المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فارس السلام..


المهندس الثاني
06-11-2010, 03:29 PM
السلام عليكم ورحمة الله .
وبعد فهذه محاولة لكتابة قصة قصيرة , كنت قد بدأت بها قبيل الحرب الأخيرة على قطاع غزة , فك الله أسره وأغاث أهله. هذا وقد كنت قد اخترت لقصتي نهاية غير النهاية الحالية , ولكن شاء الله أن تتوالى الأحداث بسرعة , وتلتهب المشاعر ألماً لما أصاب إخواننا.
فأتمنى أن تنال إعجابكم , وأتمنى أن تعذروني عما وقعت فيه من أخطاء ولم أنتبه لها, فسبحان من لا يخطئ.

*فارس السلام*


نوراً كنور الشمس أطل , في ليلة من ليالي خريف أمته التي تهاوت في منحدر الظلام والهوان , في ذلك اليوم كانت أولى صرخاته في هذه الدنيا ,أتى إليها باكيا صارخاً كجميع أبناء البشر, وهاهو ذا والده يحمله ثم يقبله , فهو ابنه الرابع ولكنه في عين والديه كأنه ابنهما الأول, احتارت العائلة في تسمية الغلام الجديد حتى زارهم أحد أقاربهم وطلب إليهم أن يسمونه فارساً عله يكون خيراً على هذه الأمة التي افتقرت إلى رجالاتها.

في تلك القرية الهادئة كانت نشأة فارس ,وفوق تلك الأرض كانت تنمو أحلام الطفولة يوماً بعد يوم , ولئن أنصت إلى صوت النسيم الذي يداعب الأشجار لسمعت أصوات فارس وأصحابه يتردد على مر السنين , ليحكي عن قصة أطفال عاشوا رجالاً عشقوا الحرية ورفضوا الذل والهوان.

في ذلك اليوم الربيعي الجميل كان فارس يلعب مع باقي أبناء حارته يلهون ويتراكضون يغمر قلوبهم الفرح والسعادة ولا يتسلل إليها أدنى شعور بالخوف أو الألم .

فهاهي ذي الفتيات يلعبن بألعابهن من أرجوحة وغيرها ,أما الأولاد فمنهم من يجري وراء الكرة ,ومنهم من يلعب بغيرها ولكن أبرز ألعابهم تلك التي كانوا يسمونها ((حرب)),سبحان الله كم لهذه الكلمة من معان مؤلمة وحزينة ومخيفة ولكن هؤلاء الفتية لا يفقهون لها من معنى سوى أنها لعبة يلعبون بها لاغير, أو ربما هذا مانظنه نحن فقد كان لهم في أثناء لعبهم تصرفات غريبة, فبينما فارس مع زملائه يلعبون هذه اللعبة ويهاجمون على خصوهم وإذ أحدهم يسقط فإذا هو قائدهم عزيز ,فقام جماعة من أصحابه ليحملوه فوق أكتافهم وكأني بهم يشيعون شهيداً من الشهداء,ثم وضعوه جانباً وعادوا ليتخذوا لهم قائدا جديداً فتقدم خالد وقادهم واستمروا في القتال ……..
وبعد حين مالت الشمس للمغيب فقام الأطفال جميعاً وعادوا إلى بيوتهم حالمين بيوم جديد من اللعب والتسلية…


في تلك الأمسية كان بيت فارس يعم بالنشاط والحركة ,فأمه في المطبخ تعد الطعام وتهيئه فسيأتي اليوم ابنها أحمد – الشقيق الأكبر لفارس- من العاصمة ,حيث يدرس في الجامعة.
وكان قد حل به المقام في العاصمة ليكون قريباً من مكان دراسته,فهو يدرس الهندسة وكان من عادته أن يغيب إسبوعان أو أكثر ثم يعود لبيته وذلك لبعد المسافة وانشغاله بدراسته .
وقد كان رحمه الله من المجدين في دراستهم وليس كباقي الشباب العابثين ممن لايشعرون بالمسؤولية ,فقد كان همه أن ينهي دراسته ,ليعمل ويساعد والده الفقير على أعباء الحياة..

