المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما أتعس صاحب أصغر بيت في أفضل حيّ!-للكاتب محمد القويز


ramevic
19-02-2011, 02:10 AM
محمد بن عبد الله القويز
كاتب في جريدة الأقتصادية

في كتابه الشهير «الانخداع بالعشوائية» Fooled By Randomness، يقدم عالم الفرضيات (نسيم نكولاس طالب) قصة لطالما ظلت عالقة في مؤخرة ذهني، وقد استفدت منها كثيراً في قرارات حياتي (أو على الأقل منذ قراءتي للكتاب). لذا وددت مشاركتكم أعزائي القراء بالقصة وببعض الدروس التي استقيتها منها (مع بعض التحوير لتناسب السوق المحلية).

السيد (مشعان) بدأ حياته في حفر الباطن من أسرة متوسطة الدخل. وقد كان نبيهاً منذ صغره، وتخرج من الثانوية بالترتيب الأول على مدرسته، وبعدها توجه لدراسة القانون في جامعة الملك سعود حيث برع فيها أيضاً فتخرج الأول على دفعته، مما جعل العديد من مكاتب المحاماة تتسابق على توظيفه، فقبل وظيفة لدى أشهر هذه المكاتب حيث أخذ في البروز بسرعة فارتقى المراتب سريعاً حتى أصبح شريكاً في مكتب المحاماة. وبهذا أصبح يحصل على دخل يزيد على مليون ريال في السنة، كما أنه أصبح يستطيع تحقيق حلم حياته وهو شراء منزل في أرقى منطقة من حي (النخيل) في الرياض، ذلك الحلم الذي كان يراوده منذ أيام الجامعة عندما كان أحد زملاء مشعان في الجامعة (عبودي الطحطوح) الذي كان يسكن في الحي ذاته يعاير مشعان بأنه لن يتمكن أبداً من الانتقال إلى هذا الحي وأن «حدّه النسيم وإلا الروضة إذا كثّر». كما أنه قام بتسجيل أبنائه في أفضل وأرقى مدرسة في الرياض، آملاً في إعطائهم بعض ما فقده في طفولته من الحرص على العلم والثقافة. وبهذا أصبح مشعان لا يغبط ملكاً في ملكه، فقد حقق كل ما طمح إليه في الحياة.

ولكن لأنه انتقل للعيش في أغلى منطقة في الرياض، وعلى الرغم من دخله الممتاز، فإنه لم يكن بإمكانه إلا شراء أصغر بيت في المنطقة. فبعد فترة قصيرة بدأت أم مشاري (زوجة مشعان) تلاحظ أن جاراتها في الحي يسافرن مرة كل شهر بينما هم لا يسافرون إلا مرتين أو ثلاث في السنة، وذلك بحكم تكاليف السفر العالية وجدول مشعان الثقيل. كما أنها أخذت تلاحظ في الاجتماع الدوري لنساء الحي أنها أقلهن أناقة ومجوهرات، فزوجة عبودي الطحطوح (الذي ما زال يسكن في نفس المنطقة) تلبس خاتم ألماس سوليتير يغطي ثلاثة من أصابعها، بينما خاتم أم مشاري بالكاد كلف 15 ألف ريال. وكذلك الحال في مدرسة مشاري حيث أصبح مشعان يلاحظ في اجتماعات أولاياء الأمور أنه أقلهم جاهاً ومالاً. فهذا والد (صلّوحي الكاش)، يوقف سيارته (المايباخ) بجانبه وبمعيته مساعده الخاص ليدون الملاحظات من المدرسين نيابة عنه في كمبيوتر لابتوب.

وظل مشعان مشغولاً ويعمل دون توقف، ولكنه لم يصل بل ولم يقترب من مقدار الثراء الذي حققه أصحابه ورفاقه وجيرانه الجدد. كما أن الضغوط الدائمة عليهم لمجاراة ومسايرة البيئة التي حولهم أصبحت تطبق على دخلهم بالكامل فلا يتمكنون من تحقيق أي مدخرات تذكر (باستثناء راتب أم مشاري كمدرّسة والذي ترفض أن تصرف منه على مصاريف المنزل). فأخذوا يسألون أنفسهم «لماذا لم ننجح كغيرنا؟ لماذا نحن فاشلون إلى هذا الحدّ؟» هذا الوضع (الصعب) بدأ بالتسبب في تردي الوضع النفسي لمشعان وزوجته كما بدأ في تهديد حياتهما العائلية.

