المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإسلام بين إبداعات السابقين وسلبيات اللاحقين


جلنار مور
27-09-2010, 02:45 AM
منذ القِدم والعاملون لدين الله يُعْمِلون فِكْرَهم، ويبذلون رأْيَهم، ويحسنون جُهْدَهم؛ يحاولون إرضاء ربِّهم، يستمدون منه الهداية، ويرجون منه المعيَّة؛ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

إنهم أُناس يسيرون على الأرض، لكن ارتبطتْ قلوبُهم بخالقها، فارتقتْ حتى بلغت عنانَ السماء، وسجدوا لله على الأرض، ولكن ارتفعتْ جباهُهم حتى لامست السُّحُب في الفضاء، فصاروا لا يهابون أحدًا من البشر، ولا يَرْكَنون إلى قوة من قوى الأرض، ولا يقفون عند مَغْنمٍ من مغانم الدنيا، طريقُهم واضح، وهدفُهم واضح، وغايتهم إرضاء الله فقط لا غير، ما دام أنَّ عملَهم لا يخالف كتابَ الله وسُنَّة رسوله، لا يضرُّهم إن أثْنى الناسُ على عملهم أو لا.

إنَّ منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يدعمُ ويشجِّع الابتكار في أعلى درجاته، وذلك في كلِّ مظاهر إدارته - صلى الله عليه وسلم.

ولعلَّ من بين أعظم جوانب شخصيَّته القياديَّة العبقريَّة أنه تمكَّن ببساطة ويُسر من تفجير الطاقات الإبداعيَّة والابتكاريَّة عند صحابته الكرام، على اختلاف قُدراتهم ومستوياتهم، وجعلَ كلاًّ منهم يُعْمِل عقلَه وفِكْرَه لخِدمة الدين الذي آمن به، وذلك بأعلى درجات الكفاءة والفعالية الفرديَّة والجماعيَّة.

فقد جعلَ كلاًّ منهم قائدًا متميِّزًا في مجاله، يستشعر أعلى درجات المسؤوليَّة، وينغمس في العمل لفِكرته بكلِّ كِيانه ووجدانه، ويشاركُ ويبدع ويبادر بتقديم أفكارِه ورأْيه دون أن يُطلبَ ذلك منه.

إنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - استطاعَ أن يحقِّق بهؤلاء الصحابة الكرام أعمالاً غير عادية، تفوَّقوا بها على أكثر الدول المحيطة بهم عُدة وعَتادًا، وتنظيمًا وحضارة كالفرس والروم، وهذا هو ما يعتبرُ بحقٍّ معيار نجاحِ أيِّ قائد.

سلمان الفارسي:
ينتمي سلمان الفارسي إلى "أصبهان" من قرية يُقال لها "جي"، وكان والدُه رئيسها، مرَّ سلمان بأحداث جِسام، أسْقُف يحيله إلى أسقُف، ومن مدينة إلى مدينة، وذات يوم مرَّ به ركبٌ رحَلَ معهم إلى جزيرة العرب، إلا أنهم باعوه لرجلٍ يهودي، أقامَ عنده يعمل على نخلاته، حتى إذا سَمِعَه يتحدث مع رجل عن نبيٍّ في مكة هو الآن في قباء، وفي المساء عزمَ سلمان أمرَه للذهاب إليه، ويقول سلمان: دعاني - عليه الصلاة والسلام - فجلستُ بين يديه، وحدَّثْتُه كما أحدِّثكم الآن، ثم أسلمتُ، وحالَ الرقُّ بيني وبين شهود (حضور) بدر وأُحد، وذات يومٍ قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كاتِبْ سيِّدَك؛ حتى يعتقك))، فكاتبتُه، وأمرَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصحابة؛ كي يعاونوني وحرَّر الله رقبتي، وعشتُ حُرًّا مسلمًا، وشهدتُ مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - غزوة الخندق والمشاهِدَ كلَّها، وكان سلمان هو الذي أشارَ بحفْرِ الخندق حول المدينة عندما أرادتِ الأحزاب الهجومَ على المدينة لاستئصال شأْفة المسلمين، والقضاء تمامًا على هذه الدولة الناشئة وهذا الدين الجديد، وكانتْ أعدادُهم من الكثرة بحيث لا يستطيع المسلمون الوقوف أمام جحافلهم، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه للتشاور في الأمر، وكانت الفكرة المبتكَرة وغير المألوفة عند العرب حينئذٍ مِن سلمان الفارسي، وهي حفْرُ خندقٍ في الجزء الذي يمكن اقتحام المدينة منه، وهو بين لابَتَيْن مرتفعتين، وهو ما يدلُّ على مدى انغماس سلمان وانهماكه في التفكير المسؤول والقائم على دراسة ومعرفة بجغرافية الموقع، وإعمال عقلِه وفِكرِه لحلِّ المشكلة، وكأنَّه القائد الأعلى والمسؤول الأوحد عن حلِّها.

