المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من هو بطل الأبطال ؟ ادخل وإقرأ عنه


إشراقة شمس
06-10-2008, 07:28 PM
كتـــــــــاب بطـل الأبطـــــال / بقلم عبدالرحمن عزام سنة 1373هجري-1954ميلادي
هذا الكتـاب يحتوي على ستة عشر موضوعا (16) يتحدث عن سيد بني آدم حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلآن اليكم الموضوع الأول وباقي المواضيع تتبع إن شاء الله 0

بحثه عن الحق وثباته عليه ( 1 )

أن ذكرى الأبطال، والتحدث عنهم، لمن أحب الذكريات، وأطيب الأحاديث؛ ذلك لأنهم أعلام الهدى في تاريخ البشرية وأنهم المنارات في آفاق الظلمات.
ومن هؤلاء الأبطال من امتازوا باتساع دائرة تأثيرهم وسلطانهم، فلم تقم في وجوههم عقبات العصبية، ولا عقبات الزمن.
أولئك هم المبرزون في تاريخ الإنسانية، وأولئك هم الذين كان لإصلاحهم الخلود والأثر الباقي. وأعظم هؤلاء هو محمد صلى الله عليه وسلم، بإجماع المفكرين.
يقول فيه ـ كرلايل ـ كان مولده مبعثاً للنور من الظلمات. ويقول السير موير: لم يكن الإصلاح أعسر، ولا أبعد منالاً منه وقت ظهور محمد، ولا نعلم نجاحاً وإصلاحاً تم، كالذي تركه عند وفاته. ويقول ليونارد: إن كان رجل على هذه الأرض قد عرف الله، وأن كان رجل على هذه الأرض قد أخلص له، وفنى في خدمته بقصد شريف، ودافع عظيم، فإن هذا الرجل بلا ريب هو محمد نبي العرب. وفي دائرة المعارف البريطانية: لقد صادف محمد النجاح، الذي لم ينل مثله نبي ولا مصلح ديني في زمن الأزمنة ويقول بوزورث اسمث: أن محمداً بلا نزاع أعظم المصلحين على الإطلاق.
فمحمد الذي هو في نظر المسلمين خاتم الأنبياء والرسل ومعلم الأبطال، هو في نظر المفكرين من أهل الملل الأخرى، أكبر المصلحين على الإطلاق، فلا يحق لنا أن نتحدث عن البطولة دون أن نشرف حديثنا به أولا.
في سنة 1928 ميلادية وقفت لأول مرة على قبر محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم مأخوذاً مأسوراً لهذه البطولة، فكنت أجد أمام الضريح طيب المقام، كما أجد في تلك الحضرة التي توحي أعظم ذكرى، ريح الخلود.
هنا روح لا يزال يشرق من غيابه الماضي! هنا الرجل! هنا بطل الأبطال! وأي الناس لا يجد في أحد الأبطال مثله الأعلى؟ ذلك ما سأحاول الكشف عنه في أحاديثي.
كانت ناحية الرجولة تهز مشاعري، وستهز مشاعر الناس مدى الدهر، سواء آمنوا أم كفروا. فلو لم يكن محمد هذا الرسول الكريم معداً بالفطرة للرسالة العظيمة التي قام بها، لما كان رسولاً. ولو لم يكن ذلك الروح المشرق أهلاً للاتصال بالقوى الإلهية، اتصالاً فوق العادة، لما أمكن أن تلقي إليه كلمة الله. وإلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله: " الله أعلم حيث يجعل رسالته(1) (http://forum.islamstory.com/newthread.php?do=newthread&f=56#_ftn1)".
فمحمد خلق عظيماً قبل أن يوحى إليه، وقبل أن يكون رسولاً.
نفر منذ صباه من عبادة الأوثان، وهي آلهة آبائه، ومصدر عزتهم في جزيرة العرب كلها. وكان منذ صباه الصادق الوفي، المحبوب المبجل في قومه، فسماه قومه الأمين.
وكان فضله ظاهراً منذ شبابه، فدعته امرأة من صواحب الثروة الواسعة في قريش ومن أعلاها نسباً، إلى التزوج بها مع علمها بفقره.
ولما وقف لأول مرة على الصفا يدعو عشيرته إلى دينه قال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذباً. قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
كان قبل الرسالة أشد الناس نفوراً من الظلم، وهضم حقوق الضعفاء؛ فما تحمس لعمل في الجاهلية تحمسه لحلف الفضول، وهو أشرف حلف في العرب. وسببه أن رجلاً من زبيد، من أهل اليمن، باع سلعة من العاص بن وائل السهمي، فظلمه في الثمن، فذكر ظلامته في قصيدة مطلعها:
يا آل فِهْرٍ لمظلومٍ بِضَاعُتهُ



ببطْنِ مَكَّةَ نائى الدار والنَّفَر



فلما سمع بنو هاشم ذلك دعوا إلى تعاقد وتعاهد سمي حلف الفضول، فلا يجدون بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم، ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى ترد عليه مظلمته.
وفي هذا الحلف يقول محمد صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعمر، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت". فنصرة الفقير والضعيف، هي أحب الأمور إلى نفسه.
ولد محمد صلى الله عليه وسلم كامل الخلق والمروءة، وعاش ولم يكن للبيئة سلطان على نفسه، بل كان طلب الحق والثبات عليه، أبين صفاته الحميدة.
وسنضرب بعض الأمثال على تلك الصفة البارزة في حياة بطل الإسلام الأعظم، صلى الله عليه وسلم.
انظروا إليه وقد ولد في بيت رياسة متوارثة، عن هاشم عن عبد مناف عن قصي؛ قصي الذي دانت له الرقاب، واستأثر في مكة بالسلطان، وانفرد قومه قريش بالقيام على دين العرب، ورعاية أصنامها، وسدانة كعبتها، والسقاية والرفادة، وما إلى ذلك من المناصب، التي ترفع الذكر في طول البلاد وعرضها.
فهل منع هذا الميراث محمداً من طلب الحق والثبات عليه؟ كلا! لقد سفه أحلام آبائه، ودعا إلى هدم النظام الديني، الذي كان به فخر عشيرته وسلطانها.
وانظروا كذلك إليه في بني عبد مناف، وبين بني هاشم والمطلب، يلقى رعاية لم ينلها أحد من صبية هذا البيت. فهو الوحيد من البنين والحفدة، الذي كان يجلس على فراش جده سيد القوم.
كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه هذا، حتى يخرج إليه، ولا يجلس عليه أحد من بنيه، إجلالاً له، فكان رسول الله يأتي وهو غلام، فيجلس عليه، فيأخذه أعمامه، ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأناً، ثم يجلسه معه عليه، ويمسح ظهره، ويسر بما يراه يصنع.
وتهيأ عمه أبو طالب للرحيل إلى الشام في تجارة، فلما أجمع المسير ضبب(1) (http://forum.islamstory.com/newthread.php?do=newthread&f=56#_ftn2) به محمد صلى الله عليه وسلم فرق له، وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني أبداً. فخرج به معه، يحمله في ذلك السفر الشاق الطويل.
هذا التدليل والبر الذي حباه إياه جده وعمه، كان جديراً أن يصرفه إلى دين آبائه، ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم لم تسكن إلى غير الحق، فلما وجده ثبت عليه في وجه قومه المدللين له، والبررة به.
فأي مثل في طلب الحق أعظم من ذلك الذي ضربه محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولما أوفدت قريش زعماءها إلى أبي طالب تنذره، وتطلب إليه أن يكف ابن أخيه عنها، أو تنازله حتى يهلك أحد الفريقين، عظم الأمر على أبي طالب، وخشي دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، فبعث إلى محمد: أن قومك قد أنذروني، فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. 0000000يتبع

إشراقة شمس
06-10-2008, 07:32 PM
فأجاب محمد: يا عمي، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته! وبكى وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب: أقبل يا بن أخي، فأقبل، فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
فبكاء محمد في طفولته ألزم أبا طالب أن يحمله إلى الشام، وبكاؤه في كهولته جعله يعرض نفسه وأهله للهلاك.
فلو لم يكن الحق الذي دان به محمد قد ملك قلبه، فلا يرى سواه، لكان وفاء عمه له هذا الوفاء، كافياً لصده عما هو فيه، أو كان كافياً على الأقل لقبوله هدنة يفرج بها عن عمه وأهله كربهم. فأي ثبات على العقيدة أعظم من هذا الثبات، وأي امتحان للإيمان أكثر من هذا الامتحان؟.
هذا المقام وأبو طالب مهدد بالهلاك، منذر من قريش، ومن ورائها دهماء العرب، يستعطف رسول الله لينزل عن رأيه، فلا يجد إلا الاباء والبكاء. هذا المقام، والأعاصير تعصف بالرجلين، وأضعفهما يريد هدم دين الآخر.. هذا المقام صورة من أبدع الصور، تبقى أبد الدهر مثلاً لسعة الصدر، وحرية الرأي، والتكافل، والوفاء، والصبر، يقوم فيه رسول الله صورة صادقة لحب الحق، والثبات على العقيدة.
ثم انظروا صورة أخرى، هي مثل في الكرامة والوفاء، وحرية الرأي. انظروا إلى رجل من آل عبد المطلب كان مولعاً بالصيد، يخرج كل يوم للقنص، فإذا ما رجع طاف بالكعبة، ثم مر بأندية قريش يسلم على أهلها، ويتحدث، وكان أعز فتى فيهم، وأبعدهم عن دين محمد، هو حمزة بن عبد المطلب. رجع يوماً من قنصه، وطاف بالأوثان كعادته، فقالت له جارية: أن أبا الحكم بن هشام ( أبا جهل)، وجد محمداً هاهنا جالساً، فسبه ونال منه ما يكره، وانصرف عنه، ولم يكلمه محمد، فغضب حمزة وثار، وقصد إلى أبي جهل في مجمع قريش، وضربه بالقوس، فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول!
انظروا هذه الصورة: أعز فتى في قريش يتقرب إلى أصنامها، ويأنس بأنديتها، يخرج على القوم ودينهم، غضباً لكرامة ابن أخيه، وتحدياً للذين تعرضوا لحريته.
هل هناك أعظم من هذا الوفاء والبر بمحمد؟
ثم انظروا إليه صلى الله عليه وسلم يشهد هذا الوفاء، ويرى بني عبد المطلب في فم الأسد، ولا يتزحزح عن مقامه، بل يهزأ بالدنيا، ويقول: " لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر أو أهلك دونه".
أرأيتم كيف يعشق الحق؟ وكيف يكون الثبات عليه؟ تلكم أظهر صفات محمد صلى الله عليه وسلم.
انظروا إليه كذلك في صورة أخرى: يفاوضه عن قومه عتبة بن ربيعة بجانب الكعبة، فيقول له: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب؛ وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم؛ فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل بعضها.
فقال محمد: قل يا أبا الوليد. قال عتبة: إن كنت انما تريد بما جئت به مالاً، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً؛ وإن كنت تريد به شرفاً، سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً، ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.
فلما فرغ قال له محمد: استمع مني يا أبا الوليد " بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون. بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون".
ومضى يتلو عليه، وكان ذلك كل جوابه لما عرضت قريش. فلو لم يكن الحق الذي ملأ نفسه هو مطلبه الأسمى، لوجد في رفق قومه المخاصمين له ما يطفئ من حماسته، ويسكن من ثورته على دينهم وآلهتهم.
ثم انظروا إلى محمد في بيته بين خديجة وبناتها وخدمها قريراً منعماً. فهي من أغنى قريش، وأوسطهم نسباً، نما مالها بين يديه، فخلا من هموم الدنيا، ومطالبها الملحة، وهاكم دليلاً على طيب المعاشرة والمحبة في بيت محمد، قصة زيد بن حارثة.
هذا رجل من العرب استرق، فاشترته خديجة، ووهبته لمحمد عبداً مملوكاً. فأعتقه وعاش في بيته، فاستدل عليه أبوه، وجاء ليفديه، فقال محمد لأبيه: أنه حر فليختر ما يشاء. فآثر زيد محمداً على أبيه.
ومثل آخر يدل على حاله في نظر أعرف الناس به، وهي زوجه. لما جاءه الوحي لأول مرة، ورجع إليها خائفاً وجلا، تلقته بهذه الكلمة: كلا. والله ما يخزيك الله أبداً، أنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ففي قولها وفعلها كل الدليل على ما كان في بيت محمد من الهناءة المنزلية. فما الذي أخرجه أذن من دعة هذا البيت وسكونه، إلى الثورة على دين مكة، يلقى فيها الأذى والاضطهاد؟
لاشك أن الذي أخرجه هو شيء أعز عليه من زوجه وبنيه، وعشيرته التي تؤويه، ذلك هو الإيمان بالحق الذي دعا إليه، والذي لا يبقى غيره، ولا يعيش إلا له.
تلكم نفس محمد؛ خلقها المتجلي في كل صورة من صورها، حب الحق والثبات عليه.
لقد سألت مرة ـ ونحن في قطار في لندن ـ أحد كبار العلماء المستشرفين: هل تظن أن محمداً كان يقول قولاً لا يؤمن به؟ فقال: لا! إن أمراً واحداً لا ريب فيه، وهو أنه كان صادقاً مؤمناً إيماناً كاملاً بما يقول، وبما يدعو إليه.
تلك هي الصفة التي لا ينكرها على محمد عدو ولا صديق.
فالحق في ذاته هو الغاية التي دأب وراءها، وخاصم وابتلى وهاجر وقاتل لها. والناس جميعاً يجب أن يكونوا طلاباً للحق، وقد ضرب لهم محمد المثل الأعلى.
ولا يزال رسول الله في ميدان البطولة، تمر بين يديه أبطال العرب وغير العرب، كما تمر مئات السنين، وهو المثل الأعلى للثبات على الحق، والدعوة إلى أن يكون الناس كافة لله عبيداً، وفيما بينهم أخواناً.

إشراقة شمس
08-11-2008, 02:42 PM
شجـــــــاعتـــــــــه ( 2 )

حديثنا هنا يرمي إلى تصوير الشجاعة التي انطوت عليها نفس محمد صلى الله عليه وسلم، تلك الشجاعة المنقطعة النظير. وقد آثرت أن صور حالة المجتمع العربي وقت ظهور الدعوة، ومقدار نفور القوم منها، ليدرك الناس مدى الكفاح الذي كافحه محمد، ومقدار ما يلزم لمثل هذا الكفاح من الشجاعة. كما آثرت سوق أمثلة من مواقفه صلى الله عليه وسلم، تبين بسالته محارباً، وشجاعته النفسية مصلحاً دينياً، وسياسياً، واجتماعياً.
جاء محمد لقومه بدعوة، في قبولها قلب حياتهم رأساً على عقب. لم تكن تلك الدعوة تتناول دينهم وحده، بل شملت حياتهم في جميع مظاهرها: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي المال، وفي البيت. ولم يكن طبيعياً ولا مألوفاً أن ينكروا ما وجدوا عليه آباءهم وبلادهم طواعية؛ فكان إذن لابد لهم من رد هذه الدعوة، وقهر صاحبها؛ ليرجع إلى الصف الذي خرج عنه، فيعظم حرماتهم التي يعظمون.
كانت مكة للعرب محط الرحال، ومصدر الهدى، إليها يحج الناس خاشعين، وفيها قريش سدنة الكعبة، وحماة البيت، أتاحت لها تلك المكانة الممتازة أن ترحل في الصيف إلى الشام والعراق، وفي الشتاء إلى اليمن، آمنة على نفسها وأموالها وتجارتها، فأثرت واعتزت، وأمتن الله عليها بقوله: " لإيلاف قريش إيلافهم. رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف" فقريش الآمنة، العزيزة الجانب المثرية، لاشك تعادي من يريد لدينها تبديلاً، ولنظامها تغييراً؛ ومحمد يدعو أولاً إلى التوحيد، وينذر ثانياً بالبعث، فلا هي راضية بإله غير آلهتها، ولا هي واجدة في البعث والحساب الذي ينذرها به ما تعقله أو ترضاه.
وعبادة الأوثان، وإن بانت لنا الآن بعد مئات السنين من قبول التوحيد غريبة منكرة، لم تكن كذلك في عهد محمد، بل كانت اليهودية والنصرانية محل سخرية العرب ومقتهم، وكانت الوثنية مستقرة في نفوس القوم.
ولا ندري كيف يتقبل العقل البشري هذه الوثنية!! لقد ارتد إليها بنو إسرائيل سراعاً في غيبة موسى، وقالوا: " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة".
وعبد المصريون القدماء آلاف السنين أنواعاً من الأوثان والكواكب والحيوان؛ وعز على قريش أن تفارق ما عبده آباؤها جيلاً بعد جيل مفضلة التقليد الأعمى على سلوك سبيل الرشاد ( انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون).
ولو أن محمداً قصر دعوته على التوحيد، وتسفيه أحلام القوم، لكفى بذلك أعناتاً، ولكنه دعا كما قلت إلى الإيمان بالبعث، فاستغربوا ذلك، واستبعدوه كل الاستبعاد، وقالوا:
" أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون".
سخروا من هذه الفكرة، واستدلوا بها على ضعف رأي صاحب الدعوة. مشى إليه يوماً أبي بن خلف بعظم بال، فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا! ثم فته بيده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله. فرد القرآن على ذلك بقوله: " وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم".
صدمت الدعوة إلى التوحيد والبعث دين قريش وعقلها فسخرت من الداعي. ثم هبت إلى الإيذاء والعدوان.
لم يكتف محمد بدعواه هذه الغريبة في رأي القوم، بل زاد عليها أن دعا إلى تحريم الخمر، والزنا، والميسر، والربا. وقريش لا تستغني عن هذه الأربعة؛ ففيها متعهم، وفيها تفاخرهم، وفيها غناهم وثروتهم.
فربا قريش كان في القبائل كلها، ومحمد يريد أن يحرم عليها ما تعده من طيبات الحياة، ومصادر الثروة، فأنى لها أن تستطيع على ذلك صبراً؟.
ولكي نتصور تمكن الخمر والزنا والربا من نفوس القوم، أسوق لكم مثلاً، تعلمون منه كيف كانت الرذيلة سلاحاً في يد قريش، تنفر به العرب من دعوة محمد: جاء أعشى قيس إلى مكة يريد الإسلام، ويمدح الرسول بقصيدة يقول فيها:
وآليتُ لاَ أَرثِي لها(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=9617#_ftn1) من كَلاَلَةٍ



وَلاَ من حَفٍى حتَّى تُلاَقِي مُحَمَّداً


نَبيٌّ يَرَى مَالاَ تَرَوْنَ وَذكْرُهُ



أَغَارَ لَعمرِي فيِ البِلادِ وَأَنْجَدَا



فلما كان بمكة، أو قريباً منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فقال له: يا أبا بصير(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=9617#_ftn2)، أنه يحرم الزنا، فقال الأعشى: والله أن ذلك لأمر مالي فيه من أرب فقال له: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر، فقال الأعشى: أما هذه فوالله أن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف، فأتروى منها عامي هذا، ثم آتيه فأسلم، فانصرف، فمات في عام ذاك.
لم يكتف محمد بالتوحيد والبعث، وتحريم بعض ما طاب لنفوس القوم، بل دعا كذلك إلى أمر غريب مستنكر لديهم، ذلك هو حق المساواة، وهم الذين قضوا أعمارهم في التفاخر بالأحساب والأنساب. فما بال محمد يخرج عليهم بالمساواة بين السادة والعبيد، ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط؟ إنها للكبيرة التي لن ترضى قريش أن تقره عليها، قريش التي أنفت أن تسوى بالناس، فحرفت لذلك دينها، وأنفت أن تقف على عرفة، وأن تفيض منه كما يقف الناس ويفيضون، وهي تعلم أن ذلك من مشاعر إبراهيم وفرائض الحج.. قريش التي ألزمت العرب ألا يطوفوا بالبيت في أثواب جاءوا بها من البدو، فطافوا عراة.. قريش التي كانت تختص بأنواع الامتياز التي جعلتها لنفسها كما تشاء، كيف ترضى لمحمد أن يدعو للمساواة المطلقة، وأن يقوم لعشيرته: يا بني هاشم لا يجئني الناس بأعمالهم وتجيئوني بأنسابكم...
بل من الغريب أن محمداً، وهو في بيت الرياسة من قريش، وفي طليعة الممتازين، رفض في الجاهلية ضروب هذا الامتياز، وسوى نفسه ببقية الأمة قبل أن يكون رسولاً يوحي إليه.
لم تستطع قريش صبراً على الدعوة إلى المساواة، فبطشت بالعبيد، وقست على المستضعفين الذين وجدوا في قول محمد إنصافاً.
ولم يكتف بأن عاب أوثانها، وأنذرها ببعث وحساب شديد، وقوض جاهها وسلطانها، وحرمها شهواتها والاتجار بالربا، وسوى بينها وبين العبيد والمستضعفين بل قام يطلب لهؤلاء العبيد والفقراء وأبناء السبيل حقاً في أموال الأغنياء:
" والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم"
يؤخذ منهم قسراً، ويضرب عليهم ضريبة، وما كان أبغض إلى نفوس القوم من ضريبة يؤدونها مفروضة! فلما مات الرسول كانت تلك الضريبة أول ما عصوا عليه، وارتدوا من أجله.
ذلك مجمل من القول يصور لكم حالة المجتمع الذي قام فيه محمد داعياً إلى الله، وإلى نظام سياسي واجتماعي بغيض إلى القوم. وقد صور ذلك القرآن في أبدع إيجاز بهذه الآية: " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا".
إذا تصورتم ذلك كله، أدركتم ما ينبغي لمثل هذا الكفاح من الشجاعة والصبر، والشجاعة والصبر هما عماد البشرية، يمسكانها على الأرض كما تمسكها الجبال أن تميد بمن عليها. وقد ضرب الأبطال والشهداء للناس أمثلة في الشجاعة هي النور في تاريخ الحياة، يهدي إلى الحق وإلى صراع مستقيم. وقد امتحنت شجاعة معلم الأبطال صلى الله عليه وسلم طول حياته، فما تطرق إليها وهن. هذه الشجاعة لازمته منذ الصبا، فهو فيها المجلي في الجاهلية والإسلام.
استخلف مرة وهو صبي باللات والعزى، فقال: لا تسألني بهما شيئاً، فوالله ما بغضت شيئاً بغضي لهما.
هذا الصبي يتحدث بهذه الجرأة عن آلهة القوم، لا يخشى بطشاً، وهو المشهور بالحياء، حتى قيل فيه: أنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها.
خرج إلى اليمن في قافلة مع عميه، وكان في السابعة عشرة من عمره، فرأوا في واد فحلا من الإبل، قد توحش وجمح؛ فتعرض له محمد وكبح جماحه.
وفي حرب الفجار وهو دون العشرين كان ينبل على أعمامه.
واعترض القافلة واد ملئ ماء، فهابته الجماعة، فتقدم وقال: اتبعوني، اتبعوني.
هذه أمثلة من جرأة الصبا، ولكن الأمثلة التي نريدها، والتي ينحني لها أبطال العالم اكباراً وإجلالاً، هي تلك التي ضربها بعد الرسالة، وبعد أن جهر بالدعوة وقال الله له: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين".
قال على: كنا إذا حمى البأس، واحمرت الحدق؛ اتقينا برسول الله؛ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.
وهاكم حادثتين، هما عندي المثل الأعلى في شجاعة المحارب:
فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعاً، وقد سبقهم إلى ذلك الصوت، واستبرأ الخبر على فرس عري، والسيف في عنقه، وهو يقول: لن تراعوا.
ويوم حنين وقف على بغلته، والناس يفرون عنه، وهو يقول:
أنا النبي لا كذب



أنا ابن عبد المطلب



فما رأى أحد يومئذ كان أثبت منه، ولا أقرب للعدو. ولقد اخترت هاتين الحادثتين من تاريخ طويل؛ لأن الأولى منهما هب فيها رسول الله إلى مكان الخطر، قبل أن يتحرك الناس، وفي الثانية ثبت في مكان الخطر وقد فر الناس. والذين لهم علم بالحرب يعرفون بهذين الموقفين تمتحن الشجاعة، فليس أصعب على النفس من السبق إلى الخطر، ولا من الصبر عليه وقد استولى الخوف، وغلب الرعب.
هذه الشجاعة التي امتاز بها أبطال الأمم، والتي كان لمحمد فيها النصيب الأوفر، ليست عندي الشجاعة التي اختص بها رسول الله، والتي هي أعلى صفات البطولة. ولكن شجاعته حين خرج على قومه مفاجئاً بالدعوة التي كرهوها، وشجاعته وهو يصابر على الأذى والسخرية؛ وشجاعته وقد تعاهدت قريش في صحيفة علقت بالكعبة على مقاطعة عمه أبي طالب، ومن تبعه من بيت هاشم والمطلب، لحمايتهم له، فبقوا في الشدة ثلاث سنين، وهو على هذا، دائب على أن يصلي في البيت ويجهر بالقرآن؛ وشجاعته وقد بعث أنصاره إلى الحبشة فراراً من الأذى والموت، وصبره هو بعدهم وحيداً يتعرض للأذى والموت؛ وشجاعته وقد مات عمه أبو طالب وزوجه خديجة في أيام متتابعات، وكان في عمه وزوجه النصير والوزير، ثم يبقى بعد ذلك قائماً بمكة، تمر الحادثات عليه كأنها الأعاصير تعصف في ذروة الطود الراسخ؛ وثباته في الموقف وحيداً إذ يعرض نفسه على القبائل، ويلقي السخرية وأشنع الرد بالقول والفعل حتى إذا ما انصرف كل أنصاره مهاجرين ليثرب، جاء البيت يوماً بعد يوم يقيم صلاته ونسكه جهراً، ويتلو القرآن جهراً.
تلك صور لو رسمت وعرضت، لكانت أبهج ما تنشرح له صدور الأبطال في كل جيل وأمة، ولجعلت إمامته في الشجاعة النفسية مرضية للأجناس والأديان: سوداً وبيضاً، موحدين ومشركين.
تلك الشجاعة النفسية أو الأدبية التي لا تهن للسخرية، ولا تذل للوعيد، ولا تطيش للوعد، والتي أمسكت الخلق المحمدي، فكانت سنده الذي لا يتزلزل، هي شجاعة مقطوعة النظير في تاريخ البشر.
انظروا إليه وقد سلطوا عليه سلاح السخرية، وهي أفتك ما يكون بالعزيمة، وأقتل ما يكون لحماس الرجال، هي أفتك من الأذى والاضطهاد.
وقف مرة على الصفا ينادي قريشاً، فلما جاءوا يستمعون أنذرهم حساب الله فتركوه وانصرفوا، ولم يزد أبو لهب على أن قال: تباً لك! ألهذا دعوتنا...؟
كانوا يتواصون فيما بينهم:
" لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون".
فهم كانوا يعلمون أن سلاح الهزء والسخرية أنكى على الدعوة من الاضطهاد والأذى؛ فلم يغفلوا عن هذه السخرية، فلما أشار القرآن إلى شجرة الزقوم تخويفاً لهم، ازدادوا بها طغياناً، وقال بعضهم مستهزئاً: يا معشر قريش، أتدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ إنها عجوة يثرب بالزبد، والله لئن استمسكنا بها لنتزقمنها تزقماً..
ولما أشار القرآن إلى جهنم، وأن عليها تسعة عشر من الزبانية. قال أبو جهل وهو يهزأ برسول الله: يا معشر قريش، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار، ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر عدداً، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم؟
فنزل القرآن: " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا".
كان الرسول إذا جلس مجلساً يعظ الناس خلفه في مجلسه " النضر بن الحارث" وكان قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث الفرس، وأحاديث رستم واستفنديار، فيقول: يا معشر قريش. أنا والله أحسن من محمد حديثاً، فهلموا إلىّ، فأنا أحدثكم، وأنزل مثل ما أنزل الله، ثم يحدثهم عن رستم واسفنديار وملوك الفرس.
انظروا أيضاً إلى هذه السخرية بمحمد واتباعه:
ذهب خباب بن الأرت أحد المستضعفين من أصحاب رسول الله، وكان صانعاً للسيوف، ذهب يتقاضى من العاص بن وائل، أحد عظماء مكة، أجر ما صنع، فقال له: يا خباب أليس يزعم محمد صاحبكم أن في الجنة ما ابتغي أهلها؟ قال خباب: بلى، قال: فانظرني إلى يوم القيامة يا خباب، حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا تكونن أنت وأصحابك يا خباب آثرعند الله مني ولا أعظم حظاً.
وكان الوليد بن المغيرة قد انفرد بالرياسة في مكة، وأبو عروة بن مسعود الثقفي قد انفرد بالرياسة في الطائف، فكانوا يقولون تهكماً:
" لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"
تصغيراً من شأن محمد، وزراية به.
لم تزدهم هذه السخرية على اضرارها بالدعوة إلا غفلة، ولا زادته إلا صبراً واستبسالاً، فمرت السنون على هذا التهكم والأذى، والشجاعة النفسية تسنده وتعلو به، وتقر هيبته، وتلقى الرعب في نفوس أعدائه.
فلما تحطمت أسلحة السخرية والأذى على جنبات النفس الأبية، وتآمر المشركون على قتله، خرج مستخفياً مهاجراً، فكان وهو في الغار يقول لصاحبه:
" لا تحزن إن الله معنا".
وابتدأ بذلك دور الصراع، الذي لمع فيه السلاح، كما لمعت النفس التي صقلتها الشجاعة، فعرف رسول الله كيف يصبر ويرضى، وكيف يثور ويغضب، وبقي خالداً تنطوي صفحات الأبطال؛ وصفحته منشورة تقرأ فيها آيات الشجاعة والصبر، ويظل بها رسول الله المثل الأعلى.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=9617#_ftnref1) ناقته.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=9617#_ftnref2) كنية الأعشى.

