المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لإسراف والتبذير


الشيخ محمد الزعبي
26-02-2011, 08:26 PM
‏الاحد‏، 24‏ ربيع الأول‏، 1432//‏27‏/02‏/2011 //
الإسراف والتبذير
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}الفرقان:67.
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}الاسراء:29)
إنَّ أمةَ الإسلامِ أمةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم خيرُ أمةٍ أُخرجت للنَّاسِ، أمةٌ وسطٌ، شهيدةٌ على الناس، هذا ما أخبر به ربنا عز وجل عن هذه الأمة المسلمة في وحيٍ يُتلى إلى قيامِ الساعةِ، كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الذِينَ اصْطَفَاهُمُ اللهُ لِلقِيَامِ بِالقُرآنِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَجَعَلَهُمْ أقسَاماً ثَلاَثَةً :
- مِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِ بَعْضِ الوَاجِبَاتِ ، مُرْتَكِبٌ بَعْضَ المُحَرَّمَاتِ .
- وَمِنْهُمْ مُقَتَصِدٌ ، وَهُوَ القَائِمُ بِالوَاجِبَاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّمَاتِ ، وَقَدْ يُقَصِّرُ في فِعْلِ بَعْضِ المُسْتَحَبَّاتِ ، وَيَفْعَلُ بَعْضَ المَكْرُوهَاتِ .
- وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ - وَهُوَ الفَاعِلُ لِلْوَاجِبَاتِ ، وَالمُسْتَحَبَّاتِ ، التَّارِكُ لِلْمُحَرَّماتِ والمَكْرُوهَاتِ .
وَذَلِكَ المِيرَاثُ ، وَذَلِكَ الاصْطِفَاءُ ، فَضْلٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ لاَ يُقَدَّرُ قَدْرُهُ .
وكما قال سبحانه:{ وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وَقَوْلُهُ : وَسَطًا أَيْ خِيَارًا عُدُولًا . خيارا عدولا مزكّين بالعلم والعمل، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما كان الخيار وسطا لأن الخلل إنما يتسرب الى الأطراف وتبقى الأوساط محمية.
وكما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَءاتُواْ الزكاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]. هذه الخيرية والوسطية في أمة مؤمنة يحمدون الله في السراء والضراء يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، قرآنهم في صدورهم، رهبان بالليل، فرسان بالنهار، يجاهدون في سبيل الله بالأموال والأنفس والنصيحة الخالصة الصادقة بالقلم واللسان لا يخافون لومة لائم، غايتهم ومقصدهم إخراجُ الناس من الظلماتِ إلى النور وتبصيرُ عبادِ الله بالإسلامِ على الطريقةِ الصحيحة الواضحة والعقيدة الصافية النقية، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله.
تنبع خيريةُ هذه الأمةِ وتتأكدُ وسطيتُها في دينِها الخاتمِ الكاملِ الذي لا يقبل التجزئةَ، فهو يشمل جميع مناحي الحياة في العبادات والمعاملات والأخلاق وخلافها، لو استعرضنا خيرية هذه الأمة ووسطيتها في بعض النواحي من خلال إشارات وأدلة من الكتاب والسنة لطال بنا المقام، فكيف إذاً لو كان لأمور متعددة من أولها جميعاً، إنه يحتاج إلى سنوات لنقل الأئمة الأعلام حول الآيات والأحاديث المبينة لذلك في أقصر العبارات وأوجزها وأجملها وأوضحها وأبينها إعجازاً، وما هذا التقديم إلا لمعرفة جزء يسير من خير هذا الدين الإسلامي الحنيف وخيرية هذه الأمة المسلمة ووسطيتها وتوسطها واعتدالها وما ينبغي أن يكون عليه المسلم والمسلمة في هذا الأمر وفي غيره، في حياته كلها وتطبيقه لأحكام الإسلام ووضع النقاط على الحروف ليبحث كل بنفسه ويقف عند آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إن نعم الله علينا عظيمة وكثيرة بحيث لا تعد ولا تحصى كما قال الله تبارك وتعالى في محكم القرآن الكريم:{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. وفي الآية الأخرى:{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }[النحل:18]. ولو تدبرنا وتأملنا هاتين الآيتين في سورة النحل وإبراهيم وكيف أتت بعد تسخير الله عز وجل لنا الأشياء في هذا الكون وتذكرنا غفلتنا وذهولنا عن معظم ما في هذا الكون الفسيح وعما في أنفسنا وما يحيط بنا وعن مدى تقصيرنا