمط العثماني المعتمد على نظامين للإدارة: إدارة مباشرة، وإدارة الحماية، ليس ابتكارًا عثمانيًّا خالصًا؛ بل عملت به عدَّة دول في مراحل التاريخ المختلفة؛ بل عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران، وكذلك مع نصارى أذرح وآيلة في شمال الجزيرة العربية، والحقُّ أنه نظامٌ مفيدٌ بشكلٍ عام؛ ولكن بشرط ألا تكون مساحات الإمارات التابعة أكبر من مساحات الإمارات التي تُدار بشكلٍ مباشر، وإلا يُنذر هذا بانفلاتٍ للأمور عند أوَّل أزمةٍ تتعرَّض لها الدولة، وهذا في الحقيقة ما عانت منه الدولة العثمانية لاحقًا؛ حيث زادت في القرن السادس عشر مساحات هذه الإمارات التابعة بشكلٍ عظيم، ممَّا جعل الدولة تفقد السيطرة على هذه المساحات في القرون التي تلت؛ ومِنْ ثَمَّ حدث التدهور والضمور.

عمومًا، في فترة مراد الأول، لم يكن الوضع خارجًا عن السيطرة؛ بل على العكس، كانت الدولة فتية وقوية، وكانت تدير بشكلٍ مباشرٍ معظم ولايات الأناضول، بالإضافة إلى شرق البلقان المعروف بتراقيا، وكذلك شمال اليونان ووسطه، وجنوب بلغاريا، وكامل مقدونيا، و-أيضًا- شرق الصرب، أما الإمارات التابعة فكانت في شمال بلغاريا، وغرب الصرب، وشرق ألبانيا؛ بل كان الإمبراطور البيزنطي نفسه تابعًا للدولة العثمانية يدفع إليها الجزية بشكلٍ منتظم.

ومع تبسيطنا لشكل الإدارة العثمانية لهذه المساحات الكبيرة فإنَّ الأمر في الواقع كان معقَّدًا جدًّا، خاصَّةً إذا نظرنا إلى الزمن الذي كانت تُدار فيه الدولة، مع ضعف الاتصالات والمواصلات؛ ومع وجود عددٍ كبيرٍ من النصارى الأرثوذكس والأرمن؛ ومع تعدُّد اللغات والأعراق في هذا الكيان العملاق؛ لهذا فإن جميع المؤرخين -من المسلمين وغير المسلمين- يُجمِعون على أن نظام الإدارة العثمانية، وخاصَّةً في القرون الأولى من عمر الدولة، كان نظامًا صارمًا في غاية الدقَّة، وكانوا يتعاملون مع الأمور بحرفيَّةٍ شديدة، ومهارةٍ مطلقة، ممَّا جعل الأمور تسير بشكلٍ طبيعيٍّ مع أنها في غاية الصعوبة والتعقيد، وقد ترجع هذه الدقَّة العثمانية إلى قدرة العثمانيين على الاستفادة من الأنظمة الإدارية التي سبقتهم في هذه المناطق، ويشمل ذلك أنظمة السلاجقة، والبيزنطيين، وكذلك أنظمة البلغار، والصرب، واليونانيين، بالإضافة إلى التطوير العثماني الذي مزج كلَّ ذلك، وأضاف إليه، فأخرج لنا في النهاية نموذجًا إداريًّا متفوِّقًا شهد له الجميع بالكفاية[1].

[1] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 131- 134، لشراء هذه الكتاب يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111