إشراقة شمس
08-11-2008, 02:48 PM
وفــــــــــــــاؤه (3 )

نتحدث هنا في وفاء بطل الأبطال محمد صلى الله عليه وسلم، وفائه لأعدائه، ووفائه لأصدقائه.
والوفاء هو القوام لمكارم الأخلاق، به تستقيم الحياة، وهو ميزان المروءة، ومقياس الفضل في الأفراد والأمم، ولو دان به الناس لوجدوا السعادة كاملة.
يحدث الوفاء في نفس الوفى من الغبطة مالا حد له، وفي نفس الموفى له الرغبة في البر والمروءة، واصطناع المعروف عند الناس. والأمم الوفية تبتغى صداقتها، ويرغب في معاهدتها، ويوفى لها بذمتها.
انظروا إلى العالم المضطرب الذي نعيش فيه، أليس عدم الوفاء قوام هذا الاضطراب؟ إذا كان الحليف لا يأمن عهد حليفه، فأنى لأحدهما أن يستقر إلى ضمان من هذا العهد، يقيه مظنة السوء، ويكفيه شر الخوف، ويوفر عليه نفقات الاستعداد ليوم الغدر.
لو أن العهود والمواثيق كان لها من الحرمة ما أراد بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، لما هبط العالم إلى حياة الدس والكيد، والذمم المخفورة، والجوار المنتهك. ولو سار المسلمون على النهج الذي نهجه، واقتدى بهم غيرهم، لو ضعت العلاقات الدولية على أثبت القواعد التي تكفل السلم، وتضمن الانصاف، وتستبقى الكرامة للناس جميعاً. انظروا إلى هذه الأمثال نسوقها، لتروا صوراً من الوفاء، هي أروع ما ينظر إليه الناس.
قبل سنة من هدنة الحديبية، كانت قريش تحاصر المدينة، وقد جمعت لذلك الأحزاب من أهل القرى والأعراب، فنقض بنو قريظة عهدهم مع رسول الله، واشتد بذلك الكرب، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً، ولكن الله نصر عبده، وأعز جنده، وألقى الرعب في قلوب المشركين، ولم تمض إلا فترة وجيزة حتى كان جيش الإسلام بقيادة رسول الله يزحف إلى مكة، فنزل الحديبية، وبعثت قريش رسلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وها هو ذا عروة بن مسعود الثقفي رسولها يعود إليها، يصف حال محمد وجنده بهذه العبارة: أني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وأني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه.
كان محمد في منعة وقوة، ولكنه كان يعلن أنه لا يريد الحرب، ويقول: لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. فلما جاءه سهيل بن عمرو مفوضاً من قريش لعقد هدنة، يرجع بها محمد وجيشه عن دخول مكة، كان من شروط هذه الهدنة شرط ظاهر الغبن، وهو أن محمداً يسلم إلى قريش من لجأ إليه من المسلمين بغير إذن وليه، ولا يطلب تسليم من لجأ إلى قريش من أتباعه.
ذلك الشرط هاج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر رضي الله عنه كان يذهب تارة إلى أبي بكر، وأخرى إلى الرسول، ويقول: ألسنا المسلمين! أليسوا المشركين! ألست رسول الله! فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فيقول محمد: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضعني؛ ويقول أبو بكر: أشهد أنه رسول الله. فقبول المسلمين هذا الشرط هو استسلام منهم لأمر لم يدركوا سره، وكان ذلك أعظم بلاء وامتحان لصبرهم. وبينما هم على هذه المضاضة، وقد فرغ الرسول من الجدل مع مفوض قريش " سهيل بن عمرو"، ولم يكتب العقد، ولم يمض، جاءهم أبو جندل مستصرخاً يرسف في قيوده.
وأبو جندل هذا هو ابن سهيل بن عمرو نفسه، وقد انفلت إلى المسلمين من أيدي المشركين، فلما رأى سهيل ابنه قام إليه، وأخذ بتلابيبه، وقال: يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك ( أي فرغنا من المناقشة) قبل أن يأتيك هذا. قال محمد: صدقت. وأبو جندل ينادي: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟
تصوروا ذلكم المقام، مقام محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الشجاع الذي حدثتكم عن شجاعته المقطوعة النظير، وهو القوي الذي خرج من المدينة زاحفاً بجيش سمعتم الآن وصف عروة بن مسعود له، تصوروه وهو يرى أقرب أصحابه يكاد يجنح إلى العصيان، ثم تصوروا لاجئاً يرسف في القيود، وهو من أبناء الأعزة في قريش، يرسف فيها ثم انظروا إليه صلى الله عليه وسلم لا يحتال ولا يتردد، ولما يكتب، ولما يمض، يقول لسهيل: صدقت، لقد لجت القضية، ويرد صاحبه باكياً إلى أعدائه! تصوروا كل ذلك، ثم ليكتب إليّ من شاء بمثل واحد في تاريخ البشر كله كهذا المثل، يضربه محمد في رعاية الكلمة التي قالها، ولما تكتب، ولما تمض.
ذلك هو أعلى الأمثال في الوفاء بعهد العدو.
بل أرسل الله محمداً بشريعة في الوفاء، تجعل حق الميثاق فوق حق الدين نفسه، فقد جعل الدية للمشرك من قوم بينهم وبين المسلمين عهد، ولم يجعل دية للمسلم من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد.
وكذلك حرم نصرة المسلم للمسلم على من بيدهم ميثاق المسلمين من أهل الملل الأخرى، فقد جاء القرآن: " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق".
ذلك هو التقديس للعقود والمواثيق، الذي يبقى أبد الدهر فيه الهدى للناس جميعاً.
هذا وفاؤه لأعدائه إذا عاهدهم. والآن انظروا معي إلى وفائه لعدو قد قتل في حربه:
كان مطعم بن عدي من أشرف قريش، وكان رسول الله حين رجع من الطائف، ولقي من ثقيف منكر القول والفعل، طلب جوار بعض رؤساء مكة، ليدخلها آمناً على حياته، فأبوا، وقبل مطعم يدخلها في حمايته، فلما كانت وقعة "بدر" بعد ذلك، ودارت الدائرة على قريش، وقتل نفر من صناديدها، كان بين القتلى مطعم بن عدي، فقال فيه حسان بن ثابت، شاعر رسول الله:
أيا عين فابكي سيد القوم واسفحي



بدمع، وإن أنزفته فاسكبي الدما


وبكى عظيم المشعرين كليهما



على الناس معروف له ما تكتما


فلو كان مجد يخلد الدهر واحداً



من الناس أبقى مجده اليوم مطعما


أجرت رسول الله منهم فأصبحوا



عبيدك ما لبى مهل وأحرما


فلو سئلت عنه معد بأسرها



وقحطان أو باقي بقية جرهما


لقالوا هو الموفي بجيرة جاره



وذمته يوماً إذا ما تذمما


قما تطلع الشمس المنيرة فوقهم



على مثله فيهم أعز وأعظما



ذلكم رثاء حسان لرجل من المشركين، مات يحارب محمداً وصحبه، يستمع إليه صاحب الدعوة، ويسره أن يرى المسلمين برددونه.
أرأيتم وفاء كهذا وسعة صدر؟ أرأيتم بطل الأبطال يسمو إلى أعلى ما تصل إليه الرجولة والإنسانية الكاملة، فيبكي المروءة في عدو هو أحد صرعاه في القتال؟ ذلكم هو الوفاء الذي علا فوق كل شيء.
ثم انظروا إلى وفائه للمشركين أيضاً: كان بين شروط هدنه الحديبية أن من شاء دخل في عقد محمد وعهده، ومن شاء دخل في عقد قريش وعهدها، فدخلت خزاعة على شركها في عهد محمد. فلما نقضت قريش عهدها معه، ونصرت حليفتها بكراً عليها؛ ذهب عمرو بن سالم الخزاعي يطالب بالعهد، ويطلب نصر حلفائه، فوقف على رسول الله، وهو في المسجد ينشده ويقول:
يا رب إني ناشد محمداً



حلف أبينا وأبيه الأتلدا


فانصر هداك الله نصراً أعتدا



وادع عباد الله ياتوا مددا


في فيلق كالبحر يجري مزبدا



إن قريشاً أخلفوك الموعدا




* ونقضوا ميثاقك المؤكدا *

فكان ذلك الاعتداء على المشركين من حلفاء المسلمين، سبباً في الاتجاه إلى فتح مكة، فأسرع رسول الله بالتجهز والزحف عليها.
هذه أمثلة سقناها من وفاء بطل الإسلام صلى الله عليه وسلم لأعداء الملة، وقد عاهدهم، أو ذكر لهم صنيعاً، أو قبل محالفتهم على غيرهم.
ووفاؤه لأصدقائه هو الذي نستنفد فيه القراطيس ولا ننتهي، فحياته منذ الصبا هي البر والوفاء.
يقول عبد الله بن أبي الحماء: بايعت(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10184#_ftn1) محمداً، ووعدته أن آتيه في مكانه، فنسيت، فذكرته بعد ثلاثة أيام، فإذا هو في مكانه، فلما رآني لم يزد على أن قال: لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاثة أيام أنتظرك، وكان ذلك في الجاهلية قبل أن يبعث محمد.
وروت عائشة: أن عجوزاً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: من أنت؟ فقالت: جثامة المزنية، فقال: أنت حسانة؟ كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير، بأبي أنت وأمي. فلما خرجت قلت: يا رسول تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال! قال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان.
وبعد وقعة حنين، وفيها كادت هوازن تقضي على الإسلام لو لا ثباته صلى الله عليه وسلم، جاءه وفد منها، وهي الباغية المستكبرة، تطلب العفو عن أسراها، فماذا وجدت لتحرك به رحمته، وتستثير شفقته؟ لا شيء، فليس أشد سواداً من ماضيها معه، ولكنها وجدت في وفائه ملجأها ومنتهاها، فقال رجل منهم: يا محمد، إن في الحظائر مرضعاتك وحواضنك، ولو أنا ملحنا(2) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10184#_ftn2) للنعمان بن المنذر، أو الحارث بن أبي شمر الغساني، ثم نزل منا مثل الذي نزلت، رجونا عطفه وعائدته علينا. فقال عليه السلام: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وبذلك رد على هوازن آلاف الأسرى. تلك هي النفس الوفية، التي تكرم أمة ظالمة مغلوبة وفاء للبن الذي رضعته فيها، فهل للناس وقد عفا فيهم أثر المعروف أن يتذكروا؟
ثم إليكم هذه الحادثة، فقلبوا تاريخ القادة في العالم أحياء وأمواتاً، ثم اذكروا محمداً وصلوا عليه:
كان يتجهز في المدينة لفتح مكة، وكان يخفي أمره، حتى عن أبي بكر وعائشة، فلما أعلن العزم، سارع حاطب بن أبي بلتعة إلى امرأة استأجرها، وكتب لها كتاباً إلى قريش، وضعته في شعرها، وفتلت عليه قرونها، فعلم رسول الله، وأخذت المرأة في الطريق، فلما سأل حاطباً ما حمله على فعله؟ قال: يا رسول الله، أما والله أني لمؤمن، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق! فقال رسول الله، وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم! فانزل الله في حاطب: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة".
تأملوا في هذا، أن وفاء محمد لأصحابه الذين نصره الله بهم في بدر، جعله يرجو أن يكون الله قد غفر لحاطب حتى هذه الفعلة.
ثم كان رسول الله في مرض الموت، فلما اشتد به خرج إلى أصحابه، فصعد على المنبر، وقال: يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون، وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وأنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى مسحنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم.
ثم انظروا أخيراً إلى مقام الوفاء من نفسه، وهو يقول يوم أحد حين أمر بدفن القتلى: انظروا إلى عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن حرام، فإنهما كانا متصافيين في الدنيا، فاجعلوهما في قبر واحد.
ذلك هو الوفاء الذي نحن في أشد الحاجة إليه، ولن يستقيم أمر العالم حتى يتذوقه الناس، وحتى يؤمنوا به إيمان محمد وأصحابه.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10184#_ftnref1) بايعت: أي بعت له شيئاً.

(2) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10184#_ftnref2) أي أرضعناه.

إشراقة شمس
08-11-2008, 02:53 PM
زهــده وقنــاعتـــــه ( 4 )
زهده وقناعته صلى الله عليه وسلم، قد ضرب فيهما المثل الأعلى للناس جميعاً، للراعي والرعية، والأفراد والجماعات. انظروا إلى العالم الذي نعيش فيه، فإنه يشكو الجشع الذي أصاب أهله، فلا الغنى قانع بالآفه وملايينه، ولا الفقير راض بالكفاف من العيش؛ فالمالكون لأعنة المال يصرفونه في شئون الهوى، والأجراء كذلك يتطلعون إلى المال من أجل الهوى. ليس المسيطرون أقل رغبة في اللهو ممن هم دونهم، فقد تساوى الأمير والحقير، وجعلوا هدف الحياة وغايتها شهوات النفس، ومتاع العيش.
انظروا يميناً ويساراً في كل البيئات، بل في العالم أجمع، هل ترون إلا خلقاً قد انطلقوا للدرهم والدينار، لا يلوون على شيء، وانصرفوا لعبادة المال، فملك قلوبهم ومشاعرهم، وأصبح رفيقهم في حركتهم وسكونهم؟
وهل ترون إلا صراعاً بين أمم اتخذت حب المال والغلب عليه غايتها، فهو لها الأول والآخر، والظاهر والباطن؟ وهل ترون إلا طبقات من الأمم تتطاحن، ليس لها مطلب إلا السبق إلى المتاع، واختطاف بعضها ما في أيدي البعض؟ وهل ترون إلا أفراداً من فاز منهم بالغنيمة تنحى بها جانباً، وأرخى لهواه العنان، في قصور مشيدة، وجنان، ومراكب، ومواكب، ومتاع، وغرور، والناس ينظرون إليهم مع الحسد والإعجاب، لا يسألون أنفسهم شيئاً عن أصل هذا أو مصيره؟
تلك الأمم والطبقات والأفراد في صراعها على مواد الحياة قد هوت إلى الحيوانية، ليسوا فيها إلا كالقطيع يتزاحم ويتطارد، ليحظى بالعشب، أو الكلاب تتهارش وتتخاطف العظام.
هوى الإنسان في سبيل المال والهوى إلى الدرك الذي جاء الأنبياء والرسل جميعاً ليرفعوه عنه، ويوجهوه وجهة أسمى من المحسات، وجهة معنوية مقتصدة في رغبات البدن الزائل، متطلعة إلى مطالب الروح الخالدة.
جاء بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم؛ والناس على مثل هذه الحال لا يعرفون فضلاً إلا للأموال والأحساب، ولا يدركون من لذة التقوى ومتاع الروح شيئاً، فضرب مثلاً من نفسه في القناعة والزهد واحتقار الدنيا، صرف الناس عما هم فيه، وأخرج الصحابة الزهاد الذين جعلوا للحياة الروحية المقام الأول، فاتخذوا الدنيا مطية إلى ما هو أسمى منها.
ضرب محمد عليه السلام المثل من نفسه، في فقره وغناه، وضعفه وقوته، ضربه وهو محاصر مع أهله في الشعب، وضربه وهو ملتجئ إلى المدينة، وهو يقيم دولة الإسلام فيها، وبعد أن أقامها، وبعد أن ملك الأموال والرقاب في جزيرة العرب كلها، فكان يهب هبات الملوك فيعطي الغني، ويرجع إلى داره وفراشه فيها الحصير وطعامه خبز الشعير.
قال ابن مسعود: دخلت على رسول الله وقد قام على حصير، وقد أثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء تجعله بينك وبين الحصير، يقيك منه، فقال: مالي وللدنيا! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
وعن قتادة بن النعمان قال: قال رسول الله: إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمى سقيمه الماء.
تلك نظرة بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم إلى الحياة الحسية، تلك النظرة السامية التي اخترقت حجب هذه الدنيا، فلما كثر اتباعه، وانتشر دينه؛ فتحت القلوب إلى ما هو أوسع من البطن والفم والأنف، وسمت النفس الإنسانية فوق تلك الحجب، فتجلى لها النور الإلهي، واتسع الأفق، وأضاءت الأرواح العلية هذا الوجود، فشهد العالم دولة الصدر الأول للإسلام، فيها المثل الكامل للزهد والقناعة والعدل والمساواة والمعروف وطيب العيش، فيها مثل أبي بكر وعمر وهما في أثواب مرقعة، يحسدهما كسرى وقيصر.
وهل كان عمر في الثوب المرقع على الأرض أقل متاعاً بالحياة من المترفين الجبابرة؟ كلا، إنما هو نوع آخر من اللذات، أبعد من الحيوانية، وأدنى إلى الإنسانية، ذلك هو متاع الروح التي فرت إلى الله، وإلى أسمى الحياة الوجدانية، وذلك أبعد أثراً في النفس، وأحسن عاقبة للأبدان، وأحب إلى وجودنا البشري.
تلك المدرسة المحمدية مدرسة القناعة والزهد، أخرجت ولاة وحكاماً للشعوب، يقنعون بدرهم في اليوم أجراً، ويقيمون الولاية والملك على أحسن ما يرضى الله والناس.
يروي ابن هشام عن زيد بن أسلم: لما استعمل رسول الله عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهماً، فقام وخطب الناس، فقال أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله درهماً كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد.
هل ترون خلال هذه الخطبة إلا رجلاً فرحاً برزقه، قد ضمن العيش بدرهم ويريد أن يفرغ إلى ما هو فوق العيش! هذه هي القناعة، التي تلقاها الصحابة من المعلم الأكبر.
انظروا إلى محمد نفسه، خرج مرة من المسجد، فوجد أبا بكر وعمر، فسألهما عن خروجهما، فقالا: أخرجنا الجوع، قال: وما أخرجني إلا الجوع، فذهبوا إلى أبي الهيثم، فأمر لهم بشعير، وقام إلى شاة فذبحها، واستعذب لهم ماء معلقاً عنده في نخلة، ثم أتوا بالطعام، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال عليه الصلاة والسلام: لنسألن عن نعيم هذا اليوم!
كان النبي معروفاً بفرط الحب لأولاده، حتى أن فاطمة بنته كانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبلها، وأجلسها مكانه، ومع ذلك كانت تعيش عيشة الفقراء، وتشكو من آلام الرحى، وتجرح يدها أحياناً من حمل الماء، فطلبت إليه يوماً خادماً من الأسرى فأبى.
وروى أنه قال لعلي: كيف تطمعون في شيء من هذا؛ وأهل الصفة على ما هم عليه من الفقر! ودخل على فاطمة وفي يدها سلسلة من ذهب، وهي تقول لامرأة عندها: هذه أهداها أبو الحسن، فقال صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة، أيسرك أن يقول الناس ابنة رسول الله في يدها سلسلة من نار؟ ثم خرج ولم يقعد فأرسلت فاطمة بالسلسلة فباعتها، واشترت بثمنها عبداً، فاعتقته، فحدث رسول الله بذلك فقال: الحمد لله الذي نجى فاطمة من النار.
ذلكم هو الزهد الذي علمه بطل الأبطال أهل بيته وصحبه والناس جميعاً. وأن فاطمة، وقد باعت السلسلة، وأعتقت العبد، قد تمتعت ولا ريب بلذة وجدانية، وطمأنينة نفسية، أبعد أثراً في تشييد بيت السعادة، من تلك السلسلة من الذهب في عنقها، تفخر بها على صاحباتها.
روى البخاري عن عائشة أنها قالت لعروة: يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار.. فقلت: يا خالة، ما كان عيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله جيران من الأنصار كانت لهم منائح(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftn1)، وكانوا يمنحون رسول الله من ألبانها فيسقينا.
وقد ذكر مرة وهو في الصلاة: أن بيته تبراً، فخفف الصلاة، وسارع إلى التبر، ففرقه على الفقراء، كراهة أن يبيت الذهب في بيته.
قال عقبة بن الحارث: صلى بنا رسول الله العصر فأسرع وأقبل يشق الناس من سرعته، ودخل إلى بيته، ثم لم يكن بأوشك من أن خرج، فقال: ذكرت شيئاً من تبر كان عندي، فخشيت أن يحبسني فقسمته. هذا الذي يقسم التبر بين الناس هو الذي تقول عائشة أيضاً عن حال أهله: ما شبع آل محمد من خبز البر ثلاثاً، حتى قضى لسبيله، وما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا أحداهما تمر.
ويقول أنس: قال رسول الله: لقد خفت في الله ما لم يخف أحد، وأوذيت في الله ما لم يؤذ أحد، ولقد أتى علي ثلاثون ما بين يوم وليلة، ومالي ولبلال من الطعام إلا شيء يواريه ابط بلال(2) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftn2)".
وهاكم أمثلة من مأثور قوله في القناعة والزهد، وما كان قوله إلا مطابقاً لعمله، فما عرف عن بطل الأبطال حديث إلا كان صورة لنفسه الكريمة، معبراً عما رضي لها من خلق وما هو عليه من فطرة.
والذين يقرءون بإمعان سيرته الكريمة، يرون مطابقة أقواله أفعاله في كل أطوار الحياة مطابقة تامة، فلم يكن يخشى الفقر أكثر مما يخشى الثروة والغنى، وكان يكره الكنز، ويقول: أنه لم يترك في بيته ثلاثة دنانير يضم إليها ديناراً آخر، إلا لقضاء دين، وكان يقول: اللهم أجعل رزق آل محمد كفافاً وقيل قوتاً ( أي لا يزيد على الحاجة).
وعن أبي أمامة الأنصاري قال: ذكروا عند النبي الدنيا، فقال: ألا تسمعون، ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان ( أي التواضع في اللباس، وترك الزينة).
وقال علي: بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا مصعب بن عمير، ما عليه إلا بردة مرقعة بفرو، فلما رآه صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه مصعب من النعمة، ثم قال: كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة، وراح في أخرى، ووضعت بين يديه صحفة، ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟ قالوا: يا رسول الله نحن يومئذ خير منا اليوم، نكفى المؤنة، ونتفرغ للعبادة، فقال: بل أنتم خير منكم يؤمئذ.
وكان صلى الله عليه وسلم يحبب إلى الناس صحبة الفقراء، حتى تنصرف آمالهم عن التطلع إلى الترف والزينة. يقول عون بن عبد الله بن عتبة: كنت أصحب الأغنياء، فما كان أحد أكثرهما مني؛ كنت أرى دابة خيراً من دابتي، وثوباً خيراً من ثوبي، فلما سمعت قول رسول الله: إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه، فذلك أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم. قال، لما سمعت ذلك صحبت الفقراء فاسترحت.
لابد أن يخطر لكم هنا هذا السؤال: ما الحد بين الغني والفقر في نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر أصحابه؟ وإنا محاولون أن نصوره لكم كما صورته كتب الحديث.
قال صلى الله عليه وسلم: من أصبح آمناً في سربه، معافي في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. وروى عثمان عنه أنه قال: ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يوارى عورته، وجلف(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftn3) الخبز والماء. وسأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك.
ولقد سأله أصحابه: ما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه، أو يعشيه.
لذلك كان رسول الله يكره من الناس السؤال، ويقول: لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئاً؛ وكان يترفع بأنصاره عن ذلك السؤال.
أتى إليه رجل من الأنصار يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء. فقال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أن آخذهما بدرهم. قال رسول الله: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الرجل، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فأتنى به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله عوداً بيده، وقال: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشرة يوماً، ففعل، ثم جاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة.
كان بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم مثال الرجولة، يحب النظافة والطيب، ويبغض الخيلاء والتظاهر، وما يقصد به إلى الترف. قال علي: أخذ رسول الله حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، فقال أن هذين حرام على ذكور أمتي.
ورأى عمر مرة حلة من استبرق تباع، فأتى بها النبي، فقال: يا رسول الله ابتع هذه، فتجمل بها للعيد والوفود، فقال رسول الله: إنما هذه لباس من لا خلاق له.
فهذا سيد العرب، ومالك الجزيرة يملأ بالأموال صحن المسجد، فيقسمها على الناس إلى آخر درهم، فإذا دخل إلى بيته نام على جلد محشو بليف، قالت عائشة: كان فراشه من أدم حشوه ليف.
وتقول عائشة: أنه كان لرسول الله حصير يحتجزه في الليل، فيصلي فيه، ويبسطه في النهار، فيجلس عليه وكان في طعامه قانعاً زاهداً يقول:
" حسب ابن آدم لقيمات يقمن أوده"(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftn4).
يقول أنس خادمه: ما علمت النبي خبز له مرقق قط، ولا أكل على خوان قط.
وسئل سهيل بن سعد: هل أكل النبي النقي(2) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftn5)؟ فقال ما رأى النبي النقي منذ ابتعثه الله حتى قبضه.
ولم يقصد رسول الله بهذا الزهد إضاعة المال، ولا تحريم ما أحل الله لعباده من الزينة والمتاع، فقد عرف الزهد بهذا المعنى السامي في قوله: ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك مما في دك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبحت بها، أرغب منك فيها، لو أنها بقيت لك، لأن الله تعالى يقول:
" لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم".
وكان يحب النظافة والطيب والهيئة الحسنة، ويحرص عليها. قال عطاء بن يسار: أتى رجل النبي ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه كأنه يأمره بإصلاح شعره ففعل، ثم رجع فقال النبي: " أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان" ! ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة، فقال: " أما كان هذا يجد ما يغسل ثوبه؟" وجاءته هند بنت عتبة تريد أن تبايعه، فقال: " لا أبايعك حتى تغيري كفيك.. كأنهما كفا سبع". يريد أن تصلح أظفارها، وتغير كفها بالحناء.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكريم، جواد يحب الجواد، فنظفوا أفنيتكم، ولا تشبهوا باليهود".
فرسول الله في زهده وقناعته إنما كان يكره الخيلاء والإسراف والترف، ويحب للمسلم أن يرضى بالكفاف، وأن يكون جواداً نظيفاً.
كان بطل الأبطال في زهده وقناعته مثلاً كاملاً، صور لنا كيف يتأتى للرجل أن يعيش كريماً، يضع تسعين ألف درهم على حصير أمامه، فينفقها جميعاً، وينام بعد ذلك على حصير يؤثر في جنبيه، فإذا أرادوا أن يتخذوا له وطاء قال: " ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها".
ذكر وهو في مرض موته أن في بيته سبعة دنانير، فأمر أهله أن يتصدقوا بها، فنسوا لاشتغالهم بمرضه، وأفاق يوم الأحد الذي سبق وفاته، فسأل عائشة ما فعلت بالسبعة الدنانير؟ فأجابت أنها لا تزال عندها، فطلبها ووضعها في كفه، ثم قال: " ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه !" ثم تصدق بها على الفقراء، وقد لقي الله في كساء ملبد، وإزار غليظ، هو لباسه الذي قضى فيه، ولكنه ترك وراءه نوراً يشع من جبين القناعة والزهد، يهدي البشر إلى الحياة الطيبة، ويوجههم إلى ما هو أسمى من متاع الأبدان الزائلة، إلى متاع الأرواح الخالدة، ولا يزال رسول الله في قناعته وزهده قدوة الأبطال والناس جمعياً، يتطلعون إلى منتهى قصده، فلا يدركون منه إلا قليلاً.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftnref1) المنائح جمع منيحة، وهي الشاة تعار لينتفع بها.

(2) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftnref2) يريد شيئاً يسيراً يضعه حامله تحت إبطه فلا يظهر.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftnref3) جلف الخبز: الغليظ اليابس، يؤكل بغير إدام.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftnref4) الأود: الإعوجاج.

(2) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10185#_ftnref5) خبز الدقيق الخالص.