حزم أحمد أمتعته واستعد للذهاب لسكن ابن عمه موسى ليعودا سوية إلى ديارهما ,وشاءت أقدار الله عز وجل أن تنقلب الحافلة التي كانت تقلهما ,وأخذت تدحرج على المنحدر , إلى أن اصطدمت بشجرة كبيرة قتوقفت عندئذ ,وأسرع أصحاب السيارات المارة في الجوار لينقذوا المصابين والجرحى ,لقد كان السقوط مروعاً ,ولقد توفي على إثره أحمد وأصيب ابن عمه إصابات بالغة أقعد على أثرها ,وما أن وصل الخبر إلى القرية حتى خيم الحزن على كل شيء وحالت الفرحة في دار فارس إلى مأتم حزين ,وهاهي ذي أمه تبكي على فقيدها الغالي ,والوالد كان الله في عونه فأحمد كان بكره وأما الآن فلم يعد لديه من الصبيان إلا فارس ,الذي تأثر كثيرا لموت شقيقه الأكبر تأثرا عظيما ,فقد كان له بمثابة الأخ والصاحب وصديق يلاعبه ويسليه وأما الآن فلقد رحل إلى جوار ربه …..
انقضت أيام العزاء ولكن كيف للحزن أن يرحل ولم تجف بعد الدموع على فراق الحبيب ,ومضت الأيام ثقيلة حتى جاء اليوم الذي ودعت فاطمة فيه هذا البيت لتذهب مع زوجها إلى بلد أخر حيث كان يعمل , خرجت والدمعة تترقق بين جفنيها حزنا على تركها للبيت وذكرى أخيها المتوفى .


بدأت الحياة تسري من جديد في هذا البيت فها هي ذي الضحكات تعود إليه من جديد ,والوالدان ينظران في فارس عزاء لهما عن أحمد ,ودار الزمن دورته الغادرة وعلى حين غفلة من الدهر اختفى الهدوء من القرية وعمت الضجة إنها أنباء حرب على الأبواب من يدري متى ستشتعل إن قنبلة الحرب جاهزة ولكن ينقصها من يشعلها , وبدأت تتواتر الأخبار عن قرب حل للأزمة وتراجع لاحتمالات الحرب ,فانفرجت هموم الناس قليلاً ,وعادت الحياة إلى مجراها الطبيعي تقريباً.

وذهب الطلاب إلى مدارسهم في صبيحة ذلك اليوم فرحين وأخذوا يتحدثون حول الحرب فهي الشغل الشاغل في هذه لأيام ,وافتقدوا زميلهم عزيز وتساءلوا عن سبب عدم مجيئه في هذا اليوم إلى المدرسة , ولكن أحدأً لم يكن ليعرف السبب.

وعند الساعة العاشرة اختفى الهدوء فهدير الطائرات يملأ الأجواء ,وأصوات القنابل تتفجر في كل مكان ,فهرع الطلاب إلى الملاجىء, يحتمون من ويلات القصف.

وبعد انتهاء الغارة خرج الأطفال عائدين إلى بيوتهم وهالهم المنظر, البيوت مدمرة فوق رؤوس أصحابها الأطفال تبكي فوق الجثث, معالم الإجرام في كل مكان , تلونت قرية السلام بلون الدم, دماء أبنائها الطاهرة التي نشرت في المكان عبق الشهادة الزاكي.

كان فارس عائداً إلى منزله فمر بمنزل لم يبق منه شيء ألا الأحجار المتكومة , تأمل في المكان كثيراً إنه منزل صديقه عزيز , يقترب قليلا ,ثم يدخل إلى باحة المنزل

“عزيز……عزيز يصرخ بأعلى صوته استيقظ يا عزيز ….
لاتمت ……….لا تمت يا عزيز ”

ولكن أنى له أن يسمع وقد صمت أذنيه عن السماع تلك القنابل التي تلقيها الطائرات المجرمة ………مجرمة لا إنها ليست مجرمة إنما هي آلات ولكن من يقودها هم المجرمون ,لا يهم من الذي أجرم فالطفل مات ونفذت المهمة!! ,لقد نام الفتى نومةً طويلةً إلى أن يأذن الله بأمر كان مفعولاً ليسأله عمن قتله .
آه من الظالمين ما ذنب هذا الغلام هل يحمل رشاشاً؟ هل يطلق صاروخاً؟ هل يقاتلهم؟ مالذي فعله ليُقتل ؟ أجيبوني مالذي فعله؟ مالذي فعله؟!

إنه جواب واحد إنه الظلم إذا طغى !!!!!!!!!!!!!


جلس الفتى إلى جوار صاحبه يبكيه بحرقة وألم وتجمع حوله الأولاد ,ثم رفعوا الشهيد فوق أكتافهم ,ما أشبه اليوم بالأمس , بالأمس حمله الأولاد على الأكف ولكن الأمر لم يكن سوى لعب أما اليوم فهو يُحمل أيضاً ولكنها المرة الأخيرة .