في هذا وفي غيره من أمور عباداتنا وتطبيقنا لإسلامنا لو فعلنا ذلك لسجدنا لله شكراً وذلت رقابنا لعظمة الله وخضعنا وتواضعنا لعباد الله وعرف كل منا قدر نفسه وعمل بطاعة ربه وانتهى عن المعاصي والآثام وعمل بسنة خير الأنام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وعندها تتغير الأحوال إلى الأفضل والأحسن بإذن الله عز وجل، وعندما يكون العكس حيث الذهول والغفلة والإعراض وانتهاك المحرمات وقلة الطاعات فإن التغيير إلى الأسوأ سوف يكون بقدرة الله وإرادته ومشيئته وحسب سننه الكونية التي وردت في القرآن الكريم. قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد:11].وقال عز وجل:{ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53]. وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ }[إبراهيم:7]. وقال عز وجل:{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل:53-55]. وقال تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112]. ولو أوردت الآيات عن سبأ وقارون فقط وقرأتها عليكم لاحتجنا وقتاً يطول على السامعين، ولا يملون كلام رب العالمين بإذن الله تبارك وتعالى.
إن مظاهر الإسراف والتبذير والترف والبذخ مع عدم الشكر وكفران النعمة منذر بالخطر ليس على الواقعين فيها فقط بل العقابُ يحل على الجميع، ولو تأملنا هذه الآيات لوجدناها كأنما أنزلت الآن تُصوّرُ واقعَنا وتُنذرُ عاقبةَ أمرنا وتُذكرنا بما جنينا وما كنا عليه، قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:24-26].
الإسراف: مجاوزة الحد أياً كان، وهو يشمل أموراً عدة في حياة البشر من مأكل ومشرب ونوم ويقظة وكلام ومحبة وكراهية وضحك وانفعال وتعامل مع الإنسان والحيوان والطير والنبات والجماد وكذلك العبادات من وضوء وطهارة وصلاة وصدقة وصيام وغيرها، والحديث هنا عن الإسراف في الأموال وسوء التصرف فيها، وهو نوعان: الأول: إسراف في النفقة والإنفاق، وهو التبذير المنهي عنه ومجاوزة الحد حتى في الصدقة، قال تعالى:{ وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26-27]. وقال عز وجل: {وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }[الأنعام:141]. وقال صلى الله عليه وسلم لمن أراد الصدقة: ((الثلث، والثلث كثير، لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)).
والنوع الثاني: الإسراف في الاستهلاك في الأكل والشرب وضروريات الحياة ومباحاتها، مع أن الله أباح لعباده الطيبات والحلال من المأكل والمشرب ولكنه نهاهم عن الإسراف وتجاوز الحد لما في ذلك من الضرر عليهم في أبدانهم ودينهم ودنياهم.
ولنتأمل الحديثين التاليين حيث أخذ أعداء الإسلام منهما قاعدة لصحة أبدانهم وتركها أكثر المسلمين، فالطب مجموع في ثلاث كلمات لا غنى للمرء عن أحدها ولو خالفها لاعتلت صحته وقواه وربما أودت بحياته، جاء ذلك في الآيات والأحاديث التالية: قال تعالى:{ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. وقال عز وجل عن عباد الرحمن الذين عدد صفاتهم:{ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67]. وقال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً} [الإسراء:29]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفَسِهِ)) أخرجه الترمذي وقال حسن والنسائي وابن ماجه من حديث المقداد بن معد يكرب ورواه السيوطي في الجامع الكبير عن ابن المبارك ، وأحمد والترمذي وابن ماجه وابن سعد وابن جرير والطبراني والبيهقي وقال صلى الله عليه وسلم: ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع)). قال عنه الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في مجموع فتاواه (4/122): "في سنده ضعف" ولم يذكر -رحمه الله- من رواه. وقال الشيخ عبد العزيز السدحان: "فتشت عنه كثيراً، وسألت عنه كثيراً، فلم أظفر بشيء غير ما ذكره سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز"
أي لا يدخلون الطعام على الطعام مع الشبع لما فيه من إفساد الثاني لما قبله، وإذا أكلوا لا يملأون بطونهم حتى يتخموها بالطعام ويصلوا إلى الشبع المفرط.