وكم كانت فكرة موفقة وصائبة قلبت الموازين، وحوَّلت ضَعف المسلمين قوَّة، وقوةَ المشركين ضَعفًا، وشكَّلتْ لهم مفاجأة إستراتيجيَّة لم يحسبوا لها حسابًا، وقلبتْ خططَهم وتدبيرهم رأْسًا على عقب، ووضعتهم موضع الدفاع بدلاً من الهجوم، وأفقدتْهم ميزة العدد والعُدَّة التي كانوا يتمتعون بها.

وعندما وصَلَ أهلُ مكة المدينة، ووجدوا الخندق، قال أبو سفيان: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ووقفَ الأنصار يومها يقولون: سلمان منَّا، ووقف المهاجرون يقولون: بل سلمان منَّا، وعندها ناداهم الرسول قائلاً: ((سلمان منَّا آل البيت)).

ومما يُحْكى عن زُهْده أنَّه كان أميرًا على المدائن في خلافة الفاروق عمر، وكان عطاؤه من بيت المال خمسة آلاف دينار، لا ينال منه درهمًا واحدًا، ويتصدَّق به على الفقراء والمحتاجين، ويقول: أشتري خوصًا بدرهم فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهمًا فيه، وأنفقُ درهمًا على عيالي، وأتصدَّق بالثالث، لُقِّب سلمان الفارسي بسلمان الخير أو الباحث عن الحقيقة، وكان إذا سُئل: مَنْ أنت؟ قال: أنا ابن الإسلام، مِن بني آدمَ، وقد اشْتُهر بكثرة العبادة، وكثرة مجالسته للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يفارقْه إلا لحاجة، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يحبُّه حبًّا شديدًا، وسمَّاه أبو هريرة: صاحب الكتابين؛ يعني: الإنجيل والفرقان، وسمَّاه علي بن أبي طالب: لُقْمان الحكيم، وقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي الدرداء، وتوفِّي في خلافة عثمان بن عفان سنة 35هـ.

نعيم بن مسعود مُفرِّق الأحزاب:
ولم يكنْ رأْيُ سلمان هو الابْتكار الأوْحد في المعركة، وإنَّما كان هناك إضافة رُبَّما لا تقلُّ عن الأولى، أتتْ هذه المرَّة على يد مسلمٍ لم تمضِ على إسلامه ساعات، وهو نُعيم بن مسعود الذي جاء إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال له: يا رسول الله، إني أسلمتُ ولم يعلمْ قومي بإسلامي، فمُرْني بما شئتَ، فكانت العبقريَّة في القيادة والتصرُّف الفذِّ من نُعيم، فوجَّهه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ألا يُعْلِنَ إسلامَه؛ فهو في المسلمين فردٌ لن يضيفَ شيئًا إذا انضمَّ إلى صفوفهم المعْلَنة، وإنَّما عليه أن يخذِّلَ عنهم، فإنما الحربُ خَدْعة أو كما قال له - صلى الله عليه وسلم - فانطلق نُعيم بن مسعود كما هو معروف في السيرة، ووضعَ خطة مُتْقَنة؛ لإفساد العلاقة التحالُفيَّة بين اليهود والمشركين، وزرَعَ بذور الشكِّ والفُرْقة بينهم، بحيث ينفضُّ عقْدُهم وحِلْفُهم، ويفشلُ كيدُهم وتدبيرُهم، ويرجعُ جمْعُهم دون إلحاق أيِّ أذًى بالمسلمين، وكلُّ ذلك دون استخدام سهمٍ واحدٍ، وإنَّما من خلال إعمال الفِكْر واستخدام العقْل بأعلى درجات الفعالية والإبداع.