سار فارس متجهاً نحو بيته والدمعة محصورة في عينيه …ولكن ياحسرتي على ذاك الغلام فلم يكن يدري ما سيواجهه من أحزان وآلام.

وصل إلى بيته المهدم بفعل صاروخ اخترق جدار المنزل ثم انفجر فيه .

إنه منزلك يا فارس,نعم إنه بيتك, أيها الفتى المسكين !
ووقف مذهولاً لا يستطيع تصديق ما تراه عيناه.

” أبي………..أمي ………أختي…… ماذا حل بهم؟ ما الذي جرى؟“


نظر إلى الأرض فوجد جثتين هامدتين إلى جانبهما جثة ثالثة صغيرة
فاقترب وكشف عن الجثة الاولى, آه….ما أقسى هذا الموقف إنها أمه الحنون
التي ودعته في الصباح عندما انطلق إلى مدرسته ,أما الآن فهي جثة لا حراك فيها

وقف الفتى واجماً واحتبس الدمع في مقلتيه وهو ينظر إلى وجه أمه الذي غطته الدماء ومضت لحظات من الصمت الرهيب والكلّ ينظر ما سيفعله الفتى وهو يرى أهله وقد أصبحوا أمواتاً لا حياة بهم ,وقطع هذا الصمت صرخة مدوية خرجت من أعماق الفتى كادت تخرج معها روحه والله لو شعرت بمعناها وشدهتا الجبال لأضحت خبرا بعد عين , ونادى بملئ فيه:”أمي…..أمي”
واستلقى فوق صدرها وحظنها علها تأخذ شيئًا من روحه وتعود إلى الحياة من جديد :


لو يعرف الأشرار معنى وجود الأم *** لما كووا بالنار الناس بعد اليوم

أمي أجيبيني إن كنت لي تصغين *** فالدمع في عيني يا أم جٍد حزين

واشتدت مرارة الأيام بعد ذلك فهي كالعلقم بل أشد مرارة , وانتقل فارس للعيش في بيت عمه أبي موسى ,ولكن يد الإجرام لم تتركه لشأنه بل أبت إلا أن تزيد جراحه , فهاهي ذي القوات الغازية تدخل قرية السلام وذلك بعد أن ضعفت القوات المدافعة وتراجعت أمام ضربات العدو الغادر .

كان فارس في ناحية الحقل المحيط عندما اقتحم الجنود منزل أبي موسى واقتادوه وزوجه وابنهما إلى خارج البيت حيث تجلت وحشية الظلمة فهاهم يطلبون من العاجز أن يقف يصطف مع الناس ,يا لقسوة قلوبهم ألم يرحموا عجزه ومعاناته وعندئذ وقف والده في ووجههم واسترحمتهم أمه علهم يعطفون عليه ويتركونهم ,فلم يكن ردهم إلا أن قتلوهم ثلاثتهم ثم قاموا بتهديم الدار فوق من تبقى فيها…

وا حزني على فارس المسكين لقد فجع مرة أخرى ,فلقد كان ينظر إلى مصرع عائلة عمه من بين الأشجار ,فولى بعد ذلك ولم يعقب.
وتمضي السنون عجافاً على قرية السلام الني فقدت كل شيء حتى معنى اسمها ,ذاق فيها أهل القرية ألوان شتى من العذاب والقهر والقتل , ولكن لم يكن بيدهم حيلة إلا الدعاء ,ولكن كيف يستجاب الدعاء لقوم تخاذلوا ولم يقدموا الشيء المطلوب لتحقيق النصر .

وقف خالد في دجى من الليل على سطح بيته والدمع انساح على خديه ,داعياً ربه أن يزول هذا الظلم والطغيان ويعود السلام إلى قريته , وأخذته غفوة من شدة التعب والإرهاق ,ولم يصح إلا وأشعة الشمس تداعب خديه ,وكأني بالشمس ليست كعادتها كل يوم بل هي فرحة مسرورة , فطوال تلك السنين لم تكن تبدو إلا شاحبة متلحفة بثياب الحزن والسواد ,أو هذا ما كان يشعر به أهل القرية لما أتى عليهم من نوائب ,أما اليوم فكأنما قد خلقت من جديد لتنشر أشعة من نور تشق ظلام القرية الذي طال كثيرا .