لا شك أنكم أعزائي القراء ترون الهزلية في هذه القصة. ولكنها تقع في أحيان كثيرة للعديد من الناس. فهي نموذج لأحد الأخطاء الدفينة في نظرة الإنسان إلى الواقع وهو ما يعرف بـ «الانحياز الانتقائي» Survivorship Bias، فمشعان عندما قارن وضعه بغيره لتحديد مدى نجاحه، استخدم عيّنة منتقاة لا تعكس الواقع ككل. فهو لم يقارن نفسه بأقربائه في حفر الباطن (حيث إنه حقق نجاحاً أكبر من أي منهم)، ولم يقارن نفسه برفاقه في الجامعة (حيث حقق نجاحاً أكثر من 99 في المائة منهم)، ولم يقارن نجاحه برفاقه الذين بدؤوا معه في مكتب المحاماة (حيث حقق نجاحاُ أكثر من 95 في المائة منهم)، إنما قارن نفسه بالطبقة التي تعيش حوله وترسل أبناءها إلى مدرسة ابنه نفسها، وبالمقارنة مع هذه الطبقة هو بالفعل أقل شخص ثروة ومالاً، ولكن ذلك ليس لأنه فاشل، بل لأنه اختار أن يعيش ويقارن ضمن الطبقة التي تمثل أكثر طبقات المجتمع ثراءً، فهو من هذا المنطلق من ضمن الفئة التي تمثل أغنى 1 في المائة في المجتمع السعودي وإن كان في ذيل تلك القائمة. ولكن لأن غالبية احتكاكه وتعاملاته أصبحت مع هذه الفئة نفسها (سواء كانوا جيرانا، أو عملاء في مكتب المحاماة..إلخ) فإنه أصبح يستخدمهم كمعياره الوحيد للمقارنة.

وبالتالي فإننا ننصح مشعان بأن ينظر إلى من هم أقل منه (وهم كثيرون) ليحمد الله على نعمه التي لا تحصى، ولكن أثر هذه النصيحة قد لا يمتد لأكثر من 15 دقيقة لتنتهي بمجرد أن يذهب مشعان لاجتماعه القادم مع أحد الطحاطيح. لذا فقد تكون النصيحة الأفضل (والأكثر دواماً) هي أن يبيع مشعان منزله في النخيل ويشتري منزلاً آخر في النسيم، فهو في هذه الحالة سيمتلك أكبر منزل في الحارة، كما سيتذكر كل يوم كم هو محظوظ لأنه أجبر نفسه على توسيع مجال المقارنة لتشمل أشخاصا أقل منه يراهم كل يوم.

******

من القصة الواردة بعاليه، استقيت الفوائد التالية لحياتي، والتي أرجو أن تكون ذات فائدة لكم:

* من الأفضل دائماً أن تكون صاحب أفضل بيت في أسوأ حارة من أن تكون صاحب أسوأ بيت في أفضل حارة. وهذا المثال لا ينطبق فقط على المنازل بل على كل شيء، فالأثر النفسي أفضل على الإنسان على سبيل المثال إذا كان أبرز موظف في شركة متوسطة من إذا كان موظفاً متوسطاً في شركة متميزة.

* الطريقة الوحيدة لتحقيق السعادة من المقارنات هو الابتعاد عنها تماماً، بل الذهاب في الاتجاه المعاكس أحياناً. فالسفر بالدرجة السياحية (ولو كان بإمكانك السفر بدرجة الأفق) يخرجك من دوامة المقارنات والمسابقات. حيث يمكن القول إن وطأة رؤية ركاب الدرجة الأولى أكبر على نفس المرء إذا كان يركب درجة الأفق منها عليه إذا كان قد اختار الدرجة السياحية (خصوصاً إذا قام بذلك من قبيل الخروج من السباق تماماً). كذلك الحال في السيارات، فمالك الهونداي قد يكون أسعد بسيارته من مالك المرسيدس 350، لأن الأخير يرى ما ينقصه كلما يمر بجانب مرسيدس 500