ودبَّت الشبهة من كلام نُعيم في نفوس قريش وغطفان، وأصبح اليهود لا يطمئنون إلى قريش وغطفان، وقريش لا تطمئن إلى اليهود، وخذل الله بينهم، واختلفتْ كلمتُهم، وكانت العاقبة نصر الله لعباده.

صاحب النقب:
حاصر المسلمون حِصنًا في إحدى غزواتهم، إلا أن هذا الحصنَ لم يُفتحْ، فقام قائدُ جيش المسلمين مسلمة بن عبدالملك مناديًا: مَن منكم سيدخل النقب؟ وهي فتحة إلقاء الفضلات والقاذورات إلى الخارج، فإن كُتبتْ له الشهادة فاز بالجنة، وإن كُتبتْ له النجاة ذهبَ لبابِ الحصن، فيفتحه ويكبِّر فيدخل جندُ الإسلام منتصرين بإذن الله، فخرج رجلٌ ملثَّم، وقال: أنا مَن سيدخل النقب، تقدَّم الرجل من الحصن، ودخل النقبَ، وسَمِعَ المسلمون صوتَ التكبير، ورأوا البابَ يُفْتح فدخلوا وفتحوا الحصن، يقف قائدُ المسلمين وينادي صاحب النقب ليخرج له، إلا أنه لم يخرج أحدٌ، فيقف في اليوم التالي وينادي، ولكنَّ أحدًا لم يخرج، فيقف في اليوم التالي ويُقْسِم على صاحب النقب أن يأتيه في أيِّ وقتٍ شاء مِن ليل أو نهار، وبينما القائد جالسًا في خَيمته، إذ دخل عليه رجلٌ مُلثَّم، فيقول مَسْلَمة: هل أنت صاحب النقب؟ فيرد الرجل: أنا رسول منه، وهو يشترط ثلاثة شروط حتى تراه، فقال مَسْلَمة:
ما هي؟ فقال الرجل: ألا تكافئَه على فِعْله، وألا تميِّزَه عن غيره من الجُند، وألا ترفعَ اسمَه للخليفة، فقال مَسْلَمة: له ما طلب، فأماطَ الرجل اللِّثَامَ، وقال: أنا صاحب النقب.

فكان مَسْلَمة يدعو بعدها: ربِّ احشرني مع صاحب النقب.

الحُباب وغزوة بدر:
وقد شهدتْ غزوة بدر قبل الأحزاب الرأي الصائب من الحُباب بن المنذر في تغوير الآبار، ومنْع المشركين منها، وبَقِي الماء عند المسلمين يشربون ولا ماء للمشركين، فكان لهذا الرأَّي أثرُه العظيم في انتصار المؤمنين على الكافرين.

ومن تتبَّع سيرة الصحابة وجدَ العجبَ في تفنُّن الصحابة في خدمة هذا الدين بكل الوسائل، وتسخير كل السُّبل المتاحة لنشره ونصره.

الأمة في حاجة إلى مبتكرين الآن:
في الزمن الذي نحياه عُقدت المؤتمرات، وحِيكتِ المؤامرات، واشتدت الضربات للإسلام والمسلمين، لكن الأمَّة ما زالتْ تستعصي على كل ذلك، ما دام وُجد فيها عاملون مخلصون، ومجاهدون مبتكرون، والحاجة إلى أمثال هؤلاء مُلِحَّة الآن؛ لتحديث الأداء وابتكار الطرق، واستخدام الوسائل المستجدة في العلم والتكنولوجيا؛ لإيصال الدِّين للخَلْق وإقامة الحُجَّة عليهم.