وهب عند ذلك خالد مسرعا ليدرك عمله فلبس ثيابه ثم مضى مع زملاءه إلى العمل

وفي غمرة انشغالهم ,إذا بصوت المذياع يصدح بخبر على عجل:

“ لقد تم تنفيذ عملية كبيرة ضد قوات الاحتلال في القرية المجاورة“

وهاهي الاخبار تترى عن اشتباكات عنيفة تدور رحاها في تلك القرية ,ولم يكن ليتوضح ما يحصل لأن الجنود المعتدين أقدموا على إغلاق المذياع وأهانة العمال وضربهم ,وانتظر خالد المساء بكل شوق ليعود إلى بيته ليعرف مايجري, وما إن وصل إلى منزله حتى أخذ يسمع أصوات انفجارات متعاقبة في المناطق المحيطة بالقرية ,وأصوات لإشتباكات أخذت تشتد على أطراف القرية ,ثم ما لبث أن تطور الوضع حتى جاءت الطائرات المغيرة وأخذت تقصف بيوت الآمنين ..فعاد إلى ذاكرته ذلك اليوم الحزين الذي فقد فيه زملاءه وأصحابه يوم أن أغارت تلك الطائرات ذاتها قبل سنين طويلة.
وبالرغم من كل المخاطر صعد خالد إلى سطح منزله عله يستبين ما يحصل وإذا به يرى صاروخا ينطلق ثم يصيب طائرة معادية إصابة مباشرة ويسقطها !!


يكاد قلبه يطير من الفرح وعادت به الذاكرة إلى الزمن الماضي يوم أن اجتاح المعتدون البلاد فلم يكن الرجال حينئذ أقل شجاعة ولكنها الطائرات المغيرة هي التي أصابتهم في مقتل ولكنهم مع ذلك صمدوا بما لديهم من عتاد ولكن كان من بينهم من تخاذل وانكسر واستسلم وكهذا خسرنا الحرب..

وبينما كانت تتداخل في خاطره الافكار انطلق صاروخ ثان واسقط طائرة اخرى وثالث ورابع واستمر تهاوي الطائرات وتقهقرت قوات الإحتلال أمام ضربات الأبطال ,وأخذت الطائرات تفر من أرض المعركة تلحقها فلول الجنود المنهزمين,وأسرع خالد إلى الدرج ثم إلى غرفة نومه حيث استل قطعة من السلاح كان قد انتزعها من أحد الجنود :”ها قد جاء وقت استخدامك” وخرج من بيته وخرجت معه جموع الناس لتنتقم من المحتلين .

هدأ أزيز الرصاص واختفى هدير الطائرات من الأجواء وسار خالد في شوارع قريته فرحا وكأنه قد ولد من جديد.

ومر على دار قد تهدمت وتحطمت أسوارها ولم يبق منها إلا كومة من الأحجار وبعض الأشجار ,فتنهد بحزن إنها دار صاحبه فارس وكاد أن يمضي في حال سبيله لولا أنه رأى شبحا جالسا فوق الركام فظنه أحد الجنود الفارين وكاد أن يبطش به لولا أن ناداه :”خالد أمازلت على قيد الحياة “

شعر خالد أن هذا الصوت ليس غريبا عليه واقترب منه على حذر وضمه إلى صدره ضمة التحم بها الجسدان لا بل التحمت روحيهما ,وطال العناق بعد مر الفراق وبُعد اللقاء وانقطاع كل أمل ورجاء , ولكن الله على كل شيء قدير .

وانهمرت الدموع من كليهما ساعة من الزمن صمت فيها الدهر يستمع إلى ما سيقوله الأحبة ,ومضى فارس يسرد قصته على صديقه منذ أن خرج من القرية إلى أن عاد إليها:

” يا صاحبي لقد مر علي من الظروف ما يثقل كاهل الرجال العظام لو واجهوه ,فبعد ان شاهدت مقتل عائلة عمي أمام عيني هربت وركضت وركضت ولم أشعر إلا وأنا في الحافلة المتوجهة إلى العاصمة , وصلت إلى هناك ولم أدري ما سأفعله وليس لي قريب أذهب إليه , ماذا افعل وأنا الطفل ابن العاشرة ,فنمت في تلك الليلة طاويا على جوعي وظمأي بجانب حافلة علها تقيني من المطر الهاطل وتلفعت بثيابي علني أحمي جسدي الغض من البرد القارص , ولكن إذا نزعت الرحمة من قلوب الناس فليس من المستغرب أن يسلط الله علينا من لا يرحمنا , فقد جاءني رجل وطلب من أني ابتعد عن حافلته كي لا أؤذيها وسرت في شوارع المدينة وحيداً لامؤنس ولامعين فمررت بالأحياء الفقيرة فرأيت الفقراء الذين زادت الحرب فاقتهم.
ورأيت المرضى يئنون حتى الموت ولا طبيب رحيم ,ومررت ببيوت الأغنياء فرأيت البذخ والترف …………..