إشراقة شمس
08-11-2008, 02:58 PM
تـواضـعه وتيــاسـره ( 5 )
صفة بينه لبطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، كانت ولا تزال على مر الأجيال بادية واضحة في طبعه الكريم، تلك هي: التياسر والتواضع، فبهما كان محمد صورة صادقة لكرامة الإنسان، يؤتاها من صميم نفسه، ولا يصطنعها مما يحيط به من مظاهر خادعة متكلفة.
كان محمد التياسر نفسه يتمثل في الرجل الكامل، وينبعث من أعماق قلبه، فيبدد ما يتجمع حوله من زخرف السيادة والملك، وما يتبعهما من الرياء والزينة، وما يخدع به الناس من قول أو فعل، كان محمد قريباً هيناً سهلاً، يلقي أبعد الناس وأقربهم، وأصحابه وأعداءه، وأهل بيته ووفود الملوك بلا تصنع ولا تكلف، بل بالحق سافراً.
فكانت أعماله تصدر طبيعية، كل منها يدل على خلقه، كما تدل الصورة على صاحبها.
واسمعوا إلى عدي بن حاتم الطائي يروي قصته، وقد قدم إليه من الشام، بعد أن فتحت جيوش المسلمين بلاده، وبعد أن فر إلى الروم هارباً.
يقول، وقد كان يظن أنه سيلقى ملكاً في المدينة: دخلت على محمد وهو في المسجد فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم. فقام وانطلق بي إلى بيته، فوالله لأنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته فوقف طويلاً تكلمه في حاجتها، قال: فقل: والله ما هذا بملك. قال: ثم مضى بي رسول الله حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقذفها إلي، فقال: أجلس على هذه، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت. فجلست عليها، وجلس رسول الله على الأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسياً ( دين بين النصرانية والصابئية). قال: قلت: بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك. قال: قلت أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل، يعلم ما يجهل. ثم قال: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم، وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم. قال: فأسلمت.
ولقد عاش عدي حتى رأى القادسية والقصور البابلية مفتحة للعرب.
هذه طبيعة محمد لا طلاء عليها، يأتيه عدي وقد وقع بعض أهله قبل ذلك أسرى لجيوشه، يأتيه مغلوباً فيجلسه على وسادة، ويجلس هو على الأرض، ويحدثه بلا كلفة عما كان، وما يعتقده كائناً. ثم انظروا إليه وقد مات ابنه إبراهيم، فكسفت الشمس، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فيقول في المسجد يقول:
" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا حياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وصلوا وتصدقوا".
هذه هي النفس البريئة التي تعشق الحق للحق، وتتعالى في تواضع عن استغلال وهم من الأوهام، أو مصادفة من المصادفات، بل تأبى السكوت على سخف أو ضلال، ولو كان من شأنه أن يبهر العامة.
وهاكم ما يروى جابر بن عبد الله عما وقع له، قال: كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ فخاست ( أي تأخر ثمرها عاماً، فجاءني اليهودي عند الجذاذ، ولم أجد شيئاً فجعلت استنظره إلى قابل، فيأبى، فأخبر بذلك النبي، فقال لأصحابه امشوا نستنظر لجابر من اليهودي، فجاءوني في نخلي، فجعل النبي يكلم اليهودي، فيقول: أبا القاسم، لا أنظره، فقام النبي فطاف في النخل، ثم جاءه فكلمه فأبى، فقمت فجئت بقليل رطب، فوضعته بين يدي النبي، فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر؟ فأخبرته، فقال: افرش لي فيه، ففرشته، فدخل فرقد، ثم استيقظ، ثم جئته بقبضة أخرى فأكل منها، ثم قام فكلم اليهودي، فأبى عليه فقال: يا جابر، جذ واقض، ( أي اقطع التمر، واقض دينك). ويقول جابر: إن الله بارك فيه فقضى الدين وزاد.
والحكاية تصور لنا تياسره وتواضعه في سعيه بين اليهودي وجابر، وأكله ونومه، ولين جانبه، فلم يزد بعد أن يئس من اليهودي على أن يأمر صاحبه بأداء ما عليه.
انظروا كذلك إليه كيف يستأذن على أحد أصحابه، وكيف ينصرف؟
يقول قيس بن سعد: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا، فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فرد أبي رداً خفياً. فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله فقال: ذره حتى يكثر علينا من السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع فأتبعه سعد، فقال يا رسول الله: إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً، لتكثر علينا من السلام. فانصرف معه النبي، وأمر له سعد بغسل فاغتسل، ثم ناوله ملحفه مصبوغة بزعفران، فاشتمل بها، ثم رفع يديه، وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد. فلما أراد الانصراف قرب له سعد حماراً، فقال سعد: يا قيس، أصحب رسول الله، فصحبته، فقال أركب معي، فأبيت، فقال: أما أن تركب، وأما أن تنصرف، فانصرفت.
هذه زيارة سيد العرب والعجم لأحد أنصاره من كبار المدينة، تمر في غير حفل، ولا ظهور، يذهب إليه ماشياً، ويعود على حمار؛ يريد أن يردف عليه رفيقه، تلك السجية الطاهرة لم تحل دون أن يكون أمر محمد مطاعاً، وطاعته قربة، فإن يحسب الناس أن مظاهر الرياسة والسلطان لازمة لحسن الولاء، واستدامة الطاعة، فلقد كان ولاء سعد والأنصار لمحمد المتواضع مضرب الأمثال في تاريخ الدعوة الإسلامية.
ولم تكن دعوته قيساً إلى الركوب معه على الحمار أمراً غريباً، بل كانت هذه عادته يردف على حماره وبغلته وناقته، ويعاقب(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10186#_ftn1) مع رفاقه. قال ابن عباس: أن النبي لما قدم مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب، فحمل واحداً بين يديه، وآخر خلفه، وقال معاذ: كنت ردف رسول الله على حمار يقال له عفير. وجاء إليه رجل، وهو يمشي، فقال: أركب وتأخر على حماره، فقال محمد: أنت أحق بصدر دابتك مني، إلا أن تجعله لي، فقال الرجل: فإني جعلته لك. ويقول جابر: كان رسول الله يتخلف في السير، فيزجى الضعيف ( أي يسوقه ليلحق الرفاق) ويردف، ويدعو لهم. ولم يكن أبغض إليه صلى الله عليه وسلم من الكبر والخيلاء، فقد قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال: الكبر بطر الحق، وغمط الناس". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: " لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إن الله أذهب عنكم عَبِيَّةَ الجاهلية ( أي كبرها) إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب".
هذا الحديث ينم بمعناه وعبارته على مقدار غضب محمد إذا ذكر الكبر والمتكبرون، ولو كان للناس أن يفخروا بآبائهم لما كان في جزيرة العرب أحق بالفخر من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، ولكن محمداً لا يرى في المجتمع الذي أقامه إلا هيئة تتساوى فيها الحرف، والمراتب، والأعمال والأحساب، والأنساب، ولا تفاضل عنده إلا بالعمل الصلح يرفع صاحبه.
كان مرة في سفر مع صحبه، فأرادوا أن يهيئوا لهم طعاماً، فقسموا العمل بينهم، فقام يجمع الحطب، فأرادوا أن يكفوه ذلك فأبى، لأن الله يبغض الرجل يتعالى على رفاقه.
ولما وقف عليه أعرابي يرتجف خشية زجره وذكره أنه ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10186#_ftn2). وخرج على جماعة من أصحابه يتوكأ على عصا، فقاموا له، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً، وكان يرى كذلك في تقبيل اليد تشبهاً بالأعاجم، وينهى عنه.
وكان محمد يكره الإطراء والألقاب: انطلق إليه وفد بني عامر، فلما كانوا عنده، قالوا: أنت سيدنا، فقال السيد الله، فقالوا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: قولوا قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان. ويقول أبو بكر رضي الله عنه. أثنى رجل على رجل عند النبي، فقال: ويلك! قطعت عنق صاحبك، أي أهلكته بالإطراء والمدح والتعظيم، فإنه يعجب بذلك فيهلك، كأنه قطع عنقه. ويقول أبو هريرة أمرنا الرسول أن نحثوا في أفواه المداحين التراب.
وكان محمد صلى الله عليه وسلم يكره كذلك الخيلاء والتفاصح والتأثير في الناس بالقول المزخرف، ويقول: إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؛ أحاسنكم أخلاقاً، وأن أبغضكم إليّ، وأبعدكم مني يوم القيامة؛ الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. والثرثارون هم الذين يكثرون الكلام تكلفاً، والمتشدقون هم الذين يتكلمون بملء أفواههم تفاصحاً وتعاظماً. وكان يكره الخطيب يسلب بفصاحته ألباب الناس، ويملك حواسهم، قال صلى الله عليه وسلم: من تعلم صرف الكلام ليستبي به قلوب الرجال، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً. وكان يقول: هلك المتنطعون ويكررها. بغضاً منه في العمق والتفاصح، كان كل ذلك نفوراً بطبعه الميسر المتواضع عن التظاهر والرياء والتكلف.
كان في تياسره جم التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكله إلى محدثه صغيراً أو كبيراً ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا أقبل جلس حيث ينتهي المجلس بأصحابه. لم يكن يأنف من عمل يعمله لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار، فكان يذهب إلى السوق، ويحمل بضاعته، ويقول: أنا أولى بحملها، ولم يستكبر عن عمل الأجير والفاعل سواء كان في بناء مسجد المدينة، أو في الخندق وهو أمير الجيش يدفع الأحزاب.
وكان محمد كذلك متواضعاً في ملبسه وسكنه، يلبس كعامة من حوله، ويسكن ـ وقد واتته الدولة والسلطان ـ في صف من حجرات واطئة مبنية باللبن، بين كل حجرة وأخرى حائط من جريد النخل، ملبس بالطين، ومغطى بجلد أو كساء أسود من الشعر.
وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويقبل عذر المعتذر، وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله بيده، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس.
كان هذا التياسر والتواضع الصادق من نفسه الطاهرة، والذي هو صورة صادقة له، لم ينقص من هيبته ولا محبته، وقد قيل في وصفه: من رآه بداهة هابه، ومن عاشره أحبه، فكانت علاقة أصحابه والناس به علاقة أدب جم، وحب ووقار كامل، ولم يتكبر ولكنه لم يرضى سوء الأدب، وكثيراً ما بين لأصحابه كيف يتصرفون في حضرته، وفي خطابه.
يقول السير وليم موير، وهو من نقاد محمد الصرحاء، في وصف تواضعه وتياسره: " كانت السهولة صورة من حياته كلها، وكان الذوق والأدب من أظهر صفاته في معاملته لأقل تابعيه، فالتواضع، والشفقة، والصبر، والإيثار، والجود صفات ملازمة لشخصه، وجالبة لمحبة جميع من حوله، فلم يعرف عنه أنه رفض دعوة أقل الناس شأناً، ولا هدية مهما صغرت، وما كان يتعالى ويبرز في مجلسه، ولا شعر أحد عنده أنه لا يختصه بإقباله وإن كان حقيراً.
وكان إذا لقي من يفرح بنجاح أصابه، أمسك يده، وشاركه سروره، وكان مع المصاب والحزين شريكاً شديد العطف، حسن المؤاساة، وكان في أوقات العسر يقتسم قوته مع الناس، وهو دائم الاشتغال والتفكير في راحة من حوله وهناءتهم".
ولسنا في تاريخ محمد بحاجة إلى أحد؛ فإن مما اختص به من بين رسل العالم وأبطاله، وضوح حياته وجلاؤها من جميع نواحيها، وإنما سقنا عبارة السير موير هنا لشعورنا أنها صادرة عن إعجاب صادق؛ ولو أننا درسنا سيرة محمد الدراسة اللائقة بها، لكان اليوم حياً في قلوبنا، كما كان حياً بين أصحابه، ولوجدنا الصورة التي طبعها على الوجوه بعمله وقوله، لا تزال واضحة وضوح نفسه العظيمة، المتحلية بأخلاق لا يغطيها طلاء، ولا يحجبها رياء، ولا ترى إلا على حالة واحدة في الليل والنهار، وفي السر والعلانية، وفي الشدة والرخاء، وفي الضعف والقوة، في السوق وهو في شبابه، وفي الشيخوخة وهو على عرش النبوة والملك.
وكان محمد بأخلاقه شخصية من اليسر والتواضع لا تبديل ولا تغيير فيها، هي النفس التي اتصلت بالسماء، وعاشت على الأرض، دانية إلى الناس، محببة إليهم. ففي كل أطوار حياته كان بطل الأبطال، صلى الله عليه وسلم، المثل الذي نحن اليوم أحوج ما نكون إليه، ذلك المثل الذي قام عليه النظام الاجتماعي الإسلامي، والذي جعل الناس سواء، في نطاق الأخوة الإسلامية، لا يرفع من شأن أحدهم غني أو جاه، أو حسب أو نسب، وإنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، والناس من آدم، وآدم من تراب.


(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10186#_ftnref1) المعاقبة أن يركب واحد مرة، ويركب الثاني أخرى.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10186#_ftnref2) القديد لحم مملوح يجفف في الشمس.

إشراقة شمس
08-11-2008, 03:03 PM
تعبـــده ونســـكـه ( 6 )
نسكه وتعبده صلى الله عليه وسلم، صفة بارزة في طبعه الكريم، فقد كان يجد في العبادة قرة عينه، وطمأنينة نفسه. ولو أنه كان من النساك الذين انقطعوا للرهبانية، أو المتصوفة الذين انصرفوا عن الدنيا، لما كان في نسكه وتعبده بدعاً، وإنما الذي يلفت نظر الباحث في حياة بطل الأبطال، هو ذلك الجمع الغريب بين النسك الذي يبلغ أرقى مراتب التعبد، وبين القيام على أمور الدنيا التي كان يعيش فيها بكده، ويعول كثيراً من الأهل والفقراء، ويناضل أمة بأكملها، ويسوس دولة فتية في وجه العالم، يوفد إلى الملوك ويدعوهم، ويستقبل الوفود ويكرمهم، ويبعث السرايا ويقودها، ويجادل من حوله من أهل الأديان وأهل السلطان، ويهيئ للنصر، ويحتاط للهزيمة، ويبعث العمال، ويجبي الأموال ويقسمها بنفسه، ويقول: إن لم أعدل فمن يعدل؟ ويشرع للناس دين الله فيفصل المجمل من الوحي، ويوضح الغامض، ويرسم السنن، فيخرج من الأصل فروعه، ويرد ما لم يطلعه الله عليه إلى ما أطلعه الله عليه. وهو في كل ذلك يؤدي العمل اليومي الذي ينوء به أبطال هذه الدنيا، وبين هذه الهموم والمشاغل يتجلى محمد الناسك العابد بالليل والنهار أعظم انقطاعاً إلى الله ممن انقطعوا إليه في رءوس الجبال.
ذلك الجمع بين الدين والدنيا يجعل من بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، مثلاً قائماً بنفسه في تاريخ البشرية منقطع النظري. كان يقسم يومه جزءاً للعبادة، وجزءاً للناس وجزءاً لأهله، فإذا طغى ما للناس انتقص من الوقت الذي هو لأهله، واحتفظ بما هو لله، وقد واظب على ذلك مواظبة عجيبة تستحق مزيد الإعجاب من أنصاره وخصومه على السواء.
فقد كان مثلا من الجد الكامل، والتوجه الخالص، إذا انصرف للعبادة انصرف بجملته، وإذا قام بعمل آخر لم يفتر عنه حتى يتمه، وقد أجمع مؤرخوه من أهل الملل المختلفة على أنه كان يعطي العمل الذي يشغله كل حسه وكل قلبه، وكان ذلك يتجلى في علاقته بالناس، فما حدثه أحد إلا التفت إليه بوجهه وجسمه، وأصغى إليه تمام الإصغاء، ولم يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه.
ذلك الجد الذي يلازم النفوس المؤمنة، هو سر النجاح في كل الأعمال، سواء أكانت للدين أم للدنيا، وفيه كان بكل الأبطال صورة صادقة منيرة لأصحابه وتلاميذه، بل ذلك المثل من الجد في كل شيء هو الذي أنجب ممن صحبه أكبر رجال الدولة، وسواس الأمم، فجعل من رعاة الإبل والغنم ومن صغار الزراع والتجار خلفاء كسرى وقيصر، يعلمونهما ما فاتهما من العدل والإحسان.
كان محمد بفطرته يحب النسك والعبادة، ويجد فيها قرة عينه، فكان قبل الرسالة ينقطع شهراً في غار حراء خارج مكة للتعبد.
ألف النسك والعبادة والخلوة طفلاً


وهكذا النجباء
وإذا حلت الهداية قلباً



نشطت للعبادة الأعضاء



وقد اختلف الأصوليون والفقهاء في صورة العبادة، وطريقتها، وعلى أية شريعة كان يتعبد، وهذا الخلاف نفسه يلقى الشك في تلك الأقوال والفروض، والثابت تاريخياً هو أن عبادته كانت فكراً في خالق الكون، يدور حول الوجود والمشرف عليه، فلم يعلم عنه أنه كان يرعى سنن العبادات في الشرائع التي سبقته، فقد رفض الأديان كلها قبل أن يهتدي إلى الحق في أمر الخالق، حتى في بعض ما لزمه من عبادة العرب كالحج؛ فإنه لم يتلزم مذهب الحُمْسْ، الذي هو مذهب عشيرته، بل وقف وأفاض من عرفة كما يقف ويفيض الناس، وحرم على نفسه كثيراً مما أحلت قريش في جاهليتها، فتبع ما يقره العقل الراجح، واستمر طالباً الهداية، باحثاً عن الحق، ناسكاً في الوصول إليه؛ عبادته التفكر والتأمل، حتى أتاه اليقين.
" وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان"، ويقول القرآن ممتناً عليه: " ووجدك ضالاً فهدى".
فلما جاءه الهدى أخذ يصلي، فيخرج إلى شعاب مكة، ومعه عليوهو صبي، فيصليان مستخفين، حتى إذا أمسيا رجعا.
حلت الهداية قلب محمد، فتعلق بالله، وفنيت نفسه في حبه، وأنا لنستطيع أن نقول: إنه صار معه في حركته، وسكونه، ويقظته، ونومه، وبلغ به الفناء في الذات العلية أن صار يقف بين يدي خالقه حتى تتورم قدماه: يقول المغيرة ابن شعبة: أن النبي كان يقوم ليصلي حتى تتورم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً! ويقول ابن مسعود، صليت مع النبي ليلة، فلم يزل قائماً حتى هممت بأرم سوء، قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي. ويروي عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي قال له: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوماً، يفطر يوماً.
كان قيام الليل، والتهجد فيه من عادته طول حياته، صلى الله عليه وسلم، وكان له فيه نجوى ودعاء، ما أدله على ضراعته وفنائه في حب الخالق وخشيته! كان يقول: اللهم لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، وقولك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت،وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهاكم القرآن يخاطبه في شأن التهجد: " يأ يها المزمل قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو أنقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً. إن سنلقي عليك قولاً ثقيلاً.
إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا". فكان يفعل ما أمر به، وفي ذلك يقول ابن رواحة من شعراء الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
وفينا رسول الله يتلو كتابه



إذا انشق معروف من الفجر ساطع


أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا



به موقنات أن ما قال واقع


يبيت يجافي جنبه عن فراشه



إذا استثقلت بالمشركين المضاجع



حلت الهداية قلب محمد، فعلق بالله في كل شيء، فهو ذاكره، واثق به، مراقب له، مطيع، خائف، محب، خاشع آناء الليل واطراف النهار؛ فإذا جاءه أمر يحبه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات؛ وإذا أتاه أرم يكرهه قال: الحمد لله على كل حال؛ وإن قصد فعل شيء قال: اللهم خر لي واختر لي؛ وأن أراد سفراً قال: اللهم بك أصول، وبك أجول؛ وإن أراد نوماً قال: اللهم باسمك وضعت جنبي، وباسمك أرفعه؛ وإن استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور؛ وإن لبس ثوباً جديداً قال: الحمد لله الذي رزقني ما أتجمل به في حياتي؛ وإن أكل قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وجعلنا مسلمين؛ وإن شرب قال: الحمد لله الذي جعل الماء عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا وإذا انقلب من الليل في فراشه قال: لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار؛ وإذا هب من نومه في الليل قال: رب أغفر وارحم، وأهد للسبيل الأقوم.
تعلق قلب محمد بالله فهو معه في كل عمل وحين، وشغف بالعبادة والنسك، فهو يقوم الليل، ويصرف فيها جزءاً من النهار، ويجد في الصلاة لذته وقرة عينه، وينهى أصحابه أن يقلدوه فيما لا طاقة لهم به. تقول عائشة كان رسول الله يدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل الناس به، فيفرض عليهم. ويروي أنس أن النبي واصل: أي صام مواصلاً الليل بالنهار، والنهار بالليل، يومين أو ثلاثة، وكان ذلك في آخر رمضان، فواصل ناس معه، فبلغه ذلك، فقال: لومد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع له المعمقون"أي المبالغون" تعمقهم. أني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني، " أي يعينني ويقويني"، وتقول عائشة: صلى رسول الله في المسجد، فصلى بصلاته ناس كثير، ثم صلى من القابلة، فكثروا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: قد رأيت صنيعكم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، ويقول أنس: كان رسول الله يقوم في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، فجاء رجل آخر، فقام أيضاً، حتى كنا رهطاً، فلما أحس أنا خلفه، جعل يتجوز في صلاته " أي يسرع"، ثم دخل رحلة فصلى صلاة لا يصليها عندنا، فقلت له حين أصبحت: أفطنت لنا الليلة قال: نعم، ذلك الذي حملني على ما صنعت.
لاشك أن نفس محمد المتصلة بالله، تستطيع ما لا يستطيع الناس، فهو يود أن ينفرد بما فوق الطاقة، فإذا نشط أصحابه لمتابعته، خشي عليهم التعمق والغلو، وهو الناسك الذي بلغ في تعبده مقاماً لا يدانى، وهو الرسول الذي جاء بالحنيفية الميسرة، تلامس حقائق الحياة، فخليق به أن يغضب إذ يرى الناس يهمون بترك الدنيا والانقطاع للعبادة، والله تعالى يقول:
" وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك".
رأى أحد أصحابه في سفر مغارة بجانبها ماء وخضرة، فمالت نفسه للعزلة بهما والتعبد، فغضب، وذكر له أنه ما جاء باليهودية، ولا النصرانية، وإنما جاءهم بدين إبراهيم ميسراً سهلاً. وأراد بعض الصحابة، ميلاً بفطرته، أو تأثراً بالرهبانية، أن ينقطع للعبادة، فغضب غضباً شديداً ومنعه؛ وأراد آخر أن يمتنع عن أكل اللحم تنشطاً وتعبداً، فرده. ويقول أنس: كنا مع النبي في سفر، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فنزل منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، فسقط الصوام، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر.
وقد نفذت أوامره بالاعتدال والقصد في كل شيء إلى قلوب أصحابه، وأدركوا مقصد أستاذهم الأعظم، فأخذ بها بعضهم بعضاً، حتى أن سلمان الفارسي دخل بيت أبي الدرداء، وكانا ممن آخى بينهم النبي في المدينة، فوجد امرأته متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كل، فاني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، قال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا، فقال سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال النبي: صدق سلمان.
وعن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي؟ قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر! فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم الله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
ذلك هو التوسط الذي أراده محمد، وكان فيه أعجب رجال التاريخ، فهو برغم خشيته أن يميل الناس عن القصد، وأن يفرطوا ويكلفوا أنفسهم مالا يطيقون، كان المثل الأعلى في التعبد والنسك، كما كان في الرجولة، وتصريف شؤون الدنيا، والقيام عليها.
والآن أعود إلى نوع من تعبده، ما أحلاه لفظاً! وأسماه معنى! ذلك هو الدعاء، والدعاء كما قال صلى الله عليه وسلم؛ هو العبادة:
" وقال ربكم ادعوني أستجب لكم".
انظروا إلى هذا الدعاء، وما فيه من الضراعة والتسليم الكامل: " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين اللهم اهدني لأحسن الأعمال، وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأعمال. وسيئ الأخلاق لا يقي سيئها إلا أنت، اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ولحمي ودمي وعظمي لله رب العالمين. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
ذلكم هو محمد صلى الله عليه وسلم وصل في نسكه وعبادته إلى أرقى مراتب الإخلاص لله، والتفاني في طاعته وحبه، والمثول الدائم في حضرته، ووصل في شئون الدنيا إلى إقامة دولة من أنقاض الهمجية، وإلى إبراء المجتمع من علل الاضطراب والفساد، ففي شخصه التقت أغراض الحياة جميعاً على أكمل وجوهها.
تلك الناحية من صفات بطل الأبطال يحني لها الناس جميعاً رءوسهم، وإذا رفع إليها أبطال العالم أبصارهم غضوا الطرف أمام الإعجاز المحمدي، فما كان رجل ممن ملأ السمع والبصر من رجال التاريخ ليقوى على حمل هذا العبء الروحاني، من العبادة في الليل والنهار، وتلقى أعمال الدنيا في كل يوم على أنشط ما يكون، وأصلح ما يكون لخدمة نفسه وقومه، وكفاح أعدائه، وإقامة الدولة الخالدة، التي تركها بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم في نشأتها وصولتها.

إشراقة شمس
08-11-2008, 03:09 PM
عفـــوه وصـفـحـــــه (7 )
عفوه وصفحه صلى الله عليه وسلم عمن أسرفوا في إيذائه، هو الخلق الكريم الذي أدبه به القرآن، قال تعالى: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين". وبين الوحي معناه بقوله: " أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك".
فالعفو عند المقدرة مرآة تتجلى فيها أحسن صور النفس، يتجلى فيها سمو المقصد، وبعد الغاية، والترفع عن الشهوات، وتبدو البطولة في أروع صورها... ولن تجد في تاريخ الأبطال، بل تاريخ البشر كلهم مثل محمد ظافراً، ناجحاً، مؤيداً، يعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه.
كانت مكة والطائف مركزي العداوة الشديدة، تتنافسان في الوفاء للات والعزى، فلم يكن شراً على محمد من قريش، ولا أرغب في الشرك من ثقيف، وبرز في القريتين رجال مثل أبي جهل بن هشام، وعكرمة ابنه، وأمية بن خلف، وصفوان ابنه، والعاص بن وائل السهمي، والوليد ابن المغيرة، وأبي سفيان بن حرب، وبني عمرو بن عمير الثلاثة، وأبي مسعود الثقفي، ومالك بن عوف، وأضرابهم ممن اتخذوا إيذاءه صلى الله عليه وسلم والسخرية به وقتاله وهجوه متعة بها يلتذون، ومفخرة بها يفاخرون.
ينقسم ذلك الأذى والاضطهاد في رأيي إلى أربعة أطوار، ويبتدئ الطور الأول بإيذائه، والتصغير من شأنه، وقت أن كان مثل أبي لهب يقول له؛ وهو ينذر الناس فوق الصفا: تباً لك! ألهذا دعوتنا؟ والطور الثاني يبتدئ بصحيفة المقاطعة، وهي ميثاق علق بالكعبة، وتعاهد فيه المشركون على مقاطعة بني هاشم، لحمايتهم ابنهم محمداً صلى الله عليه وسلم فكاد يهلك ذلك البيت جوعاً؛ وهو مقطوع في شعب بني هاشم. كان هذا الطور شديداً، فإن الميثاق المقدس حرم على الناس أن يتزاوجوا مع آل محمد، أو يبيعوهم، أو يشتروا منهم، أو تكون لهم بهم صلة ما. ويبتدئ الطور الثالث بوفاة أبي طالب عمه وحاميه، وخديجة زوجة ومؤاسيته، حين اشتد عليه الأمر، وضاقت عليه الدنيا؛ ولو لا الإيمان والنبوة الصادقة ليئس من قومه وهام على وجهه في الأرض.
في ذلك الطور خرج إلى الطائف وحده يلتمس حماية ثقيف، والامتناع بهم من قومه، فردوه أشنع رد، وسخر به زعماؤها الثلاثة من بني عمرو بن عمير، فقال له أحدهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك أبداً.. لئن كنت رسولاً كما تقول لأنت أخطر من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك، فسألهم محمد أن يكتموا عليه، وقال لهم إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا ذلك عني، وكان يخشى سوء المنقلب إلى مكة، والشماتة والغلو في إيذائه، فأبوا حتى هذه عليه، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه، ويصيحون به، حتى أخرجوه من البلد، وتتبعه السبية والسوقة يصيحون مسيرة ثلاثة أميال، يعبثون به، ويقذفونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، وكلما جلس أقاموه، وأجبروه على المشي، فلجأ إلى حائط(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10188#_ftn1) لعتبة بن ربيعة، فلما أطمأن قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا ارحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ أن لم يكن بك على غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". فلما رجع إلى مكة لم يستطع أن يدخلها إلا في حماية مطعم بن عدي؛ ثم اختتمت مكة هذا الطور من أطوار الإيذاء بالعزم على قتله، وتفريق دمه بين القبائل، حتى يعجز عن طلبه بنو عبد مناف. فهاجر إلى المدينة، وابتدأ بذلك الطور الرابع. وحديث هجرته إليها، وما لقي في طريقه مشهور.
انظروا بعد ذلك إلى معاملته لأهل مكة والطائف، ورؤساء الفتنة، وزعماء الشر، الذين أسرفوا في إيذائه واضطهاده، لتتجلى نفسه الكريمة في مرآة عفوه وصفحه الجميل. انظروا إليه فاتحاً في جيش لم تر جزيرة العرب مثله يكتسح مكة، وتطؤها خيله، ويمر إلى حنين والطائف، فيقع بين يديه ستة آلاف من أسرى هوازن وثقيف، ويفر من بقى من السادة المتكبرين، ومالك بن عوف، وياليل ابن عمرو بن عمير. انظروا إليه والبلاد في رحمته يشملها عفوه، والسادة والزعماء الذين عتوا في الأرض يجزون بالبر والإحسان، وأبطال العالم لا تعرف لأمثالهم غير قطع الرءوس.
هذا محمد في ذروة المروءة لا يداني، وقبل أن يصل الجيش الفاتح إلى مكة خرج أبو سفيان في ثلاثة نفر مستطلعاً، فعلم أن لا طاقة له ولقومه بلقاء محمد، فأردفه العباس على بغلة النبي التي كان يركبها، ودخل به المعسكر ليلاً، يطلب الأمان له ولمكة، فكان كلما مر بنار من نار المسلمين قالوا: هذا عم النبي على بغلته، حتى مر بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من هذا؟ فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد.. ثم سارع إلى رسول الله يقول: دعني أضرب عنقه، فقد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، ولكن رسول الله أمر أن يبيت أبو سفيان في رحل العباس. فلما أصبح جئ به، فأسلم وعفا عنه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً، فقال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وعاد أبو سفيان إلى مكة مسرعاً، والجيش يزحف إليها، وهو يقول: والله ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة! فلما جاء قومه صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فقالوا: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؛ فقامت هند بنت عتبة زوجه التي لاكت كبد حمزة يوم أحد، فأخذت بشاربه، وقالت: اقتلوه، قبح من طليعة قوم! فقال أبو سفيان: ويلكم لا تغرنكم هذه عن أنفسكم، فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به، من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
أي مثل في العفو الكريم أعظم من هذا؟ أبو سفيان الذي فعل الأفاعيل والذي أدمى كبد الرسول في أحد، والذي زلزل بحصاره المسلمين في الخندق، أبو سفيان العاق من ولد عبد مناف، الذي ناصر مخزوماً وسهماً على محمد وبني هاشم، يعفو عنه محمد، ثم يعطيه مع العفو ما يفخر به! وقد كانت هبة الحياة كل الرجاء، فإذا الحياة والجاه بعض عطايا محمد للمقهورين من أعدائه.
دخل رسول الله مكة، ولكن عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، ومن جمعوا من الناس أبوا الاقتالا، فهزموا وفروا، ثم استأمنوا فأمنوا، بل عفى عنهم، بل أعطوا من غنائم هوازن، تأليفاً لقلوبهم!
وانظروا إلى مثل لن تجدوا له شبيهاً في تاريخ البشرية، هذا صفوان بن أمية العدو ابن العدو يفر إلى جدة، ليبحر إلى اليمن، فيأتي عمير بن وهب لرسول الله، فيقول: يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، قد خرج هارباً منك، ليقذف نفسه في البحر فأمنه، قال: هو آمن. قال: يا رسول الله عمامته التي دخل فيها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه؛ وهو يريد أن يركب البحر، فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي! الله الله في نفسك أن تهلكها! فهذا أمان رسول الله قد جئتك به، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذاك وأكرم. فرجع معه حتى وقف به على رسول الله، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني؟ قال: صدق. قال: فاجعلني فيه بالخيار شهرين. قال: أنت بالخيار أربعة أشهر.
هذا العدو ابن العدو صفوان بن أمية لا يلقى من بر رسول الله أن يعفو عنه فحسب، بل يبعث عمامته التي فتح بها مكة تطميناً للهائم على وجهه إلى البحر، ثم إذا ما طلب منه أن يتركه ليختار الإسلام أو الشرك شهرين، قال: بل أربعة، كي لا يقهره ولا يذله، فهل في تاريخ البشر مثال من العفو عند المقدرة أبر وأكرم من هذا الذي فعله بطل الأبطال محمد صلى الله عليه وسلم!
وهذا رجل آخر جاءه قبيل الفتح، وكان عاقاً مسرفاً في هجوه وإيذائه للرسول، هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وطلب الإذن عليه، فقال: لا حاجة لي به وقد هتك عرضي! وكان مع أبي سفيان بُنَيّ له، فقال: والله ليأذنن لي، أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله رق له، فدخل عليه وعفا عنه، فقال:
لعمرك إني يوم أحمل رايةً