المؤمن يجب ألا يفقد الأمل في الإبداع:
يجب ألا ييْئَسَ المؤمن؛ لأن اليأسَ شِيمة الكافرين، وطريق المنافقين؛ ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].

إنَّ اليأس قاهرٌ للرجال، مُحَطِّم للأجيال، مُضَيِّع للأعمال، مُدمِّر للآمال، أمَّا الأمل، فهو قوة دافعة تشرحُ الصدور، وتشرق الوجوه، وتبعثُ النشاط في الأرواح، تدفع الكسول إلى الجِد، وتدفع المُجِدَّ إلى المداومة على جِده، إن الذي يدفع الزارع إلى العمل والنشاط أملُه في الحصاد، والذي يغري التاجرَ بالأسفار والمخاطر أملُه في الربح، والذي يدفع الطالب إلى الجِد والمصابرة أمله في النجاح، والذي يحفِّز الجندي إلى المرابطة والاستبسال أملُه في النصر، والذي يهون على الشعب المستعبد تكاليفَ الجِهاد أملُه في التحرُّر، والذي يحبِّب إلى المريض الدواء المرَّ أملُه في الشفاء، والذي يدعو المؤمن أن يخالفَ هواه ويطيع ربَّه أملُه في رضوانه وجنته، كذلك الذي يريد أن يبدعَ لدينه، ويبتكر لدعوته، ويفكِّر مَليًّا في الطريق إلى ربِّه، أن يتسلحَ بالصبر والأمل، فالأمل هو إكسير الحياة، وباعث نشاطها، ومُخفِّف ويلاتها، وصانع البهجة والسرور فيها، إنَّه شيءٌ حلو المذاق، جميل المحيَّا، عالي القيمة، إن المؤمن أوسعُ الناس أملاً، وأصفاهم نفسًا، وأطهرهم قلبًا، وأرحبهم صدرًا، وأكثرهم تفاؤلاً واستبشارًا؛ لأنه يؤمن بأنَّ هناك قوة تدبِّرُ هذا الكون لا يَخْفى عليها شيءٌ، ولا تَعجِز هي عن شيء، قوة دافعة غير محدودة، وغير محصورة، وغير متناهية، إنها قوة الله، إنَّه يؤمن بأن الله قاهرٌ غالب، قدير رحيم، يحيي ويُميت، يُغني ويُفقر، يُعطي ويَمنع، يُعز ويُذل؛ ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

فالأمل لا بد منه لدعْم الرسالات، وإقامة النهضات، ونجاح البطولات، وإذا فقدَ المبدعُ أملَه، فقد دخل المعركة بلا سلاح يُقاتل به، بل بلا يدٍ تمسكُ السلاح، فأنى يُرتَجَى له انتصار؟ أو يأتي إليه فلاح؟ أمَّا إذا استَصْحَب الأملَ، فإنَّ الصعبَ سيهون، والضرَّ سينكشف، والبعيدَ سيدنو؛ فالأيام تقرِّب البعيد، والزمن جزءٌ من العلاج.

تحطيم خط بارليف:
في حرب العاشر من رمضان 1393 هجرية، السادس من أكتوبر1973ميلاديَّة، كان الساتر الترابي - الذي صنعه اليهود يمتدُّ من بورسعيد شمالاً إلى السويس جنوبًا بطول حوالي 160 كيلومترًا.

يقول اللواء باقي ذكي في حديثه مع أخبار مصر: كنَّا نشاهد الإسرائيليين يقيمون "خنادق" ونقاطًا قويَّة، وكان الساتر الترابي - خط بارليف - يعلو يومًا بعد يوم، وهو مكوَّن من كُثبان رمليَّة طبيعيَّة تكوَّنت من ناتج حفر قناة السويس، ووُضعتْ رملُ الحفر على الضفة الشرقيَّة من القناة، حيث الناحية الغربية أراضٍ زراعيَّة..

