المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجانب العلمي في الحضارة الاسلامية


أسامة هوادف
10-07-2011, 09:40 PM
نزل الله -عز وجل- أول آية من كتاب الله تعالى تحث المسلمين وتحضهم على العلم والتعلم، قال تعالى: {أقرأ باسم ربك الذي خلق.

خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1-5].

وقد رفع الله -عز وجل- قدر العلماء حيث قال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 17].

وقال الرسول ( مبينًا أهمية العلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [مسلم وابن ماجه].

وعندما أُسر المشركون في بدر، جعل الرسول ( فداء كل واحدٍ منهم أن يعلم عشرة من الصحابة، وقد نشط المسلمون في جميع العصور في طلب العلم والمعرفة حتى تركوا لنا ميراثًا حضاريًّا رائعًا، يعبر عن تفوقهم في كل مجالات الحضارة. وهناك وسائل عني بها الإسلام لاكتساب العلوم منها:

المساجد:
فهي أهم المنارات التي أضاءت للمسلمين طريق العلم والمعرفة، فكان أول شيء قام به الرسول ( بعد هجرته إلى المدينة بناء المسجد، مما يدل على أهميته في حياة المسلمين، وليعلموا أن المسجد هو أول خطوة في بناء الحضارة وتحقيق الازدهار والتقدم، فكان المسجد مكانًا لاجتماع المسلمين مع الرسول ( يسألونه ويجيبهم، ويتناقشون في أمور دينهم ودنياهم، وتقام فيه حلقات الذكر، ويجلس المسلمون صغارًا وكبارًا ليتعلموا القرآن وأمور الإسلام.

ومن أهم المساجد التي أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية: المسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في المدينة، والمسجد الأقصى في القدس، والمسجد الأموي في دمشق، ومسجد عمرو بن العاص، والجامع الأزهر في مصر، ومسجد القيروان في تونس، ومساجد أخرى كثيرة خرَّجت لنا أجيالاً مسلمة واعية استخدمت العلم في خدمة الإسلام ورفع شأن حضارة المسلمين، ومن هنا ارتبطت نهضة الحضارة الإسلامية، بقيام المساجد بدورها على الوجه الأكمل.

الكتاتيب:
والكُتَّاب عبارة عن مكتب تعليمي، يتعلم فيه أطفال المسلمين القراءة والكتابة وأحكام تلاوة القرآن الكريم، ويقوم بتعليمهم أساتذة متخصصون في علوم القرآن، ويعد الكُتَّاب خطوة جديدة نحو تطوير المنشآت التعليمية بعد أن ضاقت المساجد عن استيعاب أعداد المتعلمين صغارًا وكبارًا، فانتشرت هذه الكتاتيب في كل بلاد المسلمين، وهذه مرحلة متطورة تدل على ازدهار العلم وارتفاع شأن العلماء والمتعلمين.

المكتبات:
وقد قام الحكام المسلمون بإنشاء المكتبات المملوءة بالكتب النافعة في مجالات العلوم، واشتهرت بغداد ودمشق والقاهرة بمكتباتها الزاخرة بأمهات الكتب في كل فروع المعرفة الإسلامية، ومن بين المكتبات التي نالت شهرة واسعة دار الحكمة التي أنشأها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله عام 395 هـ، ووضع فيها الكثير من الكتب، وقسمها إلى حجرات متعددة، بعضها للاطلاع وبعضها الآخر لحلقات الدراسة، وزينها بمفروشات جميلة، وجعل بها عمالاً لخدمة طلاب العلم، وكانت بها فهارس تسهل للطلاب الحصول على الكتب، وكان بها نظام الاستعارة.

المدارس:
وتعددت المدارس، وتنوعت ما بين خاصة بالخلفاء والحكام وأبنائهم، حيث المعاملة والخدمة المتميزة التي تؤهلهم لتولى المناصب القيادية في الدولة الإسلامية، وعامة لرعاية أبناء المسلمين في مختلف فروع المعرفة.