لتغلب خيل اللات خيل محمد


لكالمدلج الحيران أظلم ليله



فهذا أواني حين أهدي وأهتدي



وفي مكة وهو طائف بالبيت أراد فضالة بن عمير أن يقتله، فلما دنا منه قال: أفضاله؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله. قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله عز وجل، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفر الله! ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حت ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.
ثم هاكم مثلاً من عفوه عن رجل أبكاه، وقهر المسلمين، وحزنهم، وهو عبد حبشي يقال له: وحشي، ذلك هو قاتل حمزة. يقول وحشي: خرجت حتى ملت إلى رسول الله بعد فتح مكة والطائف، فلم يرعه إلا بي قائماً على رأسه تشهد بشهادة الحق، فلما رآني قال: أوحشي؟! قلت: نعم يا رسول الله! قال: أقعد فحدثني كيف قتلت حمزة؟ قال: فحدثته، فلما فرغت من حديثي قال: ويحك! غيب عني وجهك، فلا أرينك، قال: فكنت أتنكب رسول الله حيث كان، لئلا يراني، حتى قبضه الله.
ذلكم هو ضبط النفس والعفو في أحسن صورة. رجل لا يستطيع رسول الله أن ينظر إلى وجهه؛ وهو قاتل عمه، وهو عبد لا أصل له ولا عشيرة، يعفو عنه، وأحب شيء إلى المسلمين أن يروا دمه كما رأوا أحشاء حمزة الذي طعنه بحربته.
ولما اطمأن الناس بعد الفتح قام رسول الله على باب الكعبة، فقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب. ثم تلا هذه الآية: " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
ثم قال: يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ أخ كريم. قال اذهبوا فانتم الطلقاء.
ثم جلس رسول الله، فقام إليه على بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية ( وكانت الحجابة في غير بني هاشم)، فقال رسول الله: أين عثمان بن طلحة؟ فدعى له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء.
وها هي ذي ثقيف كلها بين يديه ووفدها في المدينة، وقد أكلتها العرب، وهانت على الناس، فماذا فعل بها، وفي وفدها رجل مثل ياليل بن عمرو بن عمير الذي طرده من الطائف؟ أما مالك بن عوف فذلك من سبق إليه عفوه، فرد إليه ماله وأولاده، ووهب له مائة ناقة؛ وأما هؤلاء فقد رجعوا إلى أهليهم بعفو شامل وأمان كامل، ولولا ضيق المقام لسمعتم قصة هوازن، وكيف رد الرسول سبيها، واشتراه ديناً عليه لأصحابه، ليعطيه أعداءه الذين كادوا يقضون على الإسلام يوم حنين، ولسمعتم من هذه الأمثلة آثات في كل قبيلة وكل بلد، مما تنقضي الأيام ويبقى فيها رسول الله المثل الأعلى، والقدوة الحسنة للناس جميعاً.

رحمته وبره
جانب عظيم من جوانب شخصية محمد صلى الله عليه وسلم هو جانب رحمته وبره، الذي لا يدانيه فيه أحد، وهو صورة لنفسه الكريمة، في أيام فقره وغناه، وضعفه وقوته، فقد كان البر أمامه، والرحمة محيطة به، وهو الذي يقول: " إن البر يهدي إلى الجنة. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، لا يرحم الله من لا يرحم الناس، الراحمون يرحمهم الرحمن، لا تنزع الرحمة إلا من شقي"، وقد وصفه القرآن بهذه الصفة قال تعالى: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم".
كانت رحمته تسع الناس جميعاً، وكان بره يصل إلى المؤمنين والمشركين، وكان الفقراء والضعفاء أقرب الناس إلى قلبه الكبير، وعطفه الشامل، وبلغ حبه الفقراء أن دعا الله أن يبقى فيهم حياً وميتاً. روت عائشة أنه كان يقول:" اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين" فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً. يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة. يا عائشة، أحبي المساكين وقربيهم يقربك الله يوم القيامة".
كانت حياته موصولة بالفقراء، وكان كل ما في بيته ويده لهم، وبلغ من عطفه عليهم أن مر رجل عليه، فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشراف الناس، هذا والله حري أن خطب أن ينكح وأن شفع أن يشفع. فسكت النبي ثم مر آخر، فقال النبي: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري أن خطب ألا ينكح، وأن شفع ألا يشفع، وأن قال ألا يسمع لقوله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا.
لقد عمل محمد بما آتاه الله، وما أودع فطرته من الرحمة، على رفع شأن الفقير وإكرامه، والأخذ بيد الضعيف، وأرسل بره في هذه الطبقة، حتى قلب نظام المجتمع الذي ظهر فيه في سنين قليلة، وجعل من الفقراء المستضعفين أمة دان لها المشرق والمغرب فيما بعد؛ كما كان يقول صلى الله عليه وسلم: " ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" وكان يسره أن يجتمعوا إليه. وقد آثر بالحديث مرة واحدة بعض الأغنياء الأقوياء من قومه، فنزل القرآن بمعاتبته، فقال:
" عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى" .. الخ، وطالما سخرت قريش منه لحفاوته بالمساكين، وذهابه بهم إلى الحرم، فقالت أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟، ولكنه كان بالمساكين رءوفاً رحيماً. يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: دخل النبي المسجد، فجلس إلى الفقراء، وبشرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت، لأنني لم أكن منهم. ورأى سعد بن أبي وقاص يتعالى على المساكين، فذكر له أن ما ينال من الخير والنصر، إنما هو أثر هؤلاء الفقراء، وأنه مدين للمساكين، وقد تحقق ذلك واضحاً جلياً حينما قادر سعد هؤلاء الفقراء المستضعفين إلى القادسية، فهزم رستم، ووطئ دولة الأكاسرة، التي كان العرب بعض رعاياها.
كانت رحمته وبره بالمساكين تمتد إلى ما بعد الموت.
جاء في صحيح البخاري " أن النبي ذكر ذات يوم رجلاً أسود، فقال ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: أفلا آذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، فحقروا من شأنه، قال: فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه".
وكان صلى الله عليه وسلم يجاهد لتحرير العبيد، ولرفع قيمتهم، فلم يدخر مالاً، ولا سلطاناً ولا دعوة في سبيلهم، وكانت نفسه تفيض بالرحمة عليهم والبر بهم، وأظهر مثل ما كان منه مع مملوكه زيد بن حارثة، الذي خير بين سيده محمد ووالده، فاختار محمداً في الوقت الذي كان لا حول له ولا قوة، بل كان موضع أذى قريش وسخريتها، وهو الذي جعل معتوقه زيداً هذا، القائد الأعلى للمهاجرين والأنصار حين وجههم لغزو الروم، فاستشهد في وقعة مؤتة، ولما استأنف النبي غزو الروم بعد الفتح أمر شاباً على الجيش، هو أسامة بن زيد هذا وهو حدث في العشرين ومشى أكابر الصحابة وأشراف قريش والنبي في موكبه.
أرأيتم أذن كيف رفع برحمته وبره شأن الأرقاء المستعبدين؟ وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة سيئ الملكة، ويقول: حسن الملكة يمن وسوء الملكة شؤم".
وكان باراً بالخدم والعمال، روى أبو هريرة أن النبي قال: " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلس معه فليناوله لقمة أو لقمتين" ! وقال معاوية بن سويد: كنا بني مقرن على عهد رسول الله ليس لنا خادم إلا واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك رسول الله فقال: أعتقوها، فقيل: ليس لهم خادم غيرها. قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها. وعن أبي مسعود قال: ضربت غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي، فإذا برسول الله يقول: أعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. وبلغ من رحمة محمد أنه كان لا يطيق أحداً يقول: عبدي أو أمتي، فأمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا: فتاي وفتات، وقد كان لهذه التربية أحسن الأثر في تحرير الأرقاء، ونشر المساواة، وتغليب روح الأخوة على ما كان من العصبية، والغرور، والتفاخر.
يقول المعرور بن سويد: رأيت أبا ذر وعليه حلة، وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله يقول: هم أخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه. وقال أنس: خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي أف قط، وكان صلى الله عليه وسلم يخالط المساكين والخدم والعبيد ويحادثهم ويجيب دعوتهم، ويعود مرضاهم، ويمشي في جنائزهم، ويصلي عليهم، وقد جعلت الشريعة المحمدية نصيباً في بيت المال لتحرير الأرقاء، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العبد بعد تحريره شيئاً يعينه على الكسب.
لم يكن رسول الله ليقصر رحمته وبره، الذي هو صورة صادقة لنفسه الكريمة، على الناطقين من بني الإنسان، فإن هذه الرحمة ملكت مشاعره، وحفزته لكفاح موفق في سبيل الرفق بالحيوان، فكم كان للعرب من عادات مرذولة أنكرها وأزالها. كانوا يقتطعون من حيواناتهم، وهي حية، فيشوون ويطعمون، فحرم ذلك ولا يزال إلى اليوم بعض الطوائف في الصحراء الكبرى بالرغم إسلامهم يعملون شيئاً من هذا، فهم إذا خرجوا للغزو، وبعدت عليهم الشقة، فصدوا البعير، فأخذوا من دمه، وطبخوه وأكلوه، أو شقوا عن سنامه فاقتطعوا من الدهن، ثم خاطوا السنام، وأكلوا الدهن. وكان وشم الحيوان، ولا يزال ضرورة لإثبات الملكية في البادية، فنهى عن ذلك الأذى، وخففه باختيار أقل الأثر في أقل الأعضاء إحساساً. وكان العرب يتخذون من دوابهم أهدافاً للرماية، فنهى عن ذلك، وعن أن يقطعوا ذيول الخيل. ومر مرة بناقة مربوطة جائعة، فحل وثاقها وأطلقها. وأوصى الناس أن يخشوا الله في البهائم؛ ومن الأمثلة التي ضربها صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما رجل يمشي بطريق أشتد عليه العطش فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب ثم خرج وإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني! فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب فشكر الله تعالى له، فغفر له" فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر. وقال أيضاً: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض.
تلك الأمثال يضربها محمد لقوم ما كانوا يظنون في الرفق بالحيوان أجراً، وقد كان لها أكبر الأثر من الرحمة والرفق في نفوس المسلمين، ومن تأدب بأدبهم في الشرق والغرب، وكان من عادات الجاهلية أن يتخذوا ظهور دوابهم منابر، فنهى عن ذلك، وقال: إنما سخرها الله لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجاتكم.
وهذه رحمته يفيض بها قلبه الكبير على عصفور صغير: قال عبد الرحمن بن عبد الله، كنا مع رسول الله في سفر، فرأينا حمرة، ( طائر في شكل العصفور) معها فرخان لها، فأخذناهما، فجاءت الحمرة تعرش ( أي ترفرف)، فلما جاء الرسول قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها. وقال صلى الله عليه وسلم في قسوة عائشة على بعير ركبته: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله".
هذه الرحمة بالإنسان والحيوان كانت تظهر أنساً وبشراً في وجهه إذا رأى الطفل، أو لقي الصبي، فقد كان يأخذ أطفال أصحابه بين ذراعيه، ويطرب لذلك، وكان إذا مر بالصبية يقرئهم السلام. وحدث جابر بن سمرة: أن النبي رأى صبية يتسابقون، فجرى معهم، وكان يلقى الصبي في الطريق فيركبه ناقته ليسره، وكان أبر والد بولده، يقول أنس: أنه لا يعلم رجلاً أبر بأهله وولده من محمد. وقال أسامة بن زيد: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني ارحمهما. وقد حدث أن عجب بعض الأعراب من رسول الله وهو يقبل أولاده وأولاد أصحابه، فقال الأقرع بن حابس مرة وقد رآه يقبل الحسين: أن لي عشرة أولاد ما قبلت أحداً منهم قط، واعترض آخرون بمثل هذا المعنى على الشفقة غير المألوفة، وكان محمد ينكر عليهم أن يكونوا غلاظ الأكباد قساة القلوب. قالت عائشة: جاء أعرابي إلى النبي، فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم: فقال النبي: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟
وهذه الرحمة في نفس محمد كما كانت تبدو بشراً وأنساً، كانت تفيض دمعاً وأسى، وكان جفاة القوم يستعظمون هذه عليه، فكان يبين لهم أنها رحمة، وأن لا عيب فيها.
مات لإحدى بناته ولد، فلما رفع إليه وكانت نفسه تتقعقع كأنها شن، ( أي قربة جف جلدها) فاضت عيناه، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء. وجاءت نوبة سعد نفسه، فاشتكى، وذهب النبي يعوده، فلما دخل عليه، فوجده في غاشية بين أهله. قال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي، وقال: ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين، ولا حزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه.
هذه الرحمة بالكبير والصغير لم تكن خاصة بأتباعه المؤمنين، بل كانت شاملة لأعدائه المشركين والمخالفين من أهل الملل الأخرى. رفع إليه بعد إحدى الوقعات أن صبية قتلوا بين الصفوف، فحزن حزناً شديداً، فقال بعضهم: ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين؟ فغضب النبي، وقال ما معناه: إن هؤلاء خير منكم، إنهم على الفطرة، فإياكم وقتل الأولاد، إياكم وقتل الأولاد. وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: مرت بنا جنازة، فقام لها النبي وقمنا، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، فقال: أو ليست نفساً؟! إذا رأيتم الجنازة فقوموا. ولما مات النجاشي نعاه لأصحابه، ثم تقدم، فصف الناس خلفه وصلى عليه.
تلك هي الرحمة التي لا تعرف التخصيص بالدين أو الوطن، ولا فرق عندها بين الرفق بالإنسان والحيوان.
وسئل مرة أن يلعن أعداءه، فقال: ما جئت لعاناً، بل رحمة. ولما مات عبد الله بن أبي سلول، وكان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي في أحرج أوقاته، وله مواقف مشهورة كان فيها شراً على الرسول والمسلمين. لما مات طلب ابنه من النبي قميصه ليكفنه فيه، تطيراً له، فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين. أرأيت أبر وأكرم من هذا الصنيع؟ ثم مشى النبي إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب، وقال: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟! يعد عليه قوله، فتبسم الرسول، وقال: عني يا عمر.. قال عمر: فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها؛ وانصرف.
وذلك إشارة إلى قوله تعالى في المنافقين: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"، ففي الخيار بين أن يستغفر، وألا يستغفر، نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه، بل قال لعمر: لو علمت أني لو زدت في الاستغفار على السبعين غفر لهم، لفعلت أكثر من سبعين مرة.
تلك هي الرحمة التي وسعت أعداءه وأصدقاءه والناس جميعاً.
وسمع مرة أعرابياً يصلي خلفه، يقول: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم قال: لقد ضيقت واسعاً.
فمن هذا وغيره مما سقناه من الأمثلة على امتلاء نفسه بالرحمة، يتضح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن نتاجاً للبيئة التي عاش فيها، وإنما كان الرحمة الشاملة في وسط الجفوة والعصبية والأثرة، تلك الرحمة التي لا حد لها هي التي جعلته يدعو لأعدائه، وقد سئل الدعاء عليهم في أحد وهو جريح، وعمه حمزة ممثل به، وأنصاره بين القتل والجرح والشتريد. وهي التي جعلته يدعو لثقيف يوم الطائف وقد امتنعت عليه. وتلك الرحمة هي التي جعلته يفتح لتجارة قريش طريق اليمامة، وطريق الشام، وقد سألوه صلة الرحم، وشكوا جوع أهليهم، وهم الذين أخرجوه من داره وحصروه في المدينة.
فرحمته وبره صلى الله عليه وسلم وسعتا العدو والصديق، والقوي والضعيف، والحر والعبد، والحيوان، وفاض بها قلبه الكبير، فكانت في فمه بشراً، وفي عينه دمعاً، وفي يده جوداً.
تلك الرحمة التي وسعت الجميع هي أبرز صفات محمد. وهي التي يتسابق الأبطال إليها، فيردون عن هذا المدى، ويبقى رسول الله المثل الكامل، والقدوة العظمى. وحقاً كان كما قال عن نفسه " إنما أنا رحمة مهداة" وكما قال القرآن الكريم له: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".


فصاحته وبلاغته
لم يكن بطل الأبطال وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلا بشراً يوحى إليه، وما أوتي عن طريق الوحي قد فصلت آياته في الكتاب، وفيما عدا ذلك من الأقوال والأعمال، فإنما هي ثمرة عقل راجح، ولسان فصيح في ذات فذة، وله في غير الوحي من القول والعمل ما يكفيه ليبقى أبد الدهر أمام البلاغة والفصاحة، وسيد الرجال، بل الرجل الفذ في تاريخ البشرية، الذي اجتمعت له أمور ثلاثة:
الأول: تكوين أمة من قبائل وشعوب متنافرة، كأنما خلقت لتتباعد وتتطاحن.
والثاني: تأسيس دولة بقيت قروناً مصدر السلطان في وسط الدنيا، ولا يزال أثرها أكثر من ألف سنة ماثلاً أمام الأنظار يوحي بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي لا تدانيها عظمة.
والثالث: إقامة دين يدين به مئات الملايين، ويخلص له العرب والعجم، والأبيض والأسود والأصفر.
وتلك الأمور الثلاثة التي اجتمعت له والتي تكفي كل واحدة منها لتخليد الذكر، هي بعد الوحي كما قلت نتاج ذلك اللسان الفصيح، والعقل المدبر.
وقد أجمع الناس على أن محمداً الأمي قد أوتي من الأسلوب السهل المعجز ما لم يؤت معلم ولا متعلم، ممن دانت لهم العربية، وملكوا زمامها، فله جوامع الكلم، وبدائع الحكم في لفظ ناصع. وقول جزل، ومعان صحاح خالدة، في عبارات مضيئة مشرقة، لا تكلف فيها.
قال له أصحابه يوماً: ما رأينا الذي هو أفصح منك! فقال: وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن بلساني: لسان عربي مبين. وقد فسر صلى الله عليه وسلم فصاحته بنشأته في بني سعد، ومولده في قريش، يريد أنه جمع قوة عارضة البادية وجزالتها ورونق الحاضرة وزخرف صناعتها وروعتها. غير أن نشأته في بني سعد، ونسبته في قريش، لا تفسر لنا ناحية أخرى، وهي مقدرته على أن يخاطب كل قبيلة وشعب من الشعوب العربية بلهجته، ويبدي في هذه اللهجات جميعاً من مطرب القول وجامعة ما يسبي قلب سامعه، وسواء أكان السامع من قحطان أم عدنان، من أقصى جنوب الجزيرة أم شمالها، من حجازها أم تهامتها أم نجدها، فإنه مقر لمحمد بالإمامة في البلاغة والفصاحة، في أي لهجة جرى عليها الحديث.
كان كلامه بيناً لا فضول فيه ولا تقصير، يحفظه من جلس إليه. تقول عائشة: ما كان رسول الله يسرد كسردكم هذا ولكن كان يكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه. وروى عنها أيضاً: أنه يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.
ولقد كان بطل الأبطال، علم البيان في قومه الذين اشتهروا بالفصاحة، والذين كانوا يقيمون للأدب أسواقاً، ويكتبون بالذهب، ويعلقون على الكعبة ما يستحسنون من القول، وكان أبو بكر رضي الله عنه نسابة مشهوراً في قريش في الجاهلية والإسلام وكان في حيرة من فصاحة محمد وبلاغته، قال له يوماً لقد طفت في العرب، وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي. وذلك هو التفسير الصحيح، لأن محمداً فطرا على صفاء الحس، ونفاذ البصيرة، وصحة الحكم، واستقامة الطبع، مما هو جلي في قوله وعمله.
ويقول الجاحظ؛ ومكانته في الأدب ما تعلمون، يصف كلام الرسول: " ألقى الله على كلامه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً... من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وإني محاول الآن أن أسوق لكم نبذاً من قوله في مواضع شتى، ومعان متفرقة، فيها ترون الفصاحة والبلاغة المحمدية حية منيرة، لم تبل القرون جدتها، ولم تذهب شيئاً من طلاوتها. انظروا إلى هذه الكلمات: قال رسول الله: أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعطى من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً. ونظري عبرة.
وقد وجدوا مكتوباً على قائم سيفه صلى الله عليه وسلم: أعف عمن ظلمك، وصل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك.
ويقول ابن عباس: كنت رديف رسول الله فقال: يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك. جفت الأقلام، وطويت الصحف! فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
وعن ابن عمرو بن العاص قال رسول الله: خصلتان من كانتا فيه كتبه الله تعالى شاكراً صابراً، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكراً ولا صابراً: من نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه".
وعن حذيفة قال: قال رسول الله: " لا يكن أحدكم أمعة ( وهو الذي لا يثبت مع أحد ولا على رأي لضعفه) يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وأن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وأن أساءوا أن تجنبوا اساءتهم".
وعن معاوية أمير المؤمنين أنه كتب إلى عائشة: أن اكتبي إلى كتاباً توصينني فيه ولا تكثري، فكتبت: سلام عليك، أما بعد، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله تعالى مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله تعالى إلى الناس، والسلام عليك".
وقال صلى الله عليه وسلم: " شر ما في الرجل؛ شح هالع، وجبن خالع، اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم"، وقال: " إن الله كره لكم ثلاثاً؛ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، وقال: " لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك"، وقال: " ألا أنبئكم بشراركم؟ الذي يأكل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: " يوشك أن طالت بك مدة أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله". وقال: " صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها". وقال " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".
ثم انظروا إلى هذه الكلمات الموجزة، وتدبروا ما فيها من حكم بالغة: لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له.
رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم. الناس بزمانهم أشبه. العدة عطية. العاقل ألوف مألوف. لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنماً، والصدقة مغرماً. اتقوا المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
كان صلى الله عليه وسلم خطيباً لا يبارى، يقصد إلى الحقيقة، فيضعها بين سمع الناس وبصرهم، لا يحاول أن يستبى القلوب بزخرف القول، يكره التفاصح والتنطع، بين العبارة، واضح المعنى، وله خطب طوال لا حشو فيها ولا تقصير. وقصارى القول أن كلامه هو الكلام الموجز الشامل المعجز.
يقول الخدري صلى بنا النبي يوماً صلاة العصر، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكان فيما قال: إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه، ألا أنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عاق. ألا وأن الغضب جمرة في قلب بن آدم، أما رأيتم حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض.
ثم انظروا إلى هذه الخطبة الجامعة لكثير من أصول الشرائع، في صفحة موجزة، يلقيها على مائة ألف، في موقف عرفة، في حجة الوداع، ففيها ألغى مآثر الجاهلية، وقرر مبادئ المساواة، وحرم الثأر، وقضى بذلك على أقدم عرف للعرب، وأمس شيء بقلوبهم، وقضى كذلك على الربا، ورفع درجة المرأة، وحرم الفتن والنهب والغزو، وكان مفخرة وعزة، وذكر الأشهر الحرم، فسوى بين أوقات السنة فيما هو حلال أو حرام، وقد كان الروم يستغلون تحريم العرب للقتال في شهور معينة، فيعتدون على حدودهم، ونصح الناس في أمور شتى، وحذرهم ما يحقرون من أعمالهم، ويستهينون به من الآثام.
قال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة أثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟ أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ أليس البلدة؟ قالوا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلال يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وأن كل ربا موضوع (أي مهدر)، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا عباس ابن عبد المطلب ( عم النبي) موضوع كله، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ( أي ابن عم النبي). أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه أن يطمع فيما سوى ذلك، فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً، ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله".
أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً غيركم تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وأن تضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
أيها الناس: استوصوا بالنساء خيراً، فانهن عندكم عوان(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10188#_ftn2) لا يملكن لأنفسهن شيئاً، فاعقلوا ـ أيها الناس ـ قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا: كتاب الله، وسنة رسوله.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ المسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
فأجاب الناس من كل صوب؛ نعم. فقال: اللهم أشهد، ونزل عن ناقته.
هذه الخطبة جمعت أصولاً قد تبدو الآن معترفاً بها، مجمعاً عليها، ولكن الذين درسوا حالة المجتمع العربي وقت القائها، بل حالة المجتمع الإنساني؛ يعرفون أنها كانت أساساً جديداً لأكبر انقلاب اجتماعي منذ ظهوره صلى الله عليه وسلم، ويلحظون احاطتها على قِصَرِها بالداء والدواء، وأن فيها أسس الحضارة التي جعلت من العرب الضلال أمة تسوس المشرق والمغرب قروناً كثيرة.
وهاهي ذي الأيام تمر فتبلى كل جديد، وفصاحة محمد وبلاغته لا تزال نضرة عذبة يبتهج بها المتطلع إلى الأدب والعلم، ويجد فيها الأديب ريا وشفاء.


(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10188#_ftnref1) الحائط: البستان.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10188#_ftnref2) جمع عانية، أي أسيرات، شبههن بالأسيرات لضعفهن.