أوصلوا الكُثبان الرملية الطبيعية مع ناتج حفر قناة السويس ويقرِّبهم من القناة، حتى أصبحت درجة ميل الساتر الترابي مع قاع القناة (80 درجة)، واقترب أن يكونَ زاوية قائمة؛ حتى يَصْعُبَ الصعود عليه أو انهياره، وأصبح ارتفاع الساتر ما يقرب من 20 مترًا.

قدَّم اللواء باقي زكي فكرته لتحطيم هذا الساتر الترابي، يقول لقائد الفرقة: باستخدام الطلمبات ذات الضغط العالي التي توضعُ على زوارق خفيفة، نقوم بسحب المياه من القناة ثم تضخُّ بقوة اندفاع عالي باستخدام "الباش بور" على الساتر الترابي الموجود أمامَنا مباشرة والمجاور للقناة، حيث قوة دفع المياه تضغطُ على الرمال وتنزلها بوزنها الذاتي إلى حافَّة القناة.

ويستمر في شرحه للفكرة التي تُعَدُّ غير تقليديَّة وجميع الحاضرين في صمت ودهشة، قائلاً: خلال عملي في السد العالي عام 1963 نقلنا حوالي (10 ملايين متر مكعب) بالتجريف، ونجحت الفكرة، وتمَّ تحطيم خط بارليف وانتصر الجيش.

وهذا رجلٌ ليس بعالمٍ ولا طالب عِلم، لكنَّه حاملُ هَم الإسلام، فكَّر في طريقة يخدمُ بها دينَه، فهداه عقلُه أنْ ملأ سيارته بكُتب العِلم من لغات عِدَّة، ثم كتبَ على سيارته أيضًا بلغات عِدَّة: مَن أرادَ أن يقرأَ عن الإسلام، فليوقفني، فإذا أوقفَه إنسانٌ، سألَه عن لغته ثم أعطاه كتابًا أو كُتبًا مما في السيارة بهذه اللغة، فأسلمَ على يديه أُناسٌ لا يعرف عددهم، كما أنه لا يُحْسِن لغتَهم.

♦ وهذا أحد شباب الإسلام: أتقنَ القراءة في النصرانيَّة؛ حتى تمكَّن منها، ثم استحدثَ غُرفة للتواصل عبر الإنترنت يجيب فيها على شبهات النصارى، ويحاورهم حول دينهم بالحِكْمة والموعظة الحسنة، ويعرفهم بمزايا الإسلام وسلامة معتقداته، فأخبر أنه أسلمَ على يديه بهذه الطريقة أكثرُ من خمسمائة شخص؛ "مجلة الأسرة".

♦ وهذا رجل تُركي مسلم: كان متوسط الحال، وكان كُلَّما اشتهى شيئًا وذهب ليشتريه، قال عندما يصل عنده: كأنني أكلتُ، وعادَ دون أن يشتري هذا الشيء، ثم يضع ثمنَه في صندوق، وهكذا كُلَّما أرادَ أن يشتري شيئًا ليأكلَه، قال: كأنني أكلتُ ثم يضع ثمنَه في الصندوق، حتى امتلأ الصندوق، وحُصِّلَ له مالٌ كثيرٌ، استطاع أن يبني به مسجدًا في ضاحية من ضواحي إسطنبول، أَطلق عليه رُوَّادُه: "كأنني أكلتُ" فسُمِّي مسجد "كأنني أكلتُ".

وهذا رجل في بلاد الغرب: حجزَ المقْعدَ الأوَّل في أحد خطوط المواصلات، ودفع أُجْرته لمدة سنة، ثم كتبَ على هذا الكرسي إعلانًا صغيرًا مفادُه: "إذا أردتَ أن تعرفَ شيئًا عن الإسلام، فما عليك إلا أن تتصلَ بهذا الرقْم"، وكتبَ رقْمَه، فكان بعد ذلك يتصل به الناسُ فيجيبهم ويعرِّفهم بالإسلام.