ووصل بي التجوال إلى جوار دكان فسقطت فلم تعد قدماي قادرتين على حملي بعد ذلك ونظرت في أحلامي فإذا بي أرى نفسي مع والدي وإخواني في شيء من الجمال يعجز الخيال عن الوصفه , ولكن حتى الأحلام لم يكن لنا نصيب في أن نعيشها , أيقظني رجل وسألني عن قصتي ثم أخذني لأعمل عنده واستغلني أيما استغلال وزادت حالتي سوءا مع دخول القوات الغازية إلى العاصمة وكان سيدي يتعامل معهم وكان يرسلني لأبعث لهم المواد فتعلمت بعضا من لغتهم ,ومرت علي سنين هي من أسوأ ما في حياتي .
ولكن دار الزمن دورته على هذا الرجل الخائن لأهله ووطنه وقتله أصحاب الأمس شر قتلة وتحررت من سيطرته وعدت بلا مأوى ولا عمل ,فأتخذت من جوانب الطرقات مأوى لي ومن مسح السيارات عملا أتقاضى عليه بعض الأجر أعيش منه , وكان مع كل يوم يزداد كرهي لجميع البشر واسودت الدنيا في عيني إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قابلت فيه رجلا صالحا تقيا كنت أمسح له سيارته فأعطاني أكثر مما أطلب فرفضت وقلت: “يا عم إنني لست بحاجة إلى تفضلك فأنا آكل وأشرب من عملي ولم يعلمني أبي على سؤال الناس بل عاش أبي عزيزا ومات عزيزا وسأمضي كما مضى

فنزل الرجل وقبلني وسألني عن قصتي , ثم أخذني إلى بيته حيث علمني وتابعت دراستي ودخلت كلية الهندسة واجتهدت فيها ثم تخرجت والتحقت بصفوف المقاومين وعملنا جاهدين على تلافي اخطاء من سبقونا فسهرنا الليالي نبحث وندرس حتى اكرمنا الله بسلاح نواجه به الطائرات الغادرة ولن نقف عند هذا الحد
بل سنتابع عملنا لكي ……“.

وقاطع حديثه صوت أحد الرجال :”أيها القائد هل أنت هنا الرجال ينتظرونك منذ مدة“
وتفارق الصديقان على وعد اللقاء.

وانضم خالد بعد ذلك إلى صفوف المجاهدين , وقرر العدو القضاء على الأبطال فحشد الحشود وجيش الجيوش وهدد وتوعد ولكن هذه المرة لم يؤثر تهديده حتى في قلوب الأطفال وبالفعل هاجم القرية فرفض أهل القرية الانصياع ووقفوا كالجبل الشامخ في وجهه وسقط الأبطال شهداء ومن بينهم خالد ,ولكن في النهاية تكسرت أمواج المعتدين على صخرة القرية الصامدة والتي استحال اسمها يومئذ إلى غزة المنتصرة …

مرت الأيام وأيقن المجاهدون من أنه لابد من استكمال التحرير باسترجاع بقية القرى الأخرى من براثن العدو, وذلك بعد أن استعدوا وأعدوا كل عدة.
فتجمعت القوات وتحشدت الدبابات وبدأت عقبان السماء تستعد للإقلاع وكل أولئك كانوا في انتظار القائد الذي كان يقف على التلة المطلة على القرية ,
ينظر موقع بيته المتهدم الذي بدأت الجرافات بإزالة مافيه من ركام لكي يبنى مكانه منبرٌ جديدٌ للحياة ,وعادت إلى خاطره تلك اللحظات السعيدة التي قضاها في ذلك المسكن ,ثم قلب نظره إلى حيث كان ملعبهم الذي يلعبون فيه فوجد فيه الاطفال يلعبون تلك اللعبة ذاتها التي كان يلعبها مع أصحابه حين كان في عمرهم وكأن التاريخ يعيد نفسه فعاد إلى صدره ذلك الشعور الطفولي الجميل في متعة اللعب وأطال النظر والتأمل في لعب الأطفال, لا أدري أهو شوق وذكرى للأحباب الذين قضوا ؟أم هو الابتهاج والتفاؤل بالجيل القادم ؟!