إشراقة شمس
08-11-2008, 03:25 PM
رحمتــــه وبــــره (8 )
جانب عظيم من جوانب شخصية محمد صلى الله عليه وسلم هو جانب رحمته وبره، الذي لا يدانيه فيه أحد، وهو صورة لنفسه الكريمة، في أيام فقره وغناه، وضعفه وقوته، فقد كان البر أمامه، والرحمة محيطة به، وهو الذي يقول: " إن البر يهدي إلى الجنة. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، لا يرحم الله من لا يرحم الناس، الراحمون يرحمهم الرحمن، لا تنزع الرحمة إلا من شقي"، وقد وصفه القرآن بهذه الصفة قال تعالى: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم".
كانت رحمته تسع الناس جميعاً، وكان بره يصل إلى المؤمنين والمشركين، وكان الفقراء والضعفاء أقرب الناس إلى قلبه الكبير، وعطفه الشامل، وبلغ حبه الفقراء أن دعا الله أن يبقى فيهم حياً وميتاً. روت عائشة أنه كان يقول:" اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين" فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً. يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة. يا عائشة، أحبي المساكين وقربيهم يقربك الله يوم القيامة".
كانت حياته موصولة بالفقراء، وكان كل ما في بيته ويده لهم، وبلغ من عطفه عليهم أن مر رجل عليه، فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشراف الناس، هذا والله حري أن خطب أن ينكح وأن شفع أن يشفع. فسكت النبي ثم مر آخر، فقال النبي: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري أن خطب ألا ينكح، وأن شفع ألا يشفع، وأن قال ألا يسمع لقوله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا.
لقد عمل محمد بما آتاه الله، وما أودع فطرته من الرحمة، على رفع شأن الفقير وإكرامه، والأخذ بيد الضعيف، وأرسل بره في هذه الطبقة، حتى قلب نظام المجتمع الذي ظهر فيه في سنين قليلة، وجعل من الفقراء المستضعفين أمة دان لها المشرق والمغرب فيما بعد؛ كما كان يقول صلى الله عليه وسلم: " ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" وكان يسره أن يجتمعوا إليه. وقد آثر بالحديث مرة واحدة بعض الأغنياء الأقوياء من قومه، فنزل القرآن بمعاتبته، فقال:
" عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى" .. الخ، وطالما سخرت قريش منه لحفاوته بالمساكين، وذهابه بهم إلى الحرم، فقالت أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟، ولكنه كان بالمساكين رءوفاً رحيماً. يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: دخل النبي المسجد، فجلس إلى الفقراء، وبشرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت، لأنني لم أكن منهم. ورأى سعد بن أبي وقاص يتعالى على المساكين، فذكر له أن ما ينال من الخير والنصر، إنما هو أثر هؤلاء الفقراء، وأنه مدين للمساكين، وقد تحقق ذلك واضحاً جلياً حينما قادر سعد هؤلاء الفقراء المستضعفين إلى القادسية، فهزم رستم، ووطئ دولة الأكاسرة، التي كان العرب بعض رعاياها.
كانت رحمته وبره بالمساكين تمتد إلى ما بعد الموت.
جاء في صحيح البخاري " أن النبي ذكر ذات يوم رجلاً أسود، فقال ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: أفلا آذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، فحقروا من شأنه، قال: فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه".
وكان صلى الله عليه وسلم يجاهد لتحرير العبيد، ولرفع قيمتهم، فلم يدخر مالاً، ولا سلطاناً ولا دعوة في سبيلهم، وكانت نفسه تفيض بالرحمة عليهم والبر بهم، وأظهر مثل ما كان منه مع مملوكه زيد بن حارثة، الذي خير بين سيده محمد ووالده، فاختار محمداً في الوقت الذي كان لا حول له ولا قوة، بل كان موضع أذى قريش وسخريتها، وهو الذي جعل معتوقه زيداً هذا، القائد الأعلى للمهاجرين والأنصار حين وجههم لغزو الروم، فاستشهد في وقعة مؤتة، ولما استأنف النبي غزو الروم بعد الفتح أمر شاباً على الجيش، هو أسامة بن زيد هذا وهو حدث في العشرين ومشى أكابر الصحابة وأشراف قريش والنبي في موكبه.
أرأيتم أذن كيف رفع برحمته وبره شأن الأرقاء المستعبدين؟ وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة سيئ الملكة، ويقول: حسن الملكة يمن وسوء الملكة شؤم".
وكان باراً بالخدم والعمال، روى أبو هريرة أن النبي قال: " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلس معه فليناوله لقمة أو لقمتين" ! وقال معاوية بن سويد: كنا بني مقرن على عهد رسول الله ليس لنا خادم إلا واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك رسول الله فقال: أعتقوها، فقيل: ليس لهم خادم غيرها. قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها. وعن أبي مسعود قال: ضربت غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي، فإذا برسول الله يقول: أعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. وبلغ من رحمة محمد أنه كان لا يطيق أحداً يقول: عبدي أو أمتي، فأمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا: فتاي وفتات، وقد كان لهذه التربية أحسن الأثر في تحرير الأرقاء، ونشر المساواة، وتغليب روح الأخوة على ما كان من العصبية، والغرور، والتفاخر.
يقول المعرور بن سويد: رأيت أبا ذر وعليه حلة، وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله يقول: هم أخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه. وقال أنس: خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي أف قط، وكان صلى الله عليه وسلم يخالط المساكين والخدم والعبيد ويحادثهم ويجيب دعوتهم، ويعود مرضاهم، ويمشي في جنائزهم، ويصلي عليهم، وقد جعلت الشريعة المحمدية نصيباً في بيت المال لتحرير الأرقاء، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العبد بعد تحريره شيئاً يعينه على الكسب.
لم يكن رسول الله ليقصر رحمته وبره، الذي هو صورة صادقة لنفسه الكريمة، على الناطقين من بني الإنسان، فإن هذه الرحمة ملكت مشاعره، وحفزته لكفاح موفق في سبيل الرفق بالحيوان، فكم كان للعرب من عادات مرذولة أنكرها وأزالها. كانوا يقتطعون من حيواناتهم، وهي حية، فيشوون ويطعمون، فحرم ذلك ولا يزال إلى اليوم بعض الطوائف في الصحراء الكبرى بالرغم إسلامهم يعملون شيئاً من هذا، فهم إذا خرجوا للغزو، وبعدت عليهم الشقة، فصدوا البعير، فأخذوا من دمه، وطبخوه وأكلوه، أو شقوا عن سنامه فاقتطعوا من الدهن، ثم خاطوا السنام، وأكلوا الدهن. وكان وشم الحيوان، ولا يزال ضرورة لإثبات الملكية في البادية، فنهى عن ذلك الأذى، وخففه باختيار أقل الأثر في أقل الأعضاء إحساساً. وكان العرب يتخذون من دوابهم أهدافاً للرماية، فنهى عن ذلك، وعن أن يقطعوا ذيول الخيل. ومر مرة بناقة مربوطة جائعة، فحل وثاقها وأطلقها. وأوصى الناس أن يخشوا الله في البهائم؛ ومن الأمثلة التي ضربها صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما رجل يمشي بطريق أشتد عليه العطش فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب ثم خرج وإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني! فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب فشكر الله تعالى له، فغفر له" فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر. وقال أيضاً: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض.
تلك الأمثال يضربها محمد لقوم ما كانوا يظنون في الرفق بالحيوان أجراً، وقد كان لها أكبر الأثر من الرحمة والرفق في نفوس المسلمين، ومن تأدب بأدبهم في الشرق والغرب، وكان من عادات الجاهلية أن يتخذوا ظهور دوابهم منابر، فنهى عن ذلك، وقال: إنما سخرها الله لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجاتكم.
وهذه رحمته يفيض بها قلبه الكبير على عصفور صغير: قال عبد الرحمن بن عبد الله، كنا مع رسول الله في سفر، فرأينا حمرة، ( طائر في شكل العصفور) معها فرخان لها، فأخذناهما، فجاءت الحمرة تعرش ( أي ترفرف)، فلما جاء الرسول قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها. وقال صلى الله عليه وسلم في قسوة عائشة على بعير ركبته: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله".
هذه الرحمة بالإنسان والحيوان كانت تظهر أنساً وبشراً في وجهه إذا رأى الطفل، أو لقي الصبي، فقد كان يأخذ أطفال أصحابه بين ذراعيه، ويطرب لذلك، وكان إذا مر بالصبية يقرئهم السلام. وحدث جابر بن سمرة: أن النبي رأى صبية يتسابقون، فجرى معهم، وكان يلقى الصبي في الطريق فيركبه ناقته ليسره، وكان أبر والد بولده، يقول أنس: أنه لا يعلم رجلاً أبر بأهله وولده من محمد. وقال أسامة بن زيد: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني ارحمهما. وقد حدث أن عجب بعض الأعراب من رسول الله وهو يقبل أولاده وأولاد أصحابه، فقال الأقرع بن حابس مرة وقد رآه يقبل الحسين: أن لي عشرة أولاد ما قبلت أحداً منهم قط، واعترض آخرون بمثل هذا المعنى على الشفقة غير المألوفة، وكان محمد ينكر عليهم أن يكونوا غلاظ الأكباد قساة القلوب. قالت عائشة: جاء أعرابي إلى النبي، فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم: فقال النبي: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟
وهذه الرحمة في نفس محمد كما كانت تبدو بشراً وأنساً، كانت تفيض دمعاً وأسى، وكان جفاة القوم يستعظمون هذه عليه، فكان يبين لهم أنها رحمة، وأن لا عيب فيها.
مات لإحدى بناته ولد، فلما رفع إليه وكانت نفسه تتقعقع كأنها شن، ( أي قربة جف جلدها) فاضت عيناه، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء. وجاءت نوبة سعد نفسه، فاشتكى، وذهب النبي يعوده، فلما دخل عليه، فوجده في غاشية بين أهله. قال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي، وقال: ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين، ولا حزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه.
هذه الرحمة بالكبير والصغير لم تكن خاصة بأتباعه المؤمنين، بل كانت شاملة لأعدائه المشركين والمخالفين من أهل الملل الأخرى. رفع إليه بعد إحدى الوقعات أن صبية قتلوا بين الصفوف، فحزن حزناً شديداً، فقال بعضهم: ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين؟ فغضب النبي، وقال ما معناه: إن هؤلاء خير منكم، إنهم على الفطرة، فإياكم وقتل الأولاد، إياكم وقتل الأولاد. وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: مرت بنا جنازة، فقام لها النبي وقمنا، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، فقال: أو ليست نفساً؟! إذا رأيتم الجنازة فقوموا. ولما مات النجاشي نعاه لأصحابه، ثم تقدم، فصف الناس خلفه وصلى عليه.
تلك هي الرحمة التي لا تعرف التخصيص بالدين أو الوطن، ولا فرق عندها بين الرفق بالإنسان والحيوان.
وسئل مرة أن يلعن أعداءه، فقال: ما جئت لعاناً، بل رحمة. ولما مات عبد الله بن أبي سلول، وكان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي في أحرج أوقاته، وله مواقف مشهورة كان فيها شراً على الرسول والمسلمين. لما مات طلب ابنه من النبي قميصه ليكفنه فيه، تطيراً له، فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين. أرأيت أبر وأكرم من هذا الصنيع؟ ثم مشى النبي إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب، وقال: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟! يعد عليه قوله، فتبسم الرسول، وقال: عني يا عمر.. قال عمر: فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها؛ وانصرف.
وذلك إشارة إلى قوله تعالى في المنافقين: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"، ففي الخيار بين أن يستغفر، وألا يستغفر، نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه، بل قال لعمر: لو علمت أني لو زدت في الاستغفار على السبعين غفر لهم، لفعلت أكثر من سبعين مرة.
تلك هي الرحمة التي وسعت أعداءه وأصدقاءه والناس جميعاً.
وسمع مرة أعرابياً يصلي خلفه، يقول: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم قال: لقد ضيقت واسعاً.
فمن هذا وغيره مما سقناه من الأمثلة على امتلاء نفسه بالرحمة، يتضح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن نتاجاً للبيئة التي عاش فيها، وإنما كان الرحمة الشاملة في وسط الجفوة والعصبية والأثرة، تلك الرحمة التي لا حد لها هي التي جعلته يدعو لأعدائه، وقد سئل الدعاء عليهم في أحد وهو جريح، وعمه حمزة ممثل به، وأنصاره بين القتل والجرح والشتريد. وهي التي جعلته يدعو لثقيف يوم الطائف وقد امتنعت عليه. وتلك الرحمة هي التي جعلته يفتح لتجارة قريش طريق اليمامة، وطريق الشام، وقد سألوه صلة الرحم، وشكوا جوع أهليهم، وهم الذين أخرجوه من داره وحصروه في المدينة.
فرحمته وبره صلى الله عليه وسلم وسعتا العدو والصديق، والقوي والضعيف، والحر والعبد، والحيوان، وفاض بها قلبه الكبير، فكانت في فمه بشراً، وفي عينه دمعاً، وفي يده جوداً.
تلك الرحمة التي وسعت الجميع هي أبرز صفات محمد. وهي التي يتسابق الأبطال إليها، فيردون عن هذا المدى، ويبقى رسول الله المثل الكامل، والقدوة العظمى. وحقاً كان كما قال عن نفسه " إنما أنا رحمة مهداة" وكما قال القرآن الكريم له: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".

إشراقة شمس
08-11-2008, 03:31 PM
فصـاحتـــه وبلاغتــــه ( 9 )
لم يكن بطل الأبطال وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلا بشراً يوحى إليه، وما أوتي عن طريق الوحي قد فصلت آياته في الكتاب، وفيما عدا ذلك من الأقوال والأعمال، فإنما هي ثمرة عقل راجح، ولسان فصيح في ذات فذة، وله في غير الوحي من القول والعمل ما يكفيه ليبقى أبد الدهر أمام البلاغة والفصاحة، وسيد الرجال، بل الرجل الفذ في تاريخ البشرية، الذي اجتمعت له أمور ثلاثة:
الأول: تكوين أمة من قبائل وشعوب متنافرة، كأنما خلقت لتتباعد وتتطاحن.
والثاني: تأسيس دولة بقيت قروناً مصدر السلطان في وسط الدنيا، ولا يزال أثرها أكثر من ألف سنة ماثلاً أمام الأنظار يوحي بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي لا تدانيها عظمة.
والثالث: إقامة دين يدين به مئات الملايين، ويخلص له العرب والعجم، والأبيض والأسود والأصفر.
وتلك الأمور الثلاثة التي اجتمعت له والتي تكفي كل واحدة منها لتخليد الذكر، هي بعد الوحي كما قلت نتاج ذلك اللسان الفصيح، والعقل المدبر.
وقد أجمع الناس على أن محمداً الأمي قد أوتي من الأسلوب السهل المعجز ما لم يؤت معلم ولا متعلم، ممن دانت لهم العربية، وملكوا زمامها، فله جوامع الكلم، وبدائع الحكم في لفظ ناصع. وقول جزل، ومعان صحاح خالدة، في عبارات مضيئة مشرقة، لا تكلف فيها.
قال له أصحابه يوماً: ما رأينا الذي هو أفصح منك! فقال: وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن بلساني: لسان عربي مبين. وقد فسر صلى الله عليه وسلم فصاحته بنشأته في بني سعد، ومولده في قريش، يريد أنه جمع قوة عارضة البادية وجزالتها ورونق الحاضرة وزخرف صناعتها وروعتها. غير أن نشأته في بني سعد، ونسبته في قريش، لا تفسر لنا ناحية أخرى، وهي مقدرته على أن يخاطب كل قبيلة وشعب من الشعوب العربية بلهجته، ويبدي في هذه اللهجات جميعاً من مطرب القول وجامعة ما يسبي قلب سامعه، وسواء أكان السامع من قحطان أم عدنان، من أقصى جنوب الجزيرة أم شمالها، من حجازها أم تهامتها أم نجدها، فإنه مقر لمحمد بالإمامة في البلاغة والفصاحة، في أي لهجة جرى عليها الحديث.
كان كلامه بيناً لا فضول فيه ولا تقصير، يحفظه من جلس إليه. تقول عائشة: ما كان رسول الله يسرد كسردكم هذا ولكن كان يكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه. وروى عنها أيضاً: أنه يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.
ولقد كان بطل الأبطال، علم البيان في قومه الذين اشتهروا بالفصاحة، والذين كانوا يقيمون للأدب أسواقاً، ويكتبون بالذهب، ويعلقون على الكعبة ما يستحسنون من القول، وكان أبو بكر رضي الله عنه نسابة مشهوراً في قريش في الجاهلية والإسلام وكان في حيرة من فصاحة محمد وبلاغته، قال له يوماً لقد طفت في العرب، وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي. وذلك هو التفسير الصحيح، لأن محمداً فطرا على صفاء الحس، ونفاذ البصيرة، وصحة الحكم، واستقامة الطبع، مما هو جلي في قوله وعمله.
ويقول الجاحظ؛ ومكانته في الأدب ما تعلمون، يصف كلام الرسول: " ألقى الله على كلامه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً... من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وإني محاول الآن أن أسوق لكم نبذاً من قوله في مواضع شتى، ومعان متفرقة، فيها ترون الفصاحة والبلاغة المحمدية حية منيرة، لم تبل القرون جدتها، ولم تذهب شيئاً من طلاوتها. انظروا إلى هذه الكلمات: قال رسول الله: أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعطى من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً. ونظري عبرة.
وقد وجدوا مكتوباً على قائم سيفه صلى الله عليه وسلم: أعف عمن ظلمك، وصل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك.
ويقول ابن عباس: كنت رديف رسول الله فقال: يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك. جفت الأقلام، وطويت الصحف! فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
وعن ابن عمرو بن العاص قال رسول الله: خصلتان من كانتا فيه كتبه الله تعالى شاكراً صابراً، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكراً ولا صابراً: من نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه".
وعن حذيفة قال: قال رسول الله: " لا يكن أحدكم أمعة ( وهو الذي لا يثبت مع أحد ولا على رأي لضعفه) يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وأن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وأن أساءوا أن تجنبوا اساءتهم".
وعن معاوية أمير المؤمنين أنه كتب إلى عائشة: أن اكتبي إلى كتاباً توصينني فيه ولا تكثري، فكتبت: سلام عليك، أما بعد، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله تعالى مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله تعالى إلى الناس، والسلام عليك".
وقال صلى الله عليه وسلم: " شر ما في الرجل؛ شح هالع، وجبن خالع، اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم"، وقال: " إن الله كره لكم ثلاثاً؛ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، وقال: " لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك"، وقال: " ألا أنبئكم بشراركم؟ الذي يأكل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: " يوشك أن طالت بك مدة أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله". وقال: " صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها". وقال " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".
ثم انظروا إلى هذه الكلمات الموجزة، وتدبروا ما فيها من حكم بالغة: لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له.
رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم. الناس بزمانهم أشبه. العدة عطية. العاقل ألوف مألوف. لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنماً، والصدقة مغرماً. اتقوا المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
كان صلى الله عليه وسلم خطيباً لا يبارى، يقصد إلى الحقيقة، فيضعها بين سمع الناس وبصرهم، لا يحاول أن يستبى القلوب بزخرف القول، يكره التفاصح والتنطع، بين العبارة، واضح المعنى، وله خطب طوال لا حشو فيها ولا تقصير. وقصارى القول أن كلامه هو الكلام الموجز الشامل المعجز.
يقول الخدري صلى بنا النبي يوماً صلاة العصر، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكان فيما قال: إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه، ألا أنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عاق. ألا وأن الغضب جمرة في قلب بن آدم، أما رأيتم حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض.
ثم انظروا إلى هذه الخطبة الجامعة لكثير من أصول الشرائع، في صفحة موجزة، يلقيها على مائة ألف، في موقف عرفة، في حجة الوداع، ففيها ألغى مآثر الجاهلية، وقرر مبادئ المساواة، وحرم الثأر، وقضى بذلك على أقدم عرف للعرب، وأمس شيء بقلوبهم، وقضى كذلك على الربا، ورفع درجة المرأة، وحرم الفتن والنهب والغزو، وكان مفخرة وعزة، وذكر الأشهر الحرم، فسوى بين أوقات السنة فيما هو حلال أو حرام، وقد كان الروم يستغلون تحريم العرب للقتال في شهور معينة، فيعتدون على حدودهم، ونصح الناس في أمور شتى، وحذرهم ما يحقرون من أعمالهم، ويستهينون به من الآثام.
قال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة أثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟ أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ أليس البلدة؟ قالوا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلال يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وأن كل ربا موضوع (أي مهدر)، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا عباس ابن عبد المطلب ( عم النبي) موضوع كله، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ( أي ابن عم النبي). أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه أن يطمع فيما سوى ذلك، فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً، ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله".
أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً غيركم تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وأن تضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
أيها الناس: استوصوا بالنساء خيراً، فانهن عندكم عوان(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10190#_ftn1) لا يملكن لأنفسهن شيئاً، فاعقلوا ـ أيها الناس ـ قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا: كتاب الله، وسنة رسوله.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ المسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
فأجاب الناس من كل صوب؛ نعم. فقال: اللهم أشهد، ونزل عن ناقته.
هذه الخطبة جمعت أصولاً قد تبدو الآن معترفاً بها، مجمعاً عليها، ولكن الذين درسوا حالة المجتمع العربي وقت القائها، بل حالة المجتمع الإنساني؛ يعرفون أنها كانت أساساً جديداً لأكبر انقلاب اجتماعي منذ ظهوره صلى الله عليه وسلم، ويلحظون احاطتها على قِصَرِها بالداء والدواء، وأن فيها أسس الحضارة التي جعلت من العرب الضلال أمة تسوس المشرق والمغرب قروناً كثيرة.
وهاهي ذي الأيام تمر فتبلى كل جديد، وفصاحة محمد وبلاغته لا تزال نضرة عذبة يبتهج بها المتطلع إلى الأدب والعلم، ويجد فيها الأديب ريا وشفاء.


(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10190#_ftnref1) جمع عانية، أي أسيرات، شبههن بالأسيرات لضعفهن.