فإن المسلم الحق معتدل متوسط مقتصد في أموره كلها لا إفراط ولا تفريط لا غلو ولا مجافاة، لا إسراف ولا تقتير، لأنه ينطلق في ذلك من تعاليم الإسلام التي تأمره بالاعتدال والتوازن والاقتصاد في جميع الأمور، وتنهاه عن الإسراف والتبذير ومجاوزة الحد حتى ولو كان في الاقتصاد الذي يصل إلى حد التقتير، ولا ينتظر توجيهات البشر لأنه يفعل هذه الأمور طاعة لله عز وجل وقربة إليه رجاء الثواب من عند الله سبحانه وتعالى وخوفاً من عقابه ومحبة له عز وجل. وإذا جاءت الدعوة لأمرٍ ما من ولاة الأمر فإن الأمر لديه عادي جداً لأنه عامل به منفذ له ولا يستغربه ولا يستصعبه أبداً ولا يستثقله، بعكس الجاهل بتعاليم الإسلام أو المسرف الذي لا يحسب لأمر دينه أي حساب، وهذا الشيء يخشى على الجميع منه لأن فتنته وشره يصل ضرره الجميع، كما قال تعالى:{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا }[الإسراء:16]. وكما حذر سبحانه من أن ترك أمر الخاصة الظاهر وعدم النهي عنه سوف يصيب العامة، كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً }[الأنفال:25]. أي أنها سوف تصيب العامة، ولنأخذ بعض الأمثلة التي تتردد الدعوة حولها لترشيد الاستهلاك فيها.
ومنها: الماء، فالمسلم مأمور بالاقتصاد فيه حتى في أمر الطهارة التي منها الوضوء والاغتسال ولو كان أحدنا على شاطئ نهرٍ جارٍ، وهدي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم واضح في هذا وغيره، فقد كان صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتطهر بالمد، والصاع: أربعة أمداد ،والمد: ملء كَفَّي الإنسان المعتدل الخلقة. فهل أحد يطبق هذه السنة النبوية أو يقترب منها في هذا الزمان إلا من وفقه الله عز وجل نظراً لوجود المسابح الموجودة في دورات المياه المسماة بالمغاطس والدشوش المتنوعة والمغاسل التي هي أجزاء مساعدة على الإسراف ، ولو استعمل شخص عاقل الأباريق بدل تلك الصناديق أو في الوضوء عند المغسلة ووضوئه عليها والاغتسال في الحمام لئلا يسرف في الماء لَوُصِفَ بالتخلف والجنون، مع أن القائلين بذلك هم الذين يستحقون ذلك الوصف.
وقد مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد الصحابة وهو يتوضأ فقال له: ((لا تسرف في الماء)) فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: ((نعم وإن كنت على نهرٍ جارٍ)). رواه ابن ماجة في سننه و أحمد في مسنده والبيهقي . وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء)). رواه الترمذي
وعندما يرى المسلم إخوانه المسلمين في أماكن الوضوء في المساجد يشاهد من الأمر عجباً في إهدار الماء وفتحه من مصادره ومحابسه إلى أعلى الدرجات حتى والشخص يكف ثيابه وملابسه نجد الماء مهدراً نافذاً إلى مجاري الصرف وكأنهم لا يعون ولا يعلمون شيئاً من سنة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث يتوضأ أحدهم بأكثر من مائة مرة عن القدر الذي عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحالهم في الاغتسال أعظم وأكثر مع وجود ما يساعدهم على الإسراف مما تحويه دورات المياه، أما المترفون الذين تحوي قصورهم ومساكنهم المسابح التي تتسع لعشرات الأطنان بل المئات فحدث عنهم ولا حرج، حيث التغيير والتبديل الأسبوعي للماء إن لم يكن اليومي لدى كثير منهم وإهدار الماء الصالح للشرب لأن الجميع لم يتعب فيه ولم يدفع مقابله إلا قيمة تافهة، هذا إن دفعت،
فالواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه ويتقي ربه، وإذا بدأت المحاسبة تأتي النتائج المثمرة بإذن الله، وهي تبدأ من هؤلاء الأشخاص ومن الرجال المسئولين في بيوتهم والنساء ومراقبة الخادمات اللائي هن أيضاً مصدر لإهدار المياه حيث تفتح إحداهن مصدر المياه ( الصنبور) إلى آخر شيء ليغسل ويزيل عن الأواني والأدوات المستعملة في الطبخ والأكل والشرب ما علق بها مع أقل كلفة عليها في مدّ يدها واستعمالها لها.