ثم انحدر نحوهم فجلس على صخرة قريبة منهم فتجمع الأطفال من حوله فخطبهم قائلا:
” يا أبنائي هذه أرضنا فيها ولدنا وهي منبتنا ولن نرضى عنها بديلا لقد دفع أجدادنا ثمنها دما غاليا رووا به ثرى هذه الأرض الطاهرة , فإياكم أن تدنسها قدم غاصب محتل , ويا أحبابي التزموا بمبادئ ديننا الحنيف وأخلاق نبينا الكريم فهي عنوان حضارتنا وسبيل تقدمنا , لقد فرطنا في وقت من الاوقات فدفعنا الثمن غاليا من عزتنا وكرامتنا , ولكن الله منّ علينا مرة أخرى , ومهما اشتدت القسوة فتذكروا دوما أن صاحب الحق هو الأقوى وأن الله لابد من أن ينصر المظلومين مهما طال الزمان…….“

فوقف طفل من بين المحتشدين :
” يا فارس إنا على العهد ماضون ولئن عاد الأعداء مرة أخرى فإننا هاهنا في أرضنا صامدون لن نرضى إلا العز حياة لنا , وسنكمل المسيرة سنتابع دراستنا , ونجد ونجتهد فيها لكي نعود إلى صدارة الأمم ولن نرضى بالخضوع حتى لو أبدنا جميعا , ولن يتمكنوا من ذلك فالله معنا ……“


وهتفت فتاة من فوق سطح مجاور :
” أيها القائد نحن قوم لن نموت لئن قتلوا منا جيلا فسيأتي غيرهم ليعوضهم ولئن فقدنا بطلا فسنلد ألف بطل وبطل , وتستمر الحياة وسنعمر ما تهدم من بيوت , ونبني المساجد والمدارس من جديد , وسنزرع الزيتون في كل شبر وتعود أرضنا جنات وعيون……“

تبسم فارس وتقدم من الفتى وألبسه خاتما كان بيده , ثم خلع ساعته ورمى بها إلى الفتاة .
ومضى والأطفال تحدق إليه بأبصارها حتى غاب عن أنظارهم ثم عادوا إلى ألعابهم.
وأما فارس فقد صعد إلى طائرته وحلق بها فوق القرية ثم مضى ومضت خلفه الجنود .


ها أنذا أروي لكم حكاية أطفال قرية السلام , أوما بات يعرف بغزة النصر, وأنا أقف على نفس التلة التي وقف عليها ذلك الفارس في يوم من الأيام , ونظرت حيث نظر فرأيت مآذن المساجد في كل مكان وأشجار الزيتون تزين ربوع القرية والبهجة تبدو واضحة في كل شيء , وأما عن فارس وجنوده فإني سألت الشيخ الذي حدثني عن الذي حصل معهم فأخبرني أنهم خاضوا معارك طاحنة سقط فيها العديد من الشهداء ولكن كان النصر في نهايتها لأصحاب الحق والذين ثبتوا على مبادئهم وقاتلوا لنصرة دينهم .

فسألته عن مصير فارس هل عاد أم استشهد في أرض المعركة , فتعلل بكبر سنه وضعف ذاكرته وأنه لا يتذكر بالتحديد ماذا كان مصيره , ولكن أخبرني في نهاية حديثه معي :
” يا بني لا يهم ماذا كان مصير فارس فلو عاد منتصرا فهو من الأبطال الذي لم يكن ليطيق بهم الصبر حتى يعود لمقارعة العدا , وأما إذا استشهد فهو شهيد مع الخالدين باع الحياة في سبيل الله , ولئن ترجل منا فارس ففي أمتنا مليون فارس وفارس“

نعم في أمتنا مليون فارس فلو نظرت في وجوه الأطفال لوجدت في وجه كل واحد منهم فارس يبعث من جديد ليقود أمته من نصر إلى نصر جديد.

بعد هذه الجولة الجميلة في تاريخنا المجيد بآلامه وانتصاراته لا بد من أن أودعكم الآن للعودة إلى العمل لمواصلة الدرب الذي سار عليه فارس وجنده الميامين ولنكمل طلبنا للعلم كما وعد ذلك الغلام فارسنا لنكون مستعدين هذه المرة في حال فكر الأعداء في التعدي علينا مرة أخرى .