إشراقة شمس
08-11-2008, 03:39 PM
حسن سياسته وحكمته في تصريف الأمور( 10 )
صفة عظمى من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، هي مثل لرجال الدولة والسياسة والقادة في جميع ميادين الإصلاح. لعلهم كذلك واجدون فيها ما يمكنهم من النجاح، فإن محمداً بما أوتي من الأخلاق، وما وهب له من حسن السياسة، وتصريف الأمور، ووضعها في نصابها، قد أوتي النجاح الذي لم يؤته أحد قبله ولا بعده.
هذه الناحية من حياته يبدو فيها محمد مثلاً عالياً لرجل الدولة، وسترون بها ميزة على من سبقه من الأنبياء والرسل والأبطال، ولقد كانت أكثر وضوحاً في المدينة حيث استلزمت الأحوال أن يكون نبي الأمة وزعيمها وقائدها، وحيث أخذ التشريع الإسلامي يتناول الحياة السياسية والاجتماعية بتوسع وتفصيل أكثر مما كان في مكة، حين كانت الدعوة لا تزال في بدايتها، متجهة بكل قوتها إلى تعريف الناس بالله، وانذارهم حسابه وعقابه، ذلك الفرق بين مظهري الدعوة في بيئتين مختلفتين، جعل بعض كتاب الملل الأخرى يحاولون أن يصوروا محمداً في شخصيتين: مكي ومدني يقولون هذا نبي، وهذا رجل دولة وصاحب سلطان.
لو أن الذين يظنون هذا الظن كانوا بعيدي النظر لرأوا محمداً الواعظ في مكة، هو محمداً الناسك في المدينة، الذي تتورم قدماه من كثرة الوقوف بين يدي الله، والذي يموت وهو رأس الدولة، ودرعه مرهونة عند يهودي.
بل لرأوا محمداً الذي يشيعه العبيد والصبية والسوقة من الطائف بالسخرية والحجارة ويقيمونه إذا جلس من الإعياء فيدعو الله لهم بالهداية هو محمداً الذي يناول مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة يوم الفتح ويقول: اليوم يوم بر ووفاء.
لو أن هؤلاء الذين جعلوه نبياً في مكة، ورجل دولة في المدينة لاحظوا كيف وضعت نواة الدولة في أيام المحنة بمكنة، لما حسبوها من غرس يثرب، بل لعلموا أنها نتيجة محتومة للصراع العنيف، الذي دام ثلاث عشرة سنة، ونتاجاً للدعوة من وقت أن قال الله عز وجل:
" فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين".
وما قامت الدولة في يثرب إلا على أيدي تلاميذ النبي في مكة، ممن هاجروا في سبيل الله إلى الحبشة أولاً وثانياً، ومن هاجروا إلى يثرب بعد ذلك، وعلى سواعد الأنصار من أصحاب البيعة الأولى والثانية عند العقبة في مكة.
أولئك هم نواة الأمة النموذجية التي غرسها الرسول في المدينة، وشاد عليها الدولة المحمدية، ثم ظهرت ( الإمبراطورية ) الإسلامية على صورتها فيما بعد.
كان محمد في مكة والمدينة من ساعة أن استيقظ على صوت الرفيق الأعلى في حراء، إلى أن استجابت روحه لذلك الرفيق في بيت عائشة، واضح الهدف، متعدد الوسيلة، راجح العقل، حسن السياسة.
قبل في مكة أن ينتفع بعرفها، فعاش في جوار عبد المطلب وهو مشرك، وطلب في عودته من الطائف جوار المطعم ابن عدي فدخل مكة في حمايته وهو مشرك، ولذلك قبل الاستفادة من نظم أهل الأوثان، ليقهر الأوثان في مكة؛ وقبل في المدينة أن ينظم أهلها ويعاهدهم، ويستعين بهم ويقودهم إلى النصر، ليحمي نفسه وصحبه، ويقضي على الأوثان.
موهبة واحدة، ووسيلة واحدة، لغاية واحدة، في أحوال شتى، أخطأ هؤلاء الكتاب تصويرها.
وإن كان يبدو في المدينة كثير التشريع والتنظيم والتصريف لشئون الحياة، فليس ذلك برهاناً على تغيره، بل على تفوقه وأنه فياض الموارد، خصب العقل.
فذات الرسول التي وقفت في وجه المشركين ثلاثة عشر عاماً بمكة لا تعجز، ولا تهن، ولا تيأس، هي ذاته التي فاضت في المدينة على شئون الدنيا، فدلت على ما فيها من الحيوية والقوى التي جعلتها أهلاً للتغلب على كل معضلة في وقتها ومناسباتها.
تلك القوى والصفات التي لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده، جعلته من أية ناحية نظرت إليه مثلاً كاملاً، وأسوة حسنة، بل من مجموع هذه القوى والصفات يبرز للناس رسول الله سواء أكان في أيام الدعوة المجردة عن السلطة، أم في أيام الدعوة المصحوبة بالرياسة الزمنية في المدينة، ذاتاً موفقة ناجحة، انصرفت إلى الله بكليتها فجعلته أمامها، ووضعت ما عداه وراءها! هو في كلتا القريتين الناسك العابد، الباكي بين يدي خالقه، وهو فيهما الزاهد، يعرض عليه أصحابه أن يوطئوا له فراشاً، فيقول: مالي وللدنيا! ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.. لم يغره السلطان بشيء من المظاهر، ولا خرج به عن التواضع والتياسر.
فأي تنافر يجد النقاد في حياة الرسول، ليجعلوا من شخصه شخصين، وهو يكافح في مكة ولا سلطان له، ويجاهد في المدينة على رأس الدولة التي أنشأها؟ لقد كان همه فيهما جميعاً إلى اللحظة الأخيرة، نشر دينه، وغايته بسط سيادة الإسلام على الشرك.
وأي تناقض يجد نقاده بين حياته في مكة، وحياته في المدينة، وهو في الأولى يتوسل بالصبر على الأذى والسخرية ويتقي بعرف الجاهلية الموت مع أنه لا يقر ذلك العرف، ويسعى لهدمه، ويرسل المؤمنين مهاجرين إلى الحبشة، ويجادل عن دينه، ويدعو إليه، ويخرج من كل كارثة برأي صائب، ويعد لكل حالة تدبيراً محكماً، وفي الثانية يتخذ من نصرة أهلها تكأة، فيعاهد اليهود والمشركين، ويتقي الموت بدرع الدولة التي نظمها، وينجو من ( الأحزاب) بحسن الرأي، ويغلب المصائب بموفق التدبير؟
ثلاث عشرة سنة قضاها في فم الأسد، دون أن يستطيع الأسد أن يطبق عليه أنيابه، وعشر سنين في المدينة يحاول فيها الأسد أن يعمل فيه أنيابه، وفي هذه وتلك يبدي رسول الله من حسن الرأي، وبارع السياسة والصبر، وسعة الصدر والتدبير ما يوقع الأسد في الشبكة، فإذا ما انتهى النصر الحاسم المعجز، وبهت الذين كفروا، قالوا: لو أنه لم يقم دولة ولم يقد جيشاً، لكان النبي الخالص من الشوائب..!
لو أن الذين يأخذون على محمد أنه لم يقتصر على حياة الوعظ، وظنوا أن الأكمل له أن يقف عند الجهر بالدعوة حتى يقتل، فكروا في مصير الدعوة نفسها، لشاركونا في الإعجاب به مرشداً وواعظاً، ومنظماً وفاتحاً.
فبين جفاة الأعراب في بيئة الأوثان والعزة بالعصبية، والتفاخر بإباحة الدماء والأموال والأعراض، لم يكن لدعوة محمد بعد قتله مصير إلا الإندحار والسخرية به وبها، وقد علمت ذلك قريش، وأعدوا له عدته وهيئوا لبني هاشم من بعده الموقف الذي ليس لهم فيه إلا الدية صاغرين.
لو أن هؤلاء النقاد كانوا أكثر بصيرة بحياة العرب؛ لأدركوا مع السهولة هذه الحال، ولو سلك الرسول ذلك السبيل، بقي في موقفه ساكناً إلى آخر لحظة، لما بقي من دينه إلا بعض مواعظ تروى ضمن أساطير التاريخ، أو لبقيت الدعوة على أحسن الفروض موكولة إلى المصادفات كما بقي غيرها، حتى يتاح لها رجل من الجبابرة، أو من المصلحين، يأخذها ويضع سيفه بجانبها، حتى يظهرها على غيرها، وهي صورة محرفة لما أراد الله وأراد محمد. ومع ذلك ماذا يريد الناقدون من رجل كامل العقل والرجولة أن يعمل، وقد هم القوم بقتله ففر منهم، ويهمون بتعقبه للقضاء عليه في ملجئه؟ وكلما بينه وبينهم من خلاف قائم على نفس العقيدة التي ملكت قلب محمد، والتي احتمل في سبيلها صنوف الأذى والعذاب، والتي هي عنده أساس الخلود، ووسيلة الحياة الأخرى، أكان ينتظرهم في المدينة حتى يأتوا إليها فيقتلوه؟ لو كان مطلبه متعلقاً بشيء في النفس من متاع الدنيا؛ لأمكن أن نلحظ على ما بيننا وبين أولئك الكتاب من خلاف وجهة نظرهم، ولكن أمر محمد لم يكن شيئاً من هذا في قليل أو كثير.
لقد كان محمد أبعد الناس نظراً وأرجحهم عقلاً، فمنذ أن وصل إلى المدينة أخذ في إعداد العدة لحماية الدعوة من قوم لا يحترمون غير القوة، ولم يفلح فيهم النصح ثلاثة عشر عاماً.
نظر بثاقب فكره في وسائل الدفاع عن النفس والصحب، فأحسن ابتكارها وأحسن استعمالها وانتهى إلى النصر الذي تقول في صاحبه دائرة المعارف البريطانية: " إنه النجاح الذي لم ينل مثله مصلح ديني في زمن من الأزمان!".
ذلك النجاح المقطوع النظير لم يبدل من حالة محمد في نسكه وتعبده، وزهده وتواضعه وتياسره، وبره ورحمته،ومظهره ومخبره، ومطلبه وغايته، بل بقي والدعوة غالبة في المدينة كما كان والدعوة مغلوبة في مكة.
فعظمته عندنا هي في ملكه، وفي نبوته، وفي ملكه برهان آخر على نبوته؛ فإنه يقف وحده في تاريخ الفاتحين ناسكاً فقيراً زاهداً أوتي كل السلطان، ثم يموت لا يوصي لأحد بعده، ويحرم ذريته وأهله الأوفياء، لا من الملك الذي شاده وحده، بل مما يرث الناس عادة، ويقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.
يذكر في صلاته، وهو بكامل العافية شيئاً من تبر في بيته، فيسرع فيها، ويدخل البيت، فيخرجه ويوزعه، خاشياً أن يدركه الموت وله شيء من الدنيا.
ويدخل مكة فاتحاً، فيضع رأسه ويطأطئه على ناقته وهو يسير، وأعداؤه على الهوان والعجز، ويخشى أن تحدثه نفسه بشيء من العجب أو الغرور.
والحق الذي لا مراء فيه أن محمداً في حياته بالمدينة، وبقيادته للأمة وتوليه الحكم، أدى الرسالة التي اختصه الله بها أحسن أداء، فأرانا بالفعل لا بالقول ماذا يجب أن يكون عليه الحاكم في كل المناسبات والأحوال، والناس محتاجون للحاكم وللدولة ما دامت الحضارة بل ما دامت الدنيا.
فلو أنه قضى ولم تبرز لنا هذه الناحية، لما كان المثل الكامل الذي سعد الناس به، ولو كانت المواعظ وحدها كفيلة بالإصلاح، لوجد الناس في الكتب ما يغني عن المصلحين.
ولكن هي الأمثال تضرب، والأقوال تطبق، والعين ترى، والأذن تسمع، والحس يشارك الفكر.
هو ذلك كله الذي يطبع الناس بالمثل الصالح، ويحرك البشر إلى الجهود النبيلة المثمرة، ومحمد لهذا كما يقول: ( بورزوروث اسميث) أكبر المصلحين على الإطلاق.
***
في هذا الحديث رد موجز على بعض كتاب الملل الأخرى، الذين أرادوا أن يصوروا محمداً في شخصيتين: مكية ومدنية، وبيان لخطأ هذا التصوير. والآن أنتقل إلى قصدي من الحديث، وهو بيان ناحية من نواحي الرسول فيها درس كامل، وفيها ضياء يكشف لنا عن الأخلاق السامية، التي كانت موضع الفصول السابقة، بل فيها صور لا تقرب من وصف محمد للناس إلا بمحاولة إخراجها.
جاء صلى الله عليه وسلم إلى يثرب ورفيقه أبو بكر بعد سفرة شاقة، وخوف زلزلت له نفس صاحبه، جاءها لاجئاً يطلب لنفسه وصحبه الأمن في جوار أهلها، فما استقرت به النوى حتى لحظ بثاقب بصره حاجتها إلى السلام، وإلى التنظيم الداخلي، وحاجتها إلى الأمن الخارجي.
جاء يثرب ( التي سميت مدينة النبي فيما بعد) والأوس(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10191#_ftn1) والخزرج (2) فيها قريباً عهد بوقعة بعاث(3) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10191#_ftn2)، والعداوة القديمة بينهما تثير الأحداث الجديدة، واليهود يذكون نار الفتنة، ويخشون سوء المنقلب إذا ما أتحدت الأوس والخزرج.
جاء إلى المدينة وأصحابه الذين هاجروا إليها ليس فيها حول ولا قوة إلا حصول اللاجئ المستظل بجوار قوم لا يحبون أهله وعشيرته، فاستقبل من المسلمين بحماسه عظيمة، ومن اليهود والمشركين ببشر لا بأس به. هؤلاء يأملون أن يصلح الله به ذات بينهم، وأولئك يطمعون في استخدام العربي الخارج على الأوثان، المتودد لأهل الكتاب، للاعتزاز على العرب من ناحية، ومقاومة النصرانية في الشمال من ناحية أخرى. فكان مركزه لذلك على جانب عظيم من الدقة، عرضة لانتكاس اليهود والمشركين، كما هو عرضة لبغي مكة، وشرها المستطير.
فلننظر كيف تناول الموقف بحكمته؟ وبرهن على أنه أهل لكل جليل من الأمر، ليس بما اختصه الله به من الوحي فقط، بل بما أوتيه رجلاً في ذروة الإنسانية، من حسن التدبير وكمال العقل.
شرع في الحال في بناء المسجد، وما هذا المسجد؟ فيه كانت الأساس التي وضعها لصلاح الدين والدنيا، وأصبح معبداً و( برلماناً) ومقراً للسلطة التنفيذية، ومركزاً للقيادة العليا، منه تصدر الدعوة إلى الله، والشرائع لخلقه، وجميع الخطط والتدابير الإدارية والسياسة والعسكرية وفيه تستقبل الوفود، ويلقن العلم.
كان المسجد على سذاجة بنائه وأثاثه، وعلى قلة الأوضاع فيه، يتناسب كل التناسب مع تياسر محمد وأصحابه وانصرافهم للجوهري من الأمر ويذكر الناس في كل حين بهذه الحقيقة، وهي أن الانقلابات العظيمة، وأن النجاح فيها أثر لهذه السهولة التي تعني بالروح والخلق، لا بالافتنان في الأوضاع، والإسراف في المظاهر.
ومن هذا المسجد الصغير نمت تدريجياً الإدارة الإسلامية إلى أن شملت الجزيرة كلها، ودانت الروم والفرس لها، وفي هذا المسجد اتخذت تدابير قد تكون مما استلزمته أسباب مؤقتة، وأحوال طارئة، ولكنها بما انطوت عليه من الحكمة السامية، وما صدرت عنه من الإدراك، كانت بذوراً لأوسع الإدارات الإمبراطورية، وقواعد لأكبر إصلاح بشري.
من هذه التدابير ظهرت يثرب وطناً لأهلها، لا مسكناً لأقوام متنازعين فيها، وطناً آمناً للمسلمين والمشركين واليهود، وللنازحين إليها من أية قبيلة كانوا، ولأي عنصر انتسبوا، عرباً أو عجماً.
فظهر لأول مرة معنى الوطن، تتساوى الناس فيها تحت نظام يعطي حقوقاً ويلزم تكاليف، من غير نظر إلى الأحساب والأنساب والعصبيات والعقائد.
انظروا إليه صلى الله عليه وسلم يضع دستور الوطن الجديد في صحيفة بين أهل الأديان والأجناس، تجعلهم جميعاً وطنيين مكلفين بالدفاع عن الوطن أمام أي اعتداء عليه، متكافلين في الحرب والسلم، لا ينصرون غيرهم ولا يمالئونه على أهل الوطن، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، وتكفل حرية العقيدة لأهل الوطن، وحرمة أموالهم ودمائهم وأعراضهم.
تبتدئ الصحيفة هكذا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، ولحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس.
ثم تقرر أن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، ثم تقرر لبقية اليهود المعاهدين ما ليهود بني عوف، ثم تذكر الصحيفة أن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، إلى أن تقول: وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وأن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بهذه الصحيفة انقادت إلى النبي سلطة يثرب الزمنية دون قصد، فقد اقتضت العهود أن تنص على حكم في حالة الخلاف، ولم يكن إلا هو ليحكم، ومنذ تلك الساعة وضع الحجر الأساسي لدولة الإسلام.
فقضى رسول الله على الفوضى، والإباحة للقوة، وجعل لأول مرة في البلاد العربية حق الأمة فوق حق القبيلة، وجعل مرجع إقامة الحدود إلى الله، أي إلى شريعته، وإلى رسوله منفذ هذه الشريعة، وكانت إلى ذلك الحين تتولاها القوة الغاشمة وحدها، قوة العصبية لا تفرق بين المذنب والبرئ، وبذلك غرس لاجئ إلى يثرب بذرة الحضارة في أشد الأقوام نزوعاً إلى الاختلال والهمجية، ووضع نواة الإمبراطورية التي أزهرت قروناً طويلة، ولا تزال فخر المشرق، وحديث المغرب.
أدرك محمد صلى الله عليه وسلم بما أوتي من العقل الراجح، أن النظام الذي يريده ليثرب أولاً، وللعالم أخيراً لا تكفله صحف الدساتير وحدها في قوم غلاظ، سراع إلى الفتنة، شديدي التمسك بالعصبية، بل لابد من القوة لحماية الدعوة، وصون النظام الذي وضعت قواعده في هذه الصحيفة، وما تبعها من عهود صارت في مجموعها دستور الوطن الجديد، هذه القوة لا تكون إلا في سواعد المؤمنين الذين هجروا وطنهم إلى الحبشة وإلى يثرب، فراراً من النظام العتيق، وخروجاً على دعوة الجاهلية والعصبية، فهم حماة عهد الحرية والنظام، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، من هؤلاء المهاجرين كان الفوج الأول من الجيش المحمدي، ومن الأنصار كان الفوج الثاني، فهم المتطوعون الذين صادفت الدعوة من نفوسهم موقع القبول والبشر، فلم يكن هناك سند للحرية والنظام الجديد غير المهاجرين والأنصار من بطون قريش وقبائل أخرى بينها من المنافسة ما بينها. والأنصار هم خصوم قريش ومنافسوها، وقد كادت كذلك العداوة والبغضاء التي بين أهل المدينة تقضي على وجود الأوس فيها قبيل وصوله صلى اليه عليه وسلم.
فتأليف هذا الجيش من المهاجرين والأنصار، ومزجه، وتدريبه، وتربيته حتى يكون وحدة متماسكة، غايتها نصر الدعوة، ووسيلتها الطاعة والنظام، وعدتها الإيمان، هو العمل العظيم الذي برزت فيه صفة رسول الله العسكرية. ومن أبطال هذا النوع من الفاتحين السابقين واللاحقين في المدينة، وبعد مضي ستة أشهر فقط من وصوله إليها، أخذ يعد هذا الجيش ويهيئه، حتى اصطدم به بعد سنتين في بدر مع قوة تفوقه في العدة، وفي شهرة صناديدها، كما تزيد على ثلاثة أمثاله في العدد، فرأى الناس معجزة النظام والتدرب. ومنذ هزيمة بدر لم تقم للوثنية قائمة، ولا وقف الجيش المحمدي حتى بلغ قلب فرنسا، وقلب الهند.
رأى هذا الخليط من أتباعه في يثرب عرضة لدعوة العصبية، فدعاه إلى التآخي وجعل للرجل من قريش أخاً من الأوس، وللآخر أخاً من الخزرج، ومازال يؤاخي بين هذا وذاك، ويعقد بينهم أواصر أخوة في الله، حتى شمل القبائل والبطون، ووصل بهذا التآخي في العقيدة إلى مقام أسمى من أخوة الدم، فقدمه عليها، وجعل الميراث للأخ في العقيدة، دون الأبناء والآباء من غيرها.
هذه المؤاخاة التي تجدون حديثها في كتب السير مطولاً، وفيها تفصيل الأسماء والأنساب، هي أساس الأمة الإسلامية، وأساس النصر في كل مواقع الإسلام فيما بعد.
وقف أبو سفيان ينظر إلى جيش محمد يوم الفتح، فكلما مر فوج قال: من هؤلاء؟ فيقال: سليم أو مزينة أو غيرها، وهو لا يعبأ بهم، حتى لاحت الكتيبة الخضراء من هؤلاء الأخوان، فقال للعباس: ومن هؤلاء؟ قال المهاجرون والأنصار، فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضلّ لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً.
هذه الأخوة في الله التي قضت على عرف القبيلة، وعصبية الجاهلية، والتي تعهدها رسول الله بعنايته، أخرجت الأمة العربية من الاختلال والتشتت إلى حياة الوحدة والنظام، وهيأت ( للإمبراطورية) الإسلامية مكانتها التاريخية.
كان محمد صلى الله عليه وسلم رجل جد، بصيراً بالعواقب، شديد اليقظة، دائم التفكير، علم أنه لا يكفي لأمن يثرب أن يضع لها دستوراً يكفل الحرية والتعاون بين مسلميها ويهودها ومشركيها. ولا يكفي أن يؤاخي بين أنصاره المؤمنين لكي يكفل النظام الداخلي في المدينة، مادامت المدينة كلها كالجزيرة في المحيط، لا تصل إلى ناحية من النواحي إلا بإذن المشركين وتسامحهم، وهي في هذا المحيط الذي تتولى زعامته الدينية قريش أضيع منها قبل هجرته إليها، إذا لم تعترف قريش والعرب لها بالوجود وتوادعها. ولننظر كيف أخذ يعالج هذا الخطر، ويجعل من المدينة الضائعة المحصورة قاعدة الجزيرة العربية، ثم عاصمة الإمبراطورية في بضع سنين.
كان في المدينة على مفترق طريقين: طريق يريده له بعض كتاب الملل الأخرى، وبعض قصار النظر ممن يحلو لهم الكلام، ويعجزون كل العجز إذا اعترضتهم عقبات الحياة، وسخافات البشر، وسنن الوجود، وطريق آخر هو الذي سلكه لأن الله أرشده وأعده ليكون المثل الكامل في القول والفعل. أما الأول فهو الطريق السلبي، وأما الثاني فهو الطريق العامل؛ ففي الأول كان عليه أن يكتفي بالإقامة في المدينة كما كان في مكة واعظاً مرشداً، معولاً على حماية من عاهدوه من أهل المدينة، منتظراً ما تفعل قريش ومن حول يثرب من الأعراب فإن أحسنوا وتركوه في عزلته كان لهم الفضل، وإن جاءوا فقضوا عليه، كان له أجر الشهادة، ولهم فخر النصر... وأما الطريق العامل، فهو أن يدرك هذا الخطرِ، ويعمل على منعه، ويقوم على دعوته، مناضلاً مجادلاً مجاهداً حتى يفوز بغايته، ويضمن للذين آووا ونصروا والذين هاجروا معه، السلامة والعزة.
لم يكن محمد من الوعاظ الذين يمرون على الحياة يلقون إلى الدنيا كلمة الخير، ثم لا ينظرون: أذهبت مع الريح أم بقيت؟ فهو بمقتضى رسالته ومروءته ورجولته الكاملة شخص آخر، هو الجد في صورة رجل، والإيمان العامل الراسخ ينسف الباطل نسفاً.
ما جاء المدينة ليبني صومعة، ويسأل المشركين واليهود حمايتها، فلم يكن بمقتضى طبعه ومناسباته يستطيع أن يسلك السبيل السلبي الكلامي دون أن يصل به إلى الإخفاق المحقق.
نصر بعض أهل المدينة محمداً إيماناً به، ووافقهم المشركون طمعاً في الاعتزاز على مكة، وتحويل تجارتها إلى سوق يثرب، وكان في المدينة اليهود يعتقدون أنهم شعب الله المختار، وأنه لا يختص بالنبوة أحداً غيرهم، ويطمعون في أن يعتزوا بمحمد على العرب ويؤيدوا به دعوتهم.
وفي المدينة المهاجرون أصيبوا بحمى يثرب من أول حلولهم فيها، وتشاءموا من عقم نسائهم، حتى أن امرأة الزبير لما ولدت كان نفاسها عيداً، وصحبهم الفقر بعد أن تركوا أموالهم في مكة، ذلك هو الأمر الذي لا مخرج منه إلا بالجد والعمل، ورسول الله قد برهن فيه على فيض من العقل وحسن السياسة، لم يؤت مثله مصلح ولا فاتح في زمن من الأزمان.
***
فيما سبق وصف موجز لحالة المدينة، وبيان باختصار لآمال اليهود، وأطماع المشركين، وحركة المسلمين، وأنه لم يكن أمام الرسول مخرج إلا الجد والعمل الحاسم. والآن ننظر في حالة مكة والمشركين حول المدينة، ليتبين فضل حسن السياسة والحزم في التغلب على ما يشبه المستحيل.
يظن أن مكة قرية بائسة، محرومة، في واد غير ذي زرع، وقليل من يعلمون أنها في وقت ظهور الدعوة الإسلامية كانت من أغنى القرى، بل كانت سوقاً من أربح أسواق التجارة في العالم القديم، وكانت قريش فيها من أعظم التجار همة، وأخبرهم بحال من حولهم من الأمم. ولعل الموقع نفسه، والحرمان الطبيعي، هو الذي حفز هممهم، وضاعف نشاطهم، فساحوا في الأرض، وابتغوا فضل التجارة، ألم نسمع بمغامرات فينيقية في التاريخ القديم، وبريطانيا في التاريخ الحديث؟ أليس سر نجاح هذه الأمم هو في عجز أوطانها عن تقديم حاجات الحياة، مما دفعهم إلى المغامرة وطلب الرزق في أسواق العالم، فصاروا أغنى أهل الأرض، في أفقر بقاع الأرض؟ كذلك كانت مكة وقت ظهور الدعوة المحمدية: كان أهلها في بسطة من الرزق، ومتاع بكل ما لذ وطاب من منتجات العالم القديم.
يقول البحاثة " اسبر نجر" أن صادرات مكة في وقت الهجرة لم تكن تقل قيمتها عن خمسين ومائتي ألف دينار من الذهب، والدينار خمسة عشر فرنكاً، أي نحو ثلثي الجنيه المصري.
فإذا ذكرنا ارتفاع قيمة المعادن النفيسة في ذلك الزمن، وذكرنا أن " اسبرنجر" إنما يقدر قيمة الصادرات وحدها، أدركنا مقدار البضائع التي تتبادلها مكة، وهي وسيط بين اليمن والحبشة، والإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، وكانت هذه التجارة الواسعة غير محصورة في بيت أو فريق من الناس، بل تجدون في كتب السيرة أن أبا سفيان حين أحس الخطر على القافلة قبيل بدر، استنهض مكة كلها فخرج إليه ألف من المقاتلة، معها مائة من الخيل، وسبعمائة من الإبل، ولما أصيبت قريش في بدر تبرع أهل مكة بقافلة أبي سفيان كلها ليعدوا بها للانتقام من محمد وأصحابه وقد كانت أرباح مكة من هذه التجارة الواسعة تقدر بخمسين في المائة من رأس المال مما أتاح لها حياة من البذخ تلحظونه في كرم أهلها وهم يضيفون حاج الجزيرة كله، ويسرفون في اللهو بالخمر والميسر والقيان والطرب.
أما حالة النبي وأصحابه بالمدينة فقد مر في بعض الأحاديث ما يكشف عنها. فالمهاجرون وقد صودرت أموالهم ومساكنهم في مكة، جاءوا المدينة وليس لهم من الدنيا غير إيمانهم، فهذا ابن عمير لا يجد ما يتستر به، وهذا علي بن أبي طالب يطل من ثقب الباب على يهودي ليعمل في بستانه، كلما نزع دلواً نال تمرة حتى نال حفنة. وهذا رسول الله يخرج إلى المسجد فيجد أبا بكر وعمر، فيقول: ما أخرجكما؟ فيقولان: الجوع، فيقول: وما أخرجني إلا الجوع. فإذا ترك الرسول مكة تنعم بما هي فيه، وتسمع بما هم فيه، أيكون ذلك مؤيداً لانتشار الدعوة، وخذلان الشرك؟ كلا؛ فإن قريشاً كانت تجعلهم مضرب الأمثال، وموضع السخرية، تمر على المدينة بمتاجرها وعزها، تستهوي الضعيف، وتفتن البائس، ثم تبطش انتصاراً لهبل، وتترضى بأذى المسلمين اللات والعزى.
لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أصدق لرسالته، وأبر بأصحابه، وأسمى همة، وأعظم شجاعة من أن يستكين، وأن يقيم على هذا الهوان، فشرع في الحال يتهيأ للعمل الحاسم، يرد به قريشاً إلى رشدها، باصابتها في أعز شيء لديها، وهو تجارتها، ويرد الأعراب عن ذلك الحصار، الذي يجعل من الشرك نطاقاً حول المدينة، ويؤمن المدينة نفسها من الفتن التي يثيرها اليهود بين أوسها وخزرجها، وبين المشركين والمسلمين عامة.
تلك أغراض ثلاثة لابد لإدراكها من القوة، وخلق هذه القوة وتنظيمها، والاستعانة بها على أسمى المقاصد، هو عمل امتاز به محمد صلى الله عليه وسلم على من سبقه من الرسل. وذلك الدور في تكوين المدينة وتدريب المهاجرين والأنصار، والخروج بهم على الناس جميعاً، هو من أدق ما امتحن به محمد مصلحاً، ورجل دولة، وفيه تجلى له من حسن الذوق السياسي والعسكري ما لا يضاهيه إلا أخلاقه الفاضلة.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10191#_ftnref1) (1، 2) أنصار النبي من أهل المدينة هم قبيلتا الأوس والخزرج ابنا قيلة، وهي أمهما نسبا إليها وهما ابنا حارثة بن ثعلبة من اليمن.

(3) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10191#_ftnref2) يوم بعاث بضم الباء: يوم معروف من أيام العرب كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وبعاث اسم حصن للأوس.

إشراقة شمس
08-11-2008, 03:46 PM
أثـره في التربيــة العســـكريـة (11 )
بعد وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بستة أشهر فقط عقد أول راية في الإسلام لعبد الله بن الحارث بن المطلب، ثم أخذت سراياه وغزواته تتتابع؛ وبالرغم من أن كل هذه السرايا قبل بدر لم تدرك غرضاً من الأغراض الظاهرة من قريش، فإنها أدركت أغراضاً سياسية وعسكرية كان لابد منها لتثبيت الحكم، وظهور الدولة، فقد أحيت آمال المهاجرين، ورفعت حالتهم المعنوية، ونشطت أبدانهم التي كانت دائماً غرضاً لحمى يثرب، كما عودت المسلمين العمل المشترك في قيادة موحدة، ليس للأحساب والأنساب سلطان فيها، ولا للقبيلة والعصبية علاقة بها، بل أن هذه الحركات العسكرية المستمرة هي التدريب الدائم ليوم الفصل.
وقد علمت المدينة من هذه الحركات العسكرية أن محمداً جاد في مقاومة القوة بالقوة، وعلم الأعراب أن الرجل الذي يخرج بسراياه ليتعرض لقريش، ليس بالذي يغمز جانبه، أو يباح حماه، ولو علموا فيه ضعفاً لتطاولوا على المدينة، وجعلوا من نهب حيوانها وقتل رعاته، حديث فخرهم، وأناشيد نسائهم.
وكذلك علمت قريش أن محمداً وأصحابه الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، صاروا في المدينة أخطر على حياتها الاقتصادية، وأن ظنتهم أقل خطراً على حياتها الدينية، وفهمت أنه الآن يصادرها في أعز شيء لديها، وهو التجارة، كما صادرته في أعز شيء لديه، وهو العقيدة، فإن كانت تريد حرية التجارة فلابد لها من الاعتراف بحرية العقيدة، وهو ما وصل إليه في معاهدة الحديبية بعد تلك الحوادث الدموية في بدر وأحد والأحزاب.
دامت هذه التدريبات العسكرية نحو سنتين، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه القدرة على قبول معركة ترفع مقامهم في نظر العرب كافة، لم يتردد في التقدم لها، فنزل بدراً وانتظر فيها قريشاً، فجاءته في العدد والعدة، في ألف مقاتل بأحسن أسلحة العصر، ومائة فارس وسبعمائة بعير.
وكان هو في قوة من أربعة عشر وثلاثمائة راجل، سلاحهم السيوف، ومعهم ثلاثة أفراس ونحو سبعين بعيراً. أراد أن يطمئن إلى حسن استعداد أصحابه للقتال، فسألهم الرأي، فأما المهاجرون فتكلموا وأحسنوا، حتى قال المقداد بن عمرو: امض يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10192#_ftn1) لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه، فشكره رسول الله، ثم قال: أشيروا على أيها الناس ـ يريد الأنصار ـ لأن بيعتهم له كانت على أن يمنعوه ما دام في ديارهم، فكان يتخوف أنهم لا يرون نصرته إلا على من دهمه في المدينة من عدوه، وليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو خارج ديارهم. فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، فقال سعد: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة؛ فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا العدو غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسربنا على بركة الله... فسر عليه الصلاة والسلام بقول سعد، وقال سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم!
هذا هو روح الجيش قبيل بدر، يعبر عنه رجل من المهاجرين، وآخر من الأنصار؛ نفوس صاغها الإيمان، وصقلتها الطاعة والتدريب والنظام، وذلك هو عقل بطل الأبطال يتجلى في المشورة والأدب والوفاء. أما المشورة ففي ترديده: أشيروا علي أيها الناس، وهو يعلم أنه لو خاض بهم البحر، أو اجتاز القفر، ما خالفوه؛ وأما الأدب والوفاء فهو استئذانه الأنصار قبل أن يعرضهم لحرب يبايعوه على مثلها من قبل.
فلما خاض المعركة انتصرت القلة في العدد والعدة، على الكثرة، والفريقان عرب وشجعان وإنما رجح جيش محمد كل هذا الرجحان بأمرين ظاهرين: الأول النظام، والثاني احتقار الموت. وشهد الناس في بدر معجزة ذلك النظام حين أغارت خيل المشركين على الصفوف المرصوصة، فلم تحركها من مكانها قدماً واحدة، وارتدت عنها حائرة، إذ رأت ما لم تسمع به من قبل؛ ذلك أن للخيل إذا أقبلت في زحفها مغيرة رهبة يعرفها من مارسوا الحروب، وقلما تثبت لها الراجلة.
شهد الناس في بدر ثلاثمائة رجل رباهم محمد ونظمهم، يستفتحون الجهاد في سبيل الله على الأحمر والأسود والأبيض، فتفتح لهم الأرض، فعلم الناس منذ يوم بدر ما للنظام واحتقار الموت من قوة، كما رأوا بعد في الخندق كيف يمكن قوماً أحبوا الحق أكثر مما يحبون الحياة أن يردوا الأحزاب عن مدينتهم، وبان كذلك كيف يرجح النظام على العدد والعدة.
ففي وقعة الخندق أو الأحزاب ذر(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10192#_ftn2) قرن النفاق، ونقض اليهود عهد رسول الله، وجاء العدو المدينة من فوقها، ومن أسفل منها، وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً، ولكن التدريب المحمدي للكتائب المرصوصة، وتلك القيادة الماهرة التي لا تحرج بشيء، ولا تضيق ذرعاً، وذلك العقل الخصب، قد أتم بالرأي والحيلة ما بدأته الشجاعة والصبر، وانصرفت الأحزاب عن المدينة في ظلام الليل، يركب زعيمها ناقته، فيسوقها ولما يفك عقالها، فتقوم على ثلاث.
تلك القيادة المحمدية الماهرة، هي التي أنقذت المدينة كذلك من قبل في أحد، فسارعت، ولما يفق الجيش من صدمته، إلى الحركة والظهور للعدو بمظهر الطالب له، المتقدم إليه، ولو لا هذه المسارعة التي لا تكون إلا للنظام والطاعة، لدهمت قريش المدينة، وقضت على بقية جيش المسلمين فيها. تلك القيادة الماهرة لجند مدرب، هي التي جعلت قريشاً تتراجع، والمهزومون بالأمس يتعقبون الذين انتصروا عليهم.
هذه بعض مثل نعرضها موجزة، وتجدون تفصيلها في كتب التاريخ، ليتبين قدر محمد صلى الله عليه وسلم رجل دولة وقيادة، وما أوتي من حسن السياسة، وحسن القيادة، ولتتجلى لطلاب الحق ذاته الجامعة.
ومن العجيب أن هذه التدريبات العسكرية، والواقعات والحروب والمكايد والحيل والرأي والتدبير الذي أشرنا إلى شيء منه سابقاً قد أخرج الدولة المحمدية، التي صارت أساس أعظم الإمبراطوريات في تاريخ البشر، من غير أن تكون مقصودة لذاتها! وإنا لنكون مقصرين نحو الحق التاريخي، ونحو ما نعتقده نتيجة للبحث، إذا تركنا الناس يتوهمون أن الدولة كانت غرضاً أصلياً للرسول صلى الله عليه وسلم، بل الواقع أنها جاءت عرضاً، ووجدت كوسيلة صالحة للغرض الأول، وهو القضاء على الشرك، وإحلال الإيمان بالله وحده محل عبادة الأوثان، فإن مكة لما بالغت في القسوة وأسرفت في اضطهاد المسلمين، نفدت كل مساعي الرسول السلمية في أن يجد للعقيدة الإسلامية حياة حرة، وللدعوة مجالاً طليقاً، فلجأ إلى دفع القوة بالقوة مطالباً بحرية الأديان كلها:
" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله".
كان كل هذا الصراع المسلح يرمي إلى شيء أساسي واحد، وهو تقرير حرية العقيدة في أشد الأقوام همجية، فظهرت صفات بطل الأبطال في التنظيم وبناء الدولة كما ظهرت من قبل خارقة في الثبات على المبدأ، والصبر على الأذى، وبيان الحجة، واستقامة الوسيلة، ووضوح الغاية. وسنتحدث فيما بعد عن الحرية الدينية، وكيف كانت هي الغرض الحقيقي لسياسة بطل الأبطال في المدينة.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10192#_ftnref1) موضع باليمن وهو يضم الغين وكسرها.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10192#_ftnref2) طلع.