ثم الترشيد من الأغنياء والكفّ عن العبث بالماء في المسابح وأشجار الزينة ونباتاتها والمسطحات الخضراء والأشجار غير المثمرة والتي لا فائدة من وراء إهدار المياه عليها لا لإنسان ولا لحيوان ولا طير، حيث يصرف بعضهم في اليوم الواحد ما تصرفه عوائل في سنوات، ولا أقول هذا مجازفة بل حقيقة واقعة، ومن لديه شك فليسأل المسئولين الأمناء عن توزيع المياه.
فإذا كان الإنسان قدوة فيما يدعو إليه ويفعله استجاب الناس له، والعكس بالعكس، وواجب طالب العلم والخطيب والواعظ والعالم أن يكونوا قدوة فيما يدعون إليه، كما هو الحال في المسئول ممثلاً في شخص بمفرده أو هيئة أو مؤسسة اعتبارية في قمة الهرم وأعلاه كما يقال أو في أسفله، مثل الدعوة لترشيد استهلاك الماء إذا لم يوضع في الاعتبار ما ذكر سابقاً إلى جانب أمور لا يحسن ذكرها هنا فإن الأمر سيظل استعطافاً قليل الجدوى والثمرة بعيداً عن الحزم ووضع الأمور في نصابها، كما هو الحال في الكهرباء إذ لم تبدأ البلديات والمواصلات في الاقتصاد في الإضاءة المهدرة التي تستمر إلى بعد إشراق الشمس بساعة أو تضاء قبل المغرب بساعة مع زيادة الكميات المضاءة عن حاجة الطرق الداخلية والخارجية، إذا لم تكن مثل هذه الجهة قدوة فيما يشاهده الناس فلن تكون الاستجابة مثمرة ومتوقعة لدى كثير من الناس والحال كما ذكر.
وواجب المسلم أن يستجيب إلى أمر الله وأمر رسوله وهذه الدعوة التي هي من تعاليم الإسلام المأمور بها قبل أن تكون دعوة من ولاة الأمر، وكذلك على المسلم أن يقتصد في الولائم وحفلات الزواج التي تهدر فيها كميات هائلة من الأطعمة واللحوم وأنواع المأكولات والمشروبات ثم ترمى في الزبالات ومع القاذورات، وقليل من يحملها إلى البر ويرميها هناك أو يحملها إلى الجمعيات الخيرية، وكفران النعمة يكون عند من لا يحترمها ويقوم بذلك رياءً وسمعة ومفاخرة مع أن الكثير منهم قاموا باستدانة قيمتها ويقومون بسدادها خلال سنوات.
وقبل مدة نشرت إحدى الصحف صورة لصينية كبيرة - إناء يوضع فيه الطعام - عليها قعود - الصغير من الإبل - وعدد من الأغنام تمثل الكرم الحاتمي في إحدى المناطق لشخص كفر بنعمة الله عز وجل مع أنه لو وقف فقير على أحدهم وطلبه عشرة ريالات لما أعطاه.
ولو أن كل فرد وعلى أقل تقدير وفّر ليرة واحدة من قيمة استهلاك الماء والكهرباء وأنفقها في وجوه الخير ومشاريعه المختلفة لدى الجمعيات الخيرية القائمة بهذا لقدم لنفسه خيراً كثيراً ووجده في يومٍ هو أحوجُ لحسنة واحدة {وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل:20].{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].