دعوة للإبداع:
أخي القاري الحبيب، أجيال سابقة قدَّمت للإسلام وأبدعتْ، وأجيال لاحقة الْتفَّتْ على نفسها، وعاشتْ السلبيَّة بكل أبعادها، وتركتِ العِلل والأوبئة الفتَّاكة تنخرُ في جسدها، إلا ما رَحِمَ ربِّي، صحيحٌ الأمةُ تُضْربُ كلَّ يومٍ، بل كل ساعة، لكنَّها ما زالت حيَّة، ولو ماتتْ ما ضُربتْ؛ لكنْ أين رجال الأُمَّة؟! أين المبدعون؟ وأين المبتكرون؟ أُغلقت في وجوههم الأبواب، وسُدَّتْ أمامَهم الطرقات، فتحوَّلوا إلى طيور مهاجرة، عذرٌ أخطر مِن ذنب، وإن يكنْ ذلك، فليبدعوا لدينهم من هناك، فكلُّ أرض يُرْفع فيها الأذان هي أرض الإسلام، وكل شعبٍ ينطق الشهادتين هو من جمهور المسلمين، صاحب النقب لم يُولد عند النقب، لكنَّه فتحَه، وأبو أيوب الأنصاري لم يولدْ عند سور القسطنطينيَّة لكنَّه تسلَّقَه ودُفِنَ بجواره، وعمرو بن العاص لم يولدْ في مصر لكنَّه فتحَها، وغيرهم كثيرون هاجروا لكنَّهم أبدعوا، ففتحوا البلاد لدين الله، وطوَّعوا العبادَ لأمر الله، كان ذلك بالإبداع، بالحبِّ، بالقرآن، بالحِكْمة والموعظة الحسنة، أما غيرُهم من اللاحقين، ففقدوا الإبداع في السفر والمُقَام، لماذا؟ فقدوا الحبَّ لدين الله فسُلبتْ منهم الحِكْمة، خلعوا رِبْقة الإسلام من أعناقهم، عندهم القرآن لكنَّهم ﴿ اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].

عندهم السُّنَّة لكنَّهم أهملوا الواجبات، فضلاً عن إضاعة النوافل، فعملوا لأنفسهم لا لربِّهم، ولمصالحهم لا لمصلحة دينهم، ولأشخاصهم لا لإخوانهم، فأصبح هذا حالَهم إلا ما رَحِمَ الله.

القارئ الحبيب، إذا كان المبدعون من السابقين قد قدَّموا لدينهم، ماذا قدَّمتَ أنت؟ إذا كانوا قد وضعوا لَبِنات لهذه الأمة، فماذا وضعتَ أنت؟ إذا كان هؤلاء قد سدُّوا ثَغرات دفاعًا عن هذه الأُمَّة، فهل أنت على ثَغْر من ثغور الإسلام الكثيرة الآن؟ وإذا كنتَ على ثَغْر كيف أنت منه؟ إذا كان هؤلاء قد عاشوا حياتهم من أجْل الإسلام؛ يفكرون، ويبتكرون، ويبذلون، هل فكرنا لديننا؟ هل ابتكرنا لإسلامنا؟ هل بذلنا ليومِ لقاء ربِّنا؟ إذا جاهدْنا وأحسنَّا، فإنَّ الله سيمنحنا الدليلَ وسيهدينا السبيل؛ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

وإذا ارتقينا إلى مرتبة التقوى في تفكيرنا وابتكارنا وبذلنا، فإنَّ الله سيمنحنا معيَّته وما أعظمها! ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].

اللهم شرِّفْنا بالعمل لدينك، ووفِّقْنا للجهاد في سبيلك، امنحْنا التقوى، واهدنا السبيل، وارزقنا معيَّتك، اللهم ارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل، ولا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنا ولا مَبْلغ عِلمنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله ربِّ العالمين.