إشراقة شمس
08-11-2008, 03:53 PM
النـاحيــة العسـكرية في بـــدر (12 )
قد يكون من المفيد أن نخص معركة بدر ببعض ما تستحقه من إفاضة الحديث لما لها من الأثر الحاسم في تاريخ المسلمين العسكري، ولا أستطيع أن أصف المعركة في بدر دون أن أشير إلى الحالة العسكرية في الجزيرة قبل بدر، وما صارت إليه بعد بدر.
لقد كان العرب على علم تام بضروب القتال كما هي الحال في العالم في ذلك العصر، فكانوا يعرفون فنونه وأدواته كما تعرفها الأمم المحيطة بهم، وكانت قريش بين العرب ممتازة بالثروة والرحلة والإحاطة بما يحدث في العالم أكثر من غيرها من القبائل العربية، كما كانت تتمتع بالسيادة الدينية في الجزيرة، وتتمتع بتجمع قواها في مكة، مما يمكنها دائماً من سرعة الحشد والتعبئة. لكل ذلك آلت إليها القيادة العسكرية، كما آلت إليها القيادة الدينية، فكانت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم انتزاع هذه السيطرة من قريش، لينتزعها من الجزيرة كلها. ولم يكن من الممكن بعد تجربة دامت ثلاث عشرة سنة يدعو فيها إلى دينه بالوسائل السلمية، دون أن يصل إلى حرية العقيدة بسبب سطوة قريش ونفوذها في العرب، ألا ينازعها هذه السيطرة. فغزوة بدر لم تكن أمراً عرضياً، ولا كان كل المقصود بها في الواقع مجرد الاستيلاء على عير قريش، بل كان المقصود كذلك ضرب قريش في قوتها الحربية.
وقد أدرك الرسول أن أصحابه أصبحوا من النظام الذي بثه فيهم، والروح المعنوي الذي سرى في نفوسهم، من اجتماع الكلمة والفناء في سبيل الحق، بحيث يستطيع أن يلقى بهم سادة الجزيرة العربية في أول معركة منظمة. ولو لم يكن يعلم هذا، وكان يخشى لقاء قريش مجتمعة، لذهب إلى طريق الشام يلقى عيرها، ولكان ذلك أهون عليه، لأنه يلقاها في مكان أبعد عن مكة من المكان الذي لقيها فيه، فهو أذن لم يقصد قافلة التجارة لذاتها، ولكنه أحب أن يلقي معها جيش قريش.
تقدم الرسول إلى بدر بكتيبة ليس لها من معدات الجيوش ما لقريش، فقد كانت الخيالة فيها لا تزيد على فارسين في رواية، وثلاثة فرسان في رواية أخرى، ولم تكن لها دروع ولا سلاح غير السيوف، بل لم يكن لها ما يكفي من الإبل لحمل العتاد والرحال. هذا على حين كان لقريش العدد والعدة، فكان عدد فرسانها مائة فارس، وكان مشاتها ثلاثة أضعاف المشاة من أصحاب الرسول، وكان معها من الإبل ما يكفي لأن يذبحوا لطعامهم عشرة كل يوم، وكان كل ما يعرف من أنواع السلاح إذ ذاك متوافراً لها بسبب ثرائها، واستعدادها الدائم للحرب وخصوصاً هذه المعركة، ولكن شيئاً آخر عظيماً كان متوافراً لأصحاب الرسول، فاستعاضوا به عما كان ينقصهم من العدد والعدة؛ أما هذا الشيء العظيم فهو أمور ثلاثة:
الأول: النظام، فإن التربية المحمدية سواء أكانت في صورة العبادة، أم تلقين عقيدة التوحيد، أم إرجاع الأمر إلى الله مع حسن العمل، أم الإيمان بالمساواة في عمل الدنيا والآخرة، أم إيثار الشهادة في سبيل العقيدة على الحياة وما يتعلق بها من أحوال الأهل والعشيرة، وكذلك انطباع نفوسهم بطاعة الرسول وأولى الأمر منهم ـ أن هذه التربية أحدثت فيهم قوة جديدة لم يكن العرب يعرفونها من قبل؛ تلك هي قوة النظام التي رجحت بها كتيبة المؤمنين على جيش المشركين.
والثاني: القوة المعنوية التي ملأ بها الإسلام نفوسهم، فإنهم دون مشركي العرب كانوا يؤمنون بالبعث، فهم لذلك لا يرون في الموت فناء مطلقاً، بل يرون أن وراءه ـ مع إدراك فضل الشهادة ـ حياة أبقى وأسعد من هذه الحياة.
من أمثلة ذلك أن شاباً في السادسة عشرة من عمره كان في كتيبة المؤمنين، فلما سمع الرسول يحرض المؤمنين على القتال ويعدهم الجنة قال: إذن ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التمرات؟ وهي تمرات كان يأكلها، فقذفها، وحمل بسيفه على المشركين، فلم يزل يقاتل مستبسلاً حتى لقي الموت الذي يريده.
والثالث: وحدة القيادة، فقد كان المسلمون ممتازين بها، يتفانون في الإخلاص والطاعة لقائدهم، وذلك من الأمور التي ضاعفت قواهم.
ولنذكر لذلك ما حدث في أثناء المعركة، إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقوم الصف، رجلاً خارجاً عن رفاقه في الصف، فوكزه، فقال الرجل: أوجعتني يا رسول الله، فأقدني منك، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: اقتص لنفسك، فقبل الرجل بطن النبي: فقال النبي: ولم أذن؟ قال أردت أن يكون هذا آخر عهدي بالحياة.
تلك أهم الأسباب التي استعاض بها المؤمنون عما كان في جيشهم من نقص العدة والعدد، ولا تظنوا أن قريشاً كانت خائرة فاقدة للنظام والقوة المعنوية، فقد كان لديها أكمل نظام يعرفه العرب، ولها من عزتها، ومن حب المحافظة على سيطرتها العسكرية، ومن الرغبة في الانتقام لحادثة نخلة وقتل ابن الحضرمي، ومن العزم على الاحتفاظ بحرية التجارة وسلامة الطرق الموصلة لهذه التجارة، ما جعلها تقاتل مستبسلة، حتى أن رجلا منها أقسم أن يرد حوضاً وسط جيش محمد، فلما قطعت رجله قبل أن يصل إليه دفع نفسه إلى الحوض، وهدم جزءاً منه برجلة الأخرى، ولما جرح أبو جهل مر به رجل من المسلمين وهو في حشرجة الموت، فوضع قدمه على عنقه، وقال: أرأيت كيف أخزاك الله؟ قال وبم أخزاني؟ أعارٌ أن أقتل؟
من هذا تدركون عظم مهمة الجيش الإسلامي في سبيل انتزاع السيطرة العسكرية التي كانت لقريش.
أما كيف وقعت المعركة نفسها، فقد تقدم الجيش الإسلامي من الشمال إلى الجنوب، فلما وصل إلى ساحة بدر كانت ميمنته سلسلة من التلال المرتفعة، وكذلك على ميسرته سلسلة أخرى أقل ارتفاعاً.
وتقدم جيش المشركين، وكان أمامه كثبان من الرمل تقع غرب وادي بدر، وعلى ميسرته أرض صخرية قليلة الارتفاع.
في السهل الذي بين هذه الجبال وهذه الكثبان وقع أول تصادم بين القوتين، وكانت الليلة التي سبقت المعركة شاتية، فهطل مطر غزير في ناحية قريش، وكان أقل غزارة في ناحية المسلمين، جعل مهمة قريش في التقدم إلى ساحة بدر أشق من مهمة المسلمين، ولما تقدموا في الصباح استقبلت المشركين الشمس من المشرق، وهم متجهون إليها، فكانت من العوامل الطبيعية المؤذية لهم.
نشبت المعركة كما تنشب المعارك في ذلك العصر، بفرسان يتقدمون الصفوف ويتصارعون، فتقدم ثلاثة من بني هاشم، ولقيهم ثلاثة من صناديد المشركين، وفي دقائق معدودة فتك المسلمون بأندادهم، فكان هذا استفتاحاً حسناً للقتال، وهنا أمر رسول الله بذلك الأمر الحكيم، أمر الكتيبة الإسلامية أن تتراص وألا تتحرك من مكانها، وأن تصد بالنبال خيل العدو وهي تأتيها من جوانبها. فرأت قريش لأول مرة كيف تثبت الراجلة أمام حملات الخيالة غير هيابة ولا مرتبطة، وللخيالة كما قدمنا هيبة عظيمة في هجومها، يعرفها الذين مارسوا الحرب وشاهدوها. حمي الوطيس ورسول الله يدعو ويحرض على القتال، والمشركون على عديدهم وعدتهم واستبسالهم، يحاربون قوماً قد امتنعوا بسيوفهم، وآثروا الموت على الحياة. انتهى الأمر بهزيمة المشركين، فانطلق المسلمون في أثرهم، وأثخنوا فيهم، لا يلتفتون إلى نهب ولا سلب، كعادة العرب في ذلك العصر، حتى انقلبت الرجعة القرشية فراراً مخزياً، وانكساراً غير مسبوق لقريش.
كانت قتلى قريش في هذه المعركة خمسة أمثال قتلى المسلمين، وكان أسراهم مثل قتلاهم، ولكن ليس المهم في بدر عدد من دفنت من القتلى، ولا عدد الأسرى، ولا مقدار الغنائم، وإنما المهم هو أن قريشاً دفنت في وادي بدر سيادتها على الجزيرة العربية. وليس الأمر الخطير هو أن محمداً صلى الله عليه وسلم رجع بأعدائه مكبلين إلى يثرب، وإنما هو أنه رجع بالسيطرة العسكرية وقد انتقلت من مكة إلى المدينة.
رجع النبي إلى المدينة وقد ثبت أن النظام العسكري الذي استحدثه هو نظام يفوق ما يعلمه أهل العصر، فوضع في بدر قواعد الجيش الإسلامي، وكانت هذه الكتيبة نواة له.
ومنذ بدر والإسلام ينتشر، وجيوشه تسير إلى المشرق والمغرب، تطوي الممالك، وتثل العروش، وتتغلب على العقبات بأمرين: حب النظام، واحتقار الموت؛ ولا يزال هذان الأمران دعامتي النصر، ولن ترجع للمسلمين سيادتهم الأولى حتى يقيموا حياتهم وجيوشهم على الأساسين اللذين وضعهما رسول الله، واللذين مكنا له في بدر بالرغم العدة والعدد والبسالة التي كانت لخصومه.

إشراقة شمس
08-11-2008, 04:00 PM
دفـاعـه عن حـريــة العقيــدة ( 13 )
وقفنا عند بيان قصد الرسول من حركاته العسكرية، ووقعاته مع المشركين، وقلنا: إن الأساس هو الوصول إلى حرية الدعوة، بل إليها وإلى حرية العقيدة للاديان السماوية جميعاً، وقلنا: أنه ليس أدل على هذا القصد من هدنة الحديبية بل ليس أدل عليها من القرآن نفسه؛ انظروا إلى هذه الآيات:
" أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله" فالإذن بالقتال معلل باضطهاد العقيدة، ومصادرة حرية الناس في أن يقولوا ربنا الله، وتلك هي الآية التي شرع بها القتال، ثم هذه الآية " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير" ففيها أيضاً الأمر بالقتال معللاً بمنع الفتنة، وهي الإكراه على تغيير العقيدة، فإن انتهى الأعداء عن هذا الإكراه ترك أمرهم إلى الله، وكذلك قوله تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا" فالقتال هنا مبرر بالدفاع عن الحرية، على أن لا يتجاوزها إلى العدوان. ثم انظروا إلى الآية الآتية كيف جعلت القتال مبرراً بالدفاع عن حرية الأديان السماوية جميعاً، وجعلت الغاية منه أن يتمكن المسلمون من إقامة الصلاة، والبر بالمساكين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور".
واضح من كل هذه الآيات غرض الإسلام من القتال، وهو منع الفتنة واضطهاد الناس، وردهم عن عقائدهم قسراً.
تلك الفتنة التي هي أكبر من القتل، وأسوأ عاقبة من الحرب: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل قتال فيه كبير. وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا".
فغرض النبي كما هو جلي من القرآن، هو الدفاع عن حرية العقيدة، وقتال المشركين حتى يسلموا باحترام هذه الحرية. ولما استقر لمحمد الأمر في المدينة، وصفت أحوالها، وخلصت له، وأدرك أعداؤه أن لا أمل لهم في مهاجمتها، ورجحت قوى الدولة على ما حول يثرب من المشركين واليهود، كما استقرت هيبته في نفوس القبائل، وسار بحديثه الركبان في جزيرة العرب كلها، وأصبح تام السلطة على الطرق إلى مكة، فحصرها وقضى على حرية تجارتها، وصار بذلك قريباً من وضع السيف في غمده؛ لحظ بثاقب نظره أن الساعة قد أتت لهدنة مع مكة، فسار في جيش من الأنصار والمهاجرين وحلفائهم وساق الهدى، وأعلن أنه يريد الحج ولا يريد قتالاً.
سمعت به قريش فخرجت لتصده عن البيت، واستعظمت أن يدخل عليها هذا الدخول، وأبت أن يتحدث العرب بأن محمداً طاف بالبيت، وجاء مكة في منعة من قوته، فتحالفوا وتعاهدوا على ألا يدخلها عليهم أبداً، وكان جيش محمد على تمام الاستعداد لاقتحام ديار المشركين إذا منعوه في الشهر الحرام، من حق لجميع العرب، وهو حج البيت ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يرغب في شيء آخر، فقد عقد العزيمة منذ خرج من المدينة على ألا يقاتل، وجعل السلم نصب عينيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يرده عن عزمه شيء، ولا يحوله عن مقصده أحد، قد اجتمعت له العزيمة الصادقة والحكمة والأناة.
تلقى عنت قريش بالصبر، فسلك طريقاً وعراً بأصحابه حتى لا يصطدم بأعدائه، وحتى يعطيهم فرصة للتفكير فيما هم مقدمون عليه، وقال: لا تدعوني قريش اليوم لخطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا عطيتهم إياها. فلما نزل الحديبية في حرم مكة بالغت قريش في عنادها، وأبوا إلا أن يرجع بالهدى وقد ساقه وألا يطوف بالبيت وقد أحرم للحج والعمرة.
ولما أرسل من يؤكد لهم حسن قصده، عقروا بعيره، وهموا بقتله، فاستمر في إيفاد الرسل، والنصح لهم فما ازدادوا إلا طغياناً وكبراً، وبعثوا رجالاً، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر محمد ليصيبوا لهم من أصحابه، فأخذوا أخذاً، وأتى بهم إلى رسول الله، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم.
أنتج هذا الصبر المحمدي نتيجته سريعاً، فعلمت العرب أنه لا يريد قتالاً، ولا يضمر شراً، وأخذ أحسن حلفاء قريش ينفضون أيديهم من إثمها، وأعلن زعيم الأحابيش أنه لا يرضى عن صد الناس عن البيت، وأنهم لم يحالفوا قريشاً على شيء من هذا، ونصح لهم أخوانهم من ثقيف بعدم التعرض لمحمد، وأرهبوهم من بأس المؤمنين معه ودنت بذلك الغاية التي أرادها الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم، وهي المهادنة وإحلال السلم محل القتال، فجاءه سهيل بن عمرو مفوضاً من قريش، ليصالحه على أن يرجع عامه هذا، ثم يأتي في العام القابل، فيحج ويقيم في مكة ثلاثة أيام، بعد أن تخليها له قريش.
شق على المسلمين أن يرجعوا، ولكن الرسول قبل ذلك، وجرت المفاوضات على هدنة لعشر سنين، فاشترطت قريش أن من يلجأ في أثنائها إلى محمد من غير إذن وليه يرده إلى قريش ومعاهديها، وألا ترد قريش وحلفاؤها من يلجأ إليها من أصحاب محمد.
فلما قبل الرسول هذا الشرط وثب عمر بن الخطاب، فأتى النبي، فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني.
كاد الناس يهلكون مما دخل عليهم من أمر هذا الصلح وشروطه، ورجوعهم عن زيارة البيت، ولكن التربية المحمدية، والعزيمة القوية التي أظهرها الرسول بإصراره على إقامة السلم، أقرت الأمور في نصابها. فلما جلسوا لكتابة العقد، تجلى صبره مرة أخرى، فإنه على بن أبي طالب، وقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مفوض قريش سهيل بن عمرو: أمسك، لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم. قال رسول الله: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: أمسك، لو شهدت أنك رسول الله ما قاتلتك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال رسول الله: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، وهنا يظهر إنصاف محمد وسعة صدره، ويتجلى سر من أسرار عظمته، وهو قصده دائماً إلى الجوهري من الأمر، واستصغاره للأشكال والمرسومات.
عقدت الهدنة، ورجع المسلمون وهم كارهون، ووسوس الشيطان في نفوس بعض الناس لما قبل الرسول شرط تسليم من لجأ إليه على ألا يطلب من لجأ إلى عدوه، وأن يرجع عن الحج كما أرادت قريش بعد أن أحرم له، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشغله شيء إلا الوصول إلى حرية الدعوة في ظلال السلم، ويعلم أن ذلك هو الفوز.
وبينما هم في الطريق نزلت سورة الفتح، فسمى القرآن هذا الصلح الذي فزع له بعض المسلمين أو الأمر فتحاً مبيناً " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطاً مستقيماً".
وقد تحقق بعد صدق نظر الرسول، ووعد الله، فدخل الناس في دينه أفواجاً، ولم يمض سنتان على صلح الحديبية حتى دخل في دين الله أضعاف من دخلوا في السنوات العشرين السابقة فكانت هذه الهدنة التي أرادها الرسول على رغم أنف أصحابه، ورغم أنف قريش وعنادها وعنتها، بركة على الإسلام، لم ير قبلها فتحاً أعظم منها. وقد انقلب حتى ذلك الشرط البغيض من تسليم اللاجئ المؤمن إلى الكفار يؤذونه ويفتنونه إلى الخير؛ فكانت قريش بعد سنة من الصلح تحاول التخلص منه وأن يقبل محمد صلى الله عليه وسلم الغاءه، وذلك أن بعض المستضعفين من المسلمين كانوا يلجأون إلى النبي فيسلمهم، وفاء بعهده، فلما سلم أبا بصير فر إلى جهة في ساحل البحر، وصار يفر إليه أمثاله ممن لا يستطيعون الالتجاء إلى المدينة، حتى تكاثروا، وقطعوا الطريق على تجارة مكة، وعاد إليها البلاء وضجت، واستجارت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وسألته بصلة الرحم أن يؤوي أبا بصير وأخوانه، وأن يعفيها من ذلك الشرط، ويدخل من يلجأ إليه في عهده، فقبل، وكانت هذه آية من آيات السياسة المحمدية، وفضلاً من الله على أخلص عباده.
قبل النبي رجاء أعدائه، فأمن لهم تجارتهم، وأثبت أنه لا يريد بالحرب إلا تقرير حرية الدعوة وحرية العقيدة وأنه لا يريد نهب تجارة مكة، ولا الانتقام منها كما يظن بعض كتاب الملل الأخرى.
فهو الذي كبح جماح جيشه ليقبل شرطاً بغيضاً في سبيل السلم عشر سنين، في الوقت الذي تمت سيطرته على طرق المواصلات التجارية لمكة في الشمال، بل كان في مكنته أن يتعرض لطريق الجنوب بين مكة والطائف. واستدعاء أبي بصير وصحبه، وهو غير مسئول عنهم، ممتعاً بالسلم الذي أراد، يبين فساد ما ذهب إليه هؤلاء الكتاب.
ولما اطمأن إلى صلح يكفل له الأمن من ناحية قريش، اتجه إلى مكاتبة الملوك والعظماء في أنحاء العالم، يدعوهم إلى دينه، ووجه حركاته العسكرية إلى الروم، الذين أخذوا يقاتلون دعاة الإسلام، ويضطهدون الدعوة المحمدية، فكان صلى الله عليه وسلم بارعاً، بعيد النظر في اغتنام أول فرصة لنقل ميدان الكفاح العسكري بسرعة من قلب الجزيرة إلى أطرافها فاستشعر العرب سمو مطلبه، وبعد غايته، وبذلك جمعهم تحت لواء التوحيد، فكانوا عدة صالحة لدعوته العالية.
سارع إلى العمل، وقد أدرك بثاقب بصره أن الدولة الرومانية لن تصبر على ظهور دولة للعرب بالمدينة، وأنها سائرة إليه في النهاية، وأنه ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فنقل الميدان بسرعة مدهشة، تدل على فطنة في السياسة، ودراية في الحرب منقطعة النظير.
ومنذ أن غزا الروم في مؤتة، وسهام العرب، وآمالها تتجه إلى غاية أسمى من الثأر والانتقام والنهب، وحالتهم المعنوية تسمو من درك التناحر الأهلي إلى مقام الكفاح العالمي، لغرض أعلى من متاع الدنيا.
وهكذا تدرج محمد صلى الله عليه وسلم من الشعيرة، إلى الوطن، إلى الدولة العالمية، فاتخذ لهذه الدولة العالمية العرب، ونفخ فيهم من روحه، وبعثهم بالرسالة للأكاسرة والقياصرة، فحملوها عليها، وقامت دولة الإسلام، لا تعرف عصبية ولا عنصرية، ولا لوناً خاصاً، ولا شيئاً غير التقوى يمتاز الناس بها. ومنذ أن انصرف إلى الشمال بعد صلح الحديبية أدرك كل رجل ذي بصيرة من خصومه سواء أكان في قلب الجزيرة أم في أطرافها، أن واجبه أن ينضوي تحت اللواء الذي رفعه محمد صلى الله عليه وسلم للأمة المشتتة المتناحرة المحتقرة في نظر جيرانها من الروم والفرس، فسارع إلى هذا اللواء خالد بن الوليد، وعمرو ابن العاص بطلا قريش، وبطلا الإسلام فيما بعد، وسيدا مخزوم وسهم، أشد بطون قريش عداوة لمحمد ودعوته، فكان هذا فاتح العراق وبطل المشرق، وذلك فاتح مصر وبطل المغرب.
نقضت قريش لقصر نظرها، عهد الحديبية لما ظنت أنه تورط في قتال الروم، فنصرت بكراً على خزاعة حلفاء النبي، فسارع كما هي عادته بصدق عزيمة، وحسن فراسة، إلى قبول نكثها للعهد، ورفض تجديد العقد وعبأ قواه، وكتم سره وتحرك في عشرة آلاف إلى مكة، فدخلها بغير حرب.
وأقول بغير حرب لأن المقاومة الضعيفة التي أبداها عكرمة، وصفوان وسهيل في الجهة التي دخل منها خالد، لا تدل على شيء غير استسلام مكة، وعجز قريش التام.
وبفتح مكة توجت سياسة الرسول الحسنة، وحكمته في تصريف الأمور بأعظم جزاء من الله، واستقرت الدولة المحمدية في جزيرة العرب على أقوى الدعائم، وأمتن الأسس، ورجع البيت كما كان على عهد إبراهيم مقراً للتوحيد، منزهاً عن الشرك، قبلة للعاكفين والقائمين والركع السجود لله وحده.

إشراقة شمس
08-11-2008, 04:25 PM
مثــل من سيــاستــــه ( 14 )
تكلما في الفصول السابقة عن حسن سياسته صلى الله عليه وسلم وحكمته في تصريف الأمور، فتناولنا بعض دعائم هذه السياسة، وخططها الرئيسية، لنتبين عظم هذه الناحية في ذات بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم.
والآن نريد أن نسوق بعض الأمثلة من تصرفاته في بعض المواقف والحوادث الطارئة، لتتجلى صورة الكياسة، وسلامة الذوق، وحسن التقدير، ونكون بذلك قد أثبتنا على قدر جهدنا شيئاً من صفاته وأخلاقه، يقرب إلى الأذهان مثله الكامل.
وهاكم موقفه مع عبد الله بن أبي بن سلوك زعيم المنافقين، وسيد الخزرج عقب وقعة بني المصطلق(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10195#_ftn1).
كان قوم عبد الله حين جاء النبي إلى يثرب مهاجراً، ينظمون له الخرز ليتوجوه، فلما عظم شأن الرسول تداعى سلطان عبد الله، وأضمر الشر، وظهر ما في نفسه يوم بني المصطلق، والرسول في شغل بعدوه، فكاد عبد الله يرسلها فتنة تحرم المسلمين ثمار نصرهم، بل تذهب بريحهم.
ذلك أن أجيراً لعمر بن الخطاب ازدحم على ماء مع رجل من حلفاء الأنصار، فاقتتلا، فصرخ الأجير: يا معشر المهاجرين! وصرخ الآخر: يا معشر الأنصار! فغضب عبد الله بن أبي، وقال: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب(2) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10195#_ftn2) قريش هذه إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم.. والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم، لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن الأرقم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد ابن بشر فليقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! لا، ولكن أذن بالرحيل، فارتحل الناس في ساعة مبكرة، ما كان الرسول يروح فيها، فمشى رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى أمسوا، وليلتهم حتى أصبحوا، وصدر يوم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض، فوقعوا نياماً، وهكذا نهك أبدانهم بالسير، ليصرفهم عن الحديث في الفتنة، فلما بلغ المدينة جاء عبد الله ابن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتلأبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لابد فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه! فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني! وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. وجعل بعد ذلك إذا حدث الحدث من عبد الله كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنفونه. فقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري.
في هذه القصة الصغيرة ترون كيف توسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والأناة في أحرج الأوقات، وترون حزمه في كبح جماح الفتنة بالسير ليل نهار، حتى صرف الجيش بالنصب عن أن يلج فيها، وفي هذه القصة صورة موفقة من الرفق في السياسة والحزم فيها.
ثم هاكم مثلاً آخر: كان رسول الله يوزع العطايا بعد حنين فوقف عليه رجل من تميم، فقال: يا محمد، قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله: أجل، فكيف رأيت؟ فقال: لم أرك عدلت.. فغضب النبي، وقال: ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون؟ فقال عمر: يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال: لا، دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين، حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية.
وقد كانت الخوارج المتشددة بعد ذلك في تميم.
ولما أعطي النبي قريشاً وقبائل العرب، ولم يعط الأنصار شيئاً كثرت من الأنصار القالة حتى قال بعضهم: لقي والله الرسول قومه! فجمعهم النبي، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قاله بلغتني، وجدة وجدتموها على في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيب؟ لله ورسوله المن والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار من لعاعة(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10195#_ftn3) من الدنيا، تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فو الذي نفس محمد بيده! لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. الله ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار! فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً!
هذه العبارة الآخذة بالقلوب، والصاعدة بالنفوس البشرية إلى درجة الملائكة، والقاتلة للفتنة، والمنعشة للأرواح، تفسر لنا كيف كان رسول الله يجمع الناس على غرض واحد بوسائل شتى. لقد أتى بسعة الصدر، وحسن التصرف بما يشبه المستحيل، فجمع أمة لم تكن لتجمع إلا على مثل التربية والتدبير المحمدي.
جاءه وفد من بني الحارث بن كعب، وكان قد بعث فيهم خالد بن الوليد، فقال: لو أن خالداً لم يكتب إلى أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا، لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم. فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك، وما حمدنا خالداً.. قال فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك. قال: صدقتم، ثم قال: بم كنم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: لم نكن نغلب أحداً، قال: بلى، قد كنتم تغلبون من قاتلكم، قالوا كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله أنا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحداً بظلم، قال: صدقتم.
انظروا إلى رده: " فمن حمدتم" ؟ لتتصوروا الأناة وسعة الصدر، وهما من أسس السياسة المحمدية.
وكان من دواعي النجاح في سياسة الرسول زيادة على أخذ الأمور بالرفق، وحسن المعاملة، فراسته التي لا تخيب في الرجال، وتطلعه إلى غائب الأمر بحسن الاستخبار، فقد كان أعرف الناس بالناس، وأعرف العرب بحسنات العرب وسيئاتهم ولهجاتهم وما يحبون وما يكرهون، فهو يستقصى دائماً الأخبار، ويكتم ما يكره ذيوعه منها، ففراسته في سهيل بن عمرو مثلاً وهو أسير، قد تحققت بعد سبع سنين، لما همت مكة بالردة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فعندما فدت قريش أسرى بدر، وكان عمر يعارض في الفداء، فاستأذن رسول الله في أن ينزع ثنيتي سهيل بن عمرو ليدلع لسانه، كي لا يقوم على الرسول خطيباً بعدها في موطن أبداً، أبى الرسول، وقال: لا أمثل به، فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، وعسى أن يقوم مقاماً لا تذمه. فلما ارتدت العرب وهم أكثر أهل مكة بالرجوع عن الإسلام وخافهم عتاب بن أسيد عامل النبي على مكة فتوارى، قام سهيل بن عمرو، فحمد الله، وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربناً عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب، واستقرت الأمور.
ذلك هو المقام الذي أراده رسول الله في رده على عمر بن الخطاب، وتلك هي فراسة الرسول في الرجال، تحققت بعد سبع سنين.
ولما أخذ الخمس من غنائم هوازن وزعه بين أعدائه بالأمس فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، والحارث بن هشام، وكثيراً غيرهم، ولم يدع لأحد من المؤلفة قلوبهم حاجة إلا قضاها، وبذل للشعراء مثل ابن مرداس حتى أرضاهم. فلم يكن عنصر الجود والبذل عنصراً مفقوداً في سياسته صلى الله عليه وسلم.
جاء نفر إلى الرسول، فقالوا: إنا بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فوعدهم أن يأتيهم بعد أن يرجع من غزوة تبوك، وكان قد عزم عليها، فلما رجع علم أنهم يتآمرون فيه على الشر والفتنة، فأمر به أن يحرق، فأحرق وفر من فيه. وهو مسجد الضرار الذي يقول فيه القرآن: " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين".
وكذلك بلغه أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله والخروج معه لغزو الروم، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل، وتفرق من في البيت.
في هذين المثلين ترون محمداً الواسع الصدر اللين العريكة المتسامح يحرق مسجداً وبيتاً للفتنة والتآمر، ذلك لأن محمداً رجل دولة حاذق، يداوي كل حالة بما يناسبها من الرفق أو الشدة.
وكان يكره العجب والتظاهر، وليس في كل حياته شيء منه، ولكنه أمر به حين دخل إلى مكة بعد هدنة الحديبية، وقد تحدثت قريش أن محمداً وأصحابه في عسر وضعف، فصفوا له عند دار الندوة، لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضد يده اليمنى، ثم قال: رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة، ثم استلم الركن، وخرج يهرول، ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم، واستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن الأسود، ثم هرول لذلك ثلاثة أطواف، ومشى سائرها، وقد صنع ذلك لما بلغه من قولهم عن ضعفه وضعف أصحابه.
ولما حاصر الأحزاب المدينة، ونقض بنو قريظة عهدهم، وانتهى إلى النبي وأصحابه الخبر، بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهم ليحققوا له الخبر، وقال لهم: إن كان حقاً ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كان الوفاء بيننا وبينهم، فاجهروا به للناس. فلما رجعوا سلموا على الرسول، ولمحوا إليه بأن قريظة غدرت بعهده، فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين.
فأنتم ترون في هاتين القصتين حكمة القائد الأعلى في بث الرعب في نفس العدو بالتظاهر بالقوة، والمحافظة على الروح المعنوية عند الأنصار، بالتظاهر بعدم الاكتراث، والتصغير من شأن العدو.
كان صلى الله عليه وسلم حسن الاستخبار، حسن التكتم للأسرار، وكان من بعض ما يلجأ إليه من اخفاء حركاته العسكرية أن يكتب للقائد كتاباً يأمره فيه ألا يفضه إلا بعد أن يصل إلى مكان معين، أو بعد أن يسير زمناً معيناً.
كان ثابت الرأي، صادق العزيمة، ما دخله عجب ولا زهو، ذهب بسياسة اللين إلى منتهى حكمته، ولجأ إلى القتال لما لم يبق إلا القتال دفاعاً عن النفس والعقيدة، فأظهر في الصبر واللين آيات السياسة، وفي الجهاد والقتال غايات البراعة اتسع صدره للرجال والحوادث، فأثر بشخصه وقوله وعمله في جميع من حوله، ومن اتصل به، فكان مدرسة الرجال، أخرجت من فتحوا الأرض، ونظموا الممالك ممن لم يشتغلوا في مكيدة، ولا استعجزوا في شدة.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10195#_ftnref1) بنو المصطلق: من خزاعة؛ وقد غزاهم النبي بالمريسيع في شعبان سنة ست.

(2) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10195#_ftnref2) جلابيب قريش: هو لقب لمن كان أسلم من المهاجرين، لقبهم بذلك المشركون. وأصل الجلابيب الغلاظ، وأحدها جلباب، وكانوا يلتحفون بها، فلقبوهم بذلك ( من شرح أبي ذر على السيرة).

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10195#_ftnref3) اللعاعة: واحدة اللعاع، وهو النبات الأخضر قليل البقاء ومنه قولهم: ما بقي في الدنيا إلا لعاعة أي بقية يسيرة، ومنه الحديث " أوجدتم ..." اللسان.

إشراقة شمس
08-11-2008, 04:40 PM
مـن آثـــار دعـوتــه (15 )

هذا الموضوع لا يلم أطرافه إلا مجلدات، ولذلك عزمت على حصره في دائرة يسمح بها هذا الفصل الموجز، فلا أتعرض إلا للآثار الخالدة للدعوة المحمدية، الآثار التي لا يحدها مكان ولا زمان، وأن أتخير منها ما هو واضح، وما هو موضع إعجاب الناس كافة، مهما اختلفت عقائدهم أو مذاهبهم، ولعلي بهذا أوضح صورة أخرى لبطل الأبطال صلى الله عليه وسلم تكمل تلك النواحي البارزة في حياته الخالدة.

1 ـ في المجتـمــع

وأول ما خطر أن أوجه التفكير إليه، هو أثر هذه الدعوة من الناحية الاجتماعية، في شعب لم يكن يصلح لشيء، فأصبح في بضع سنين صالحاً لحمل الرسالة التي وصلت إلى أطراف المشرق، في سنين معدودة، هي أقل من عشرين سنة.
كان الأثر البارز السريع لهذه الدعوة تغيير أمة تغيراً شاملاً حاسماً، بحيث أصبحت شيئاً آخر، تلك الأمة التي نشأت فيها الدعوة: الأمة العربية.
كان العرب قوماً فوضى، في قفر من الأرض، موضع احتقار المتمدينين من الفرس والرومان، وآخر أمة يرجى فيها خير وينتظر لها أمر. كان العرب في جاهليتهم قبائل متنازعة على الحياة، متنافسة في السؤدد، يتنازعون على مواقع الغيث ومنابت العشب، كل قبيلة تعتز بقوتها، وتفتخر بأنسابها ومآثرها، وما فخرها وعزها إلا في أنها أغارت فغلبت ونهبت، وأنها ظلمت وأفسدت، فالظلم والنهب عندها محمدة وهو من أغراض الحياة.
بغاة ظالمين وما ظلمنا



ولكنا سنبدأ ظالمينا



وقول زهير:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه



يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم



وانظروا قول القطامي، وهو شاعر إسلامي يصف بقية الجاهلية في القبائل الإسلامية:
فمن تكن الحضارة أعجبته



فأي رجال بادية ترانا


ومن ربط الجحاش فإن فينا



قناً سلباً وأفراساً حسانا


وكن إذا أغرن على جناب



وأعوزهن نهب حيث كانا


أغرن من الضباب على حلول



وضبة إنه من حان حانا


وأحياناً على بكر أخينا



إذا ما لم نجد إلا أخانا



هذا الشعر يصور لنا الحالة العقلية التي كانت عليها القبائل العربية، ويدلنا على عظم الدعوة التي جعلت من قوم يفخرون بنهب أخيهم، قوماً يعتزون بنشر السلام والقانون، والعدل بين الأبيض والأسود في آسيا وأفريقية، هؤلاء الجفاة المتنابذون قد أصبحوا في جيل واحد رسل الحضارة والنظام. كان الرجل منهم لا يعترف إلا بقبيلته، فإذا تنازعت لا يعترف إلا بالبطن الذي ينتسب إليه، وينكر على غير عشيرته حق الحياة. وكان أفراد العشيرة لا يتعاونون، ولا يتكاتفون على خير عام، بل لا يفهمونه، لأنهم ينكرون وجود الأمة العربية إنكارهم للبشرية.
ويرون الحياة قائمة على الخصومة والعداء لكل أحد خارج عن نطاق العشيرة، فكانت العشيرة على هذا الاعتبار عصابة متكافلة على حماية نفسها، وإتيان الشر ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، والاعتزاز بالقدرة عليه، وإنها تأتيه دائماً، فجاءت الدعوة المحمدية تنقض كل ما يتمسك به العربي من هذه المواريث، فحلت هذه العصابة الموجهة للشر باسم العشيرة، وأحلت محلها الأمة، وأقامت الحقوق البشرية، وجعلت التعاون على البر، والتكافل على النظام العام، والاتحاد على الفكر السامي والعقيدة الطاهرة مكان علاقة الدم التي تربط بين الناس في سفك الدم، ونهب ما بأيديهم، فقلبت بذلك نظرة العرب إل نقيضها، وجعلتها نظرة إنسانية إلهية، بعد أن كانت بهيمية وحشية، أحلت سلطان الشريعة فوق كل سلطان، وجعلت هيمنة الدولة للخير العام فوق كل هيمنة، وذهب القصاص الظالم، وقام القصاص العادل، وصارت المسئولية الفردية للعشيرة، مكان المسئولية الاجتماعية لها: " ولا تزر وازرة وزر أخرى" " كل نفس بما كسبت رهينة". " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".
وصارت العزة للشرع القاهر، والسلطان القائم عليه، وحرمت دعوى الجاهلية: يا لفلان، وأصبح كل داع فللشرع دعوته، وبالقانون انتصاره، وبالعدل اعتصامه.
برزت المسئولية الشخصية، فما يغني عن أحد دعوى الجاهلية، ولا يغني عن أحد في ميدان العمل نسبه ولا حسبه ولا جاهه ولا ماله " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره". " إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله".
وأصبح الناس بالدعوة المحمدية سواء، لا شريف ولا وضيع، خيرهم أحسنهم عملاً، وسيدهم أنفعهم، وأكرمهم أتقاهم " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" انظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، يعلن هذه المساواة للعرب على أنها للبشر كافة " أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
تلك هي الكلمة الخالدة التي كانت دستور الحكم فيما فتح العرب من الأرض، فجعلت الفتح العربي بعيداً من رفعه قوم على قوم أو جنس، فلم يصبه ما أصاب غيره من الفتوح، وبقيت آثاره خالدة في المشرق والمغرب.
قضت الدعوة المحمدية على التنافس والغلب بالكيفية التي سقتها، وأحلت هذه التنافس والغلب لإقرار الحق، وبسط الخير، ولم يبق في الشرع الذي قبله العرب إلا تنافس في الأعمال الصالحة " فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون".
وهكذا حلت الأمة محل القبيلة، والعدل مقام الغلبة، والمساواة مكان التفاضل والعمل الصالح مكان الفخر بالآباء، وملئت القلوب حباً وسلاماً، بعد أن كانت مملوءة بغضاً ونزاعاً " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... إلى قوله: لعلكم تتقون(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10196#_ftn1)".
كان قلب العربي موزعاً بين آلهة شتى، قد التبست عليه صفاتها وأفعالها، يفزع إليها حيناً، وينفر منها حيناً، ويلتمس منها الخير، فإن لم يظفر به هجرها وسبها، كما يفعل الآن زنوج السودان مع " كجورهم" يسألونه المطر، ويصبرون عليه، فإذا يئسوا من الرحمة قتلوا " الكجور" وهو معبودهم.
لم تكن أمام العربي سبيل واضحة للعمل في هذه الحياة، كما لم تكن له خطة بينة لمعاملة الناس، فلقنته الدعوة المحمدية الإيمان بإله واحد، وهدته إلى الحلال والحرام في كل صغيرة وكبيرة، فصار على بينة من ربه وعلى بينة من نفسه، وعلى بينة من عمله.
وعقيدة المسلم علمته التوحيد في كل شيء، علمته أن الله واحد، وأن أصل البشر واحد، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن الأمم جميعاً سواء، وأن الأديان التي جاء بها الرسل واحدة، لا تختلف في حقائقها ومقاصدها " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى..." الخ. ووحدت له الخطة التي يعمل عليها في خاصة نفسه ومعاملة الناس.
وحدت الدعوة المحمدية نفس العربي، ثم وحدت العرب جميعاً، وصاغت منهم أمة واحدة، وحملتهم رسالة التوحيد إلى الناس كافة، ليجعلوهم أمة واحدة.
فهذه الأمة الواحدة المؤلفة من أرقى الموحدين هي التي انبعثت بسبب هذه الدعوة، فلم يقف في سبيلها شيء، لا كثرة العدد، ولا قوة السلاح، ولا العقائد الموروثة، ولا عظمة الملوك، ولا تجبر الرؤساء، بل كانت قدراً من الله بلغ غايته، ومن ذا يرد على الله القدر؟!
هذا التوحيد هو عندي أظهر معجزات الدعوة المحمدية.
وليدرك الناس وجه الإعجاز، يجب أن ينظروا الآن إلى جزيرة العرب نفسها وقد شملها الإسلام قروناً، ثم عادت فيها سيرة الجاهلية بحالة أخف كثيراً، بل أهون مائة مرة مما كانت عليه قبل ظهرو رسالة التوحيد فيها، وليقدر كم يلقى الذي يريد أن يبعث هذه الأمة مرة أخرى من عنت؟ أن كثيراً من المصلحين ليتحطمون على عتبة الإصلاح قبل أن يصلوا إلى شيء مما وصلت إليه الدعوة المحمدية في بضع سنين. إذا تصورتم الحالة الحاضرة، وقستموها على الحالة وقت ظهور الدعوة يمكنكم أن تتصوروا أثر الدعوة المحمدية وقوتها وفضلها على هذه الأمة، وعلى الناس كافة.
جاءت الدعوة المحمدية مع رسالة التوحيد هذه برسالة أخرى، وهي رسالة التحرير، وتركت في هذه أثرها الخالد في الأمة العربية وجميع الأمم كما تركت في الأولى؛ فصرخ مؤذن هذه الرسالة: الله أكبر! وتضاءلت بهذه الصرخة كل عظمة، وكل سيطرة أمام عظمة الله وسيطرته، وتحررت النفوس من الأوهام الباطلة، والعقائد الكاذبة، وصارت العبودية خالصة لله، يتساوى الناس فيها، ويتحررون بذلك من سواها.
وهذا الذي انفرد بالسلطان والسيادة وحق العبودية هو الله " هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً" هو الله " والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" هو " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات".
بهذه المعاني السامية، والعبارات القوية، بهذه الآيات الكريمة وأمثالها تحررت النفوس من العبودية لغير خالقها البر الرحيم بها، هاديها إلى النور وإلى صراط مستقيم.
وكان الناس قبل الدعوة المحمدية عبيداً للملوك والزعماء، عبيداً للرؤساء الدينيين، عبيداً للأوهام والخرافات، عبيداً لملاك الأرض وملاك الثروة فتحرروا بهذه الدعوة المحمدية، تحرروا في أبدانهم، وأعظم من ذلك أن تحررت نفوسهم بما وهبت لها الدعوة من عقيدة الخلود وعزته، وأن عملها ليس أثراً بائداً بل مسجلاً خالداً خلود قوانين الله في خليقته.
علمت الدعوة المحمدية الناس أن النفع والضر بيد الله وحده، وأن لا واسطة بين الإنسان وربه، وأن ربه أقرب إليه من حبل الوريد(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10196#_ftn2)، وأنه معه حيثما كان، وأن ليس لأحد سلطان على قلبه، وليس للرسول نفسه إلا التبليغ والتعليم" فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، " فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً".
بهذا أدرك الإنسان مكانته، ونال حريته في عقله وقلبه وفكره وعمله، وبقي للدعوة المحمدية أثرها الخالد في توحيد الناس تحريرهم.
وليس أجمع لدرجات نمو النفس المسلمة من وصف محمد لنفسه، وهو كما رواه علي: "المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة".

***



2 ـ في الفــــرد

ولكي نستعين على تصور هذا الأثر في الفرد لنستحضر أمامنا مثلا عمر بن الخطاب.
كان عمر في جاهليته فتى من فتيان قريش، يغشى مجالس السوء، وبؤر الشر، وكانت مكة في ذلك العصر ممتازة بين حواضر الجزيرة بترفها ومنكرها، تجذب طلاب الطرب واللهو، ولم يكن عمر في هذه المدينة شاذاً، بل كان معلماً بالفتوة والغلظة، معروفاً بالقسوة والشراسة، مستعداً في كل الحالات للتسلط بالأذى على من يخالفه، ولإثارة الفتنة والشغب فيما جل أو صغر؛ لذلك كان من أخطر فتيان مكة على الدعوة المحمدية، وأنشطهم في أذى أتباعها، فلم يسلموا من لسانه الجارح، ويده الباطشة.
ولما رأته ليلى بنت أبي حنتمة وله رقة لم تكن تراها، ذكرت ذلك لرجل من المسلمين، فقال لها: أطمعت في إسلامه؟
أنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب... هذا الذي لم يكن تلاميذ محمد يطمعون في هدايته أكثر من طمعهم في هداية الحمار، هو الذي جذبته الدعوة، فلما هذبته وصقلته، أخرجت منه عمر أمير المؤمنين، قاهر الفرس والروم، وجعلت منه المثل الكامل، في الرفق والإنصاف، والعدل، وأكبر القضاة والسياسيين والملوك في تاريخ البشر.
فعلت الدعوة المحمدية فعلها في الفرد، ثم شمل سحرها الجماعة، فبدلت الناس غير الناس، والأرض غير الأرض.
خلصت الفرد من سلطان العقائد الباطلة، وأصلحت قلبه وفكره بالعقائد الصحيحة، وهذبت نفسه بالشرائع القويمة، والسنن الصالحة، والقدوة الحسنة التي وجدها في المثل الأعلى، في محمد صلى الله عليه وسلم: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة".
أقرت الدعوة المحمدية في نفوس أصحاب محمد حب العدل وحب الإنصاف، في بيئة لا تعرف الحق إلا للقوة ولا تدين بالإنصاف إلا للسيف، فوطأت النفوس للحق. انظروا إلى عمر بعد أن هذبته الدعوة، تعترضه امرأة وهو أمير المؤمنين يخطب الناس، فيمسك من فوره، ويقول: أصابت امرأة وأخطأ عمر! وانظروا إليه وقد شج رأس أخته في الجاهلية يبكي وهو أمير المؤمنين لرؤية بائس، ويخشى أن يلقي الله وفي الناس بائس.
تلك آثار الدعوة في نفوس جفاة العرب، قد جعلت من رعاة الإبل والشاء وصغار التجار في مكة، والفلاحين في المدينة، رجالاً، كلما احتاج تاريخها إلى واحد منهم وجده مهيأ للإمارة على الناس من كل الأجناس، كأنما نشأ فيها، ودرج لها. رجالاً قوامين بالقسط، كما أراد القرآن: " يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون". "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس".
وليس نجاح الفتح العربي، وانتشار الدعوة إلا أثراً لسحرها في تغيير النفوس وتوجيهها للخير، ولو لا رجال أعدتهم المدرسة المحمدية للمثل العليا، أعدتهم لإرشاد البشر وقيادته وحكمه، لما تجاوز الفتح الإسلامي الجزيرة العربية، ولذهب آثاره بموت الرسول وارتداد الأعراب، ولكن الشباب الذين طبعتهم الدعوة بطابعها استمروا يفيضون على جيلهم ما أودعوا من فيض الرسول ثلاثين سنة بعد وفاته؛ فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، الخلفاء الراشدون؛ لم يكونوا إلا شباب الرسالة وقت أن أسرها ثم جهر بها محمد للناس.
وليتبين لنا واضحاً أثر الدعوة المحمدية في نفوس الشباب الذين هاجروا للحبشة، وخالفوا آباءهم وكبراءهم في سبيل عقائدهم، نذكر لكم موقف جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي فهو موقف يدل على امتلاك الدعوة المحمدية لنفوس من اجتذبتهم، كما يبين لنا موضوع الدعوة نفسها، كما فهمها المهاجرون والمهاجرات، بل كما فهمها أنصارها في ذلك العصر.
خرج أولئك السابقون لتلبية الرسول ومعهم من الفتيان والفتيات من ينتسبون لمختلف البطون في قريش، ويتصلون بالقرابة لأعاظم رجال مكة، وأشد خصوم الدعوة، وفيهم أبناء وبنات لأمثال المغيرة، وسهيل بن عمرو، وأمية بن خلف، فبعثت مكة في أثرهم رجلين من دهاتها: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة. ومعهم هدايا مما يستطرف النجاشي من متاع مكة، له ولكل بطريق(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10196#_ftn3) منه بطارقته، وأوصوهما أن يدفعا لكل بطريق بهديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم يسلما النجاشي هديته، ويسألاه تسليم اللاجئين.
فلما وزعا الهدايا لكل بطريق منهم: قالا قد أوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فاشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهم: نعم. ثم سلما للنجاشي هداياه، وقالا له مثل الذي قالا للبطارقة، فأشار البطارقة بتسليمهم، ولكن النجاشي أبى أن يأمر بذلك حتى يسمع قول المهاجرين، فدعاهم وسألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحد من هذه الملل؟ فقال جعفر، وكان اللاجئون قد اختاروه، واتفقوا على أن يقول ما علموا، وما أمر به النبي، كائناً في ذلك ما هو كائن. فقال: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا، وضيقوا علينا الخناق، فخرجنا إلى بلادك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال جعفر: نعم، قال النجاشي: فاقرأه فقرأ صدراً من "كهيعص"، فبكى النجاشي، ثم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
هذه هي الدعوة كما فهمها شباب ذلك العصر، بل كما فهمها أشد الناس تعلقاً بها، وهذا هو أثرها منطبعاً في نفوس ذلك الشاب القرشي، يحدث عنها ملكاً من الملوك بثقة وقوة.
إنكم لتلمسون في كلمات جعفر الموجزة صورة كاملة للدعوة المحمدية، والمجتمع الذي نشأ عنها، فقد بدلت الدعوة وجهة نظر الفرد للحياة تبديلاً تاماً، كما قلبت أوضاع الاجتماع العربي إلى عكس ما اصطلح الناس عليه، وابتدعت كما يقول رسل قريش جديداً لم تعرفه العرب، ولا غير العرب.
ذلك الجديد هو الرسالة المحمدية، وأثرها هو الانقلاب الذي شمل العرب وجيرانهم ولا زلنا ولا يزال الناس في آثاره حتى آخر الدهر.
ظفرت الدعوة وطأطأت كما يقول " هيل" أمة لإرادة رجل واحد، لأنه نفخ فيها من روحه إيماناً قوياً سامياً وأحل في قلبها الفضيلة خالصة نقية، ووجهها على جادة العظمة والفتح العالمي. ولقد كان الاتحاد والتعاون منكراً لا يعرفه العرب إلا في حدود العشيرة، وكان الكبر والفخر والجاه والمال أسمى ما يتطلع الناس إليه، فلما نجحت الدعوة المحمدية قامت وحدة العرب على تضامن الأغنياء والفقراء والأقوياء والضعفاء، فأصبحت المواساة حقاً مفروضاً على الأغنياء، عليه يقوم تكافل المجتمع وعليه تقوم الدولة التي ولدتها الدعوة الجديدة.
تبدلت نظرة الفرد للحياة تبدلاً تاماً، وانقلب النظام الاجتماعي بما سن الإسلام من الأصول، وما وضع من الشرائع.
وقد عبر العلامة " هيل" في كتابه " حضارة العرب" عن أثر الدعوة المحمدية بهذه الكلمة القوية.
" إن جميع الدعوات الدينية قد تركت أثراً في تاريخ البشر، وكل رجال الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيراً عميقاً في حضارة عصرهم وأقوامهم، ولكنا لا نعرف في تاريخ البشر أن ديناً انتشر بهذه السرعة، وغير العالم بأثره المباشر، كما فعل الإسلام؛ ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيداً مالكاً لزمانه ولقومه كما كان محمد.
لقد أخرج أمة إلى الوجود، ومكن لعبادة الله في الأرض، وفتحها لرسالة الطهر والفضيلة، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين، وأحل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى".
تلك بعض آثار الدعوة المحمدية في الفرد وفي الجماعة ألممنا بها إجمالاً في هذا الفصل من هذا الكتاب، وقد فصلنا هذا الإجمال في ( الرسالة الخالدة).




(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10196#_ftnref1) الآيات 151 ، 152 ، 153 من سورة الأنعام.

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10196#_ftnref2) حبل الوريد: عرق: في العنق. أي نحن أعلم بحاله ممن كان أقرب إليه من حبل الوريد تجوز بقرب الذات لقرب العلم، لأنه موجبه، وحبل الوريد مثل في القرب. ( انظر تفسير البيضاوي).

(1) (http://forum.islamstory.com/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=10196#_ftnref3) البطريق: القائد من قواد الروم.

إشراقة شمس
08-11-2008, 04:55 PM
وصــف صــورتــــــه ( 16 )
أما بعد، فإن كل ما تقدم كان وصفاً للمعاني الإلهية والإنسانية الفائقة التي كانت تعمر عقل بطل الأبطال وخاتم النبيين وقلبه، وكانت ملاك روحه وقوام فكره وخلقه، وهي سر الله الخالق في الإنسان الكامل الذي جعله قمة هذا النوع الإنساني ومنار الأسوة والقدوة لأفراده وأبطاله فيما أعقبه من الدهور.
ولكن حب البشر لرؤية " الجسم" الذي تمثلت فيه هذه المعاني والأسرار يحتاج إلى تكميل الصور المعنوية التي رسمتها فصول هذا الكتاب بوصف الصورة الجسمية التي كانت وعاء لهذه المعاني والأسرار.
وهاهي ذي كما وصفها على كرم الله وجهه. قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس واللحية، شثن الكفين والقدمين ( أي أنهما إلى الغلظ أقرب) ضخم الكراديس ( ألواح الأكتاف) مشرباً وجهه حمرة، طويل المسربة (الشعر ما بين السرة واللبة) إذا تكفأ تكفؤاً ( أي يميل إلى الأمام) كأنما ينحط من صبب (انحدار)، لم أر قبله ولا بعده مثله! وكان أدعج العينين ( الدعج شدة السواد وشدة البياض) سبط الشعر ( سهلاً غير ملبد) سهل الخدين ( غير مرتفع الوجنتين) ذا فروة (ما وصل إلى شحمتي الأذن من الشعر) كأن عنقه إبريق فضة، وإذا التفت التفت جميعاً، كأن العرق في وجهه اللؤلؤ الرطب لطيب عرقه وريحه".
هذا هو وصف ( صدفته) الشريفة التي ضمت لؤلؤته اليتيمة الفذة! وفيها تستبين مخايل العظمة وشواهد الكمال التي أرادها الله عز وجل لأجسام النوع الإنساني. ولا عجب بعد هذا الكمال الجسماني والروحاني أن يكون كل من رآه بديهة هابه، وكلمن خالطه أحبه ذلك الحب الباذل الفادي المؤمن... صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

في هذا لكتاب ذكر الكاتب فيه أبرز صفات النبي صلى الله عليه وسلم
بقلم /عبدالرحمن عزام
ذكر في هذا الكتاب
1- بحثه عن الحق ثباته عليه صلى الله عليه وسلم
2- شجاعته
3- وفاؤه
4- زهده وقناعته
5- تواضعه وتياسرة
6- تعبده ونسكه
7- عفوه وصفحه
8- رحمته وبره
9- فصاحته وبلاغته
10- حسن سياسته وحكمته في تصريف الأمور
11- أثره في التربية العسكرية
12- الناحية العسكرية في بدر
13- دفعه عن حرية العقيدة
14- مثل من سياسته
15- من آثاردعوته
16- وصف صورته0
هذا كتاب بطل الأبطال كاملا لم ينقص منه إلا المقدمة فقط 0
و الحمدلله رب العالمين وصلى الله علىمحمد وعلى آل محمد0

أم عمار
14-11-2008, 07:32 AM
جزاك الله خيراً وجعله في ميزان حسناتك

محمد050
25-12-2008, 08:44 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مجهود عظيم جزاك الله خيرا

إشراقة شمس
17-01-2009, 02:01 PM
جزاك الله خيراً وجعله في ميزان حسناتك
شكرا لك أختي على مرورك العطر

إشراقة شمس
17-01-2009, 02:02 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مجهود عظيم جزاك الله خيرا

وجزاك الله خيرا على مرورك الطيب

منور امحمد
22-05-2009, 02:21 PM
ماشاء الله عليك
مشكووووووووووور جدا