وقد برع الوزير السلجوقي (نظام الملك) في إنشاء العديد من المدارس، وكانت على درجة عالية من النظام والفخامة، وقد انتشرت هذه المدارس في بغداد وأصفهان والبصرة والموصل وغيرها، ومن أشهر هذه المدارس:
مدرسة نور الدين محمود زنكي، وتعرف بالمدرسة النورية الكبرى بدمشق، وأنشأها سنة 563 هـ على مساحة واسعة، وجعل فيها قاعات للمحاضرات، ومسجدًا للصلاة، وحجرتين للمعلمين، ومسكنًا لخادم المدرسة، ومراحيض ليستخدمها الطلاب، وقد تميزت بروعة البناء ودقة وجمال تصميمها، وارتفاع مستوى التعليم فيها.

وكانت هذه المدارس منارات لتخريج العلماء، وقد وُضعَتْ بها نُظُمٌ عالية لاختبار قدرات الطلاب، وتوجيههم حسب كفاءاتهم ومواهبهم ومصاحبة الطلاب لأساتذتهم في مكان واحد، وتمتع الطلاب وخاصة المتفوقين بكافة الميزات والمكافآت؛ تشجيعًا لهم، إلى جانب العناية بالترفيه عنهم، وإقامة الرحلات المفيدة لهم، والاهتمام بتنمية أجسامهم وعقولهم. هذا بالإضافة إلى العناية بتعليم الفتيات، فقد اهتموا بهن اهتمامًا لا يقل عن الفتيان.

مجالات العلوم:
ومن أهم مجالات العلوم التي اهتم المسلمون بتعليمها: العلوم الأصيلة، والعلوم المقتبسة.

أولاً: العلوم الأصيلة:
هي العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم والسنة النبوية وأصول الدين وما يخص الأمة من آداب وتاريخ، وقد أبدعها المسلمون أنفسهم، ولم يقتبسوها من غيرهم، ومن أبرز هذه العلوم:

- علم القراءات القرآنية:
وُجدت القراءات مع وجود القرآن الكريم، فقد كان جبريل -عليه السلام- يُقرئ النبي ( بأكثر من طريقة؛ تيسيرًا على الناس؛ لاختلاف لهجاتهم، واهتم صحابة الرسول ( بحفظ القرآن وتدوينه وتعليمه، واشتهر من بينهم بحفظ القرآن علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وسالم مولى حذيفة، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وغيرهم رضي الله عنهم.

وقد أخذ عنهم عدد كبير من الصحابة -أيضًا- والتابعين في الأمصار، فراح الناس يقرءون على طريقتهم في القراءة إلى أن جاء القرَّاء السبعة المشهورون:

أبو عمرو بن العلاء في البصرة، ونافع في المدينة، وعاصم في البصرة، وحمزة، والكسائي في الكوفة، وعبد الله بن عامر في الشام، وابن كثير في مكة المكرمة، فاعتنوا بضبط القراءة وإسنادها إلى رسول الله (، ووضعوا القواعد من أجل ذلك.

ومن هنا نشأ علم القراءات، والقراءات جمع قراءة، وهي مذهب من مذاهب النطق في القرآن قرأ به إمام من أئمة القراءات، يختلف عن المذهب الذي قرأ به غيره في الأداء والحروف، وقد اهتم المسلمون بتدوين هذه القراءات وضبطها وبيان قواعدها، وبيان أئمتها ورواتها وسندها والفروق بينها، كما اهتموا ببيان أنواعها، ومن الكتب المدونة في هذا الموضوع:

1ـ التيسير في القراءات السبع لابن الصيرفي (ت 444 هـ).

2ـ جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو الداني.

3 ـ النشر في القراءات العشر لابن الجزري (ت 833 هـ).

4ـ في القراءات العشر لابن مهران الأصبهاني (ت 381 هـ).

وقد أسهم هذا العلم وعلم التجويد في الحفاظ على قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة، والحفاظ عليه من التحريف والتبديل، كما أسهم علم التجويد في نشأة علم أصوات اللغة العربية، والتي وضع لها علماء المسلمين القواعد فيما بعد، واستفاد منها علماء اللغة في العصر الحديث.

- علم التفسير:
هو العلم الذي يبحث في أوجه معاني كلام الله تعالى، ومعرفة المراد منه، ومعرفة أحكامه وحِكَمه، وما اشتمل من عقائد وأسرار. قال ابن عباس: التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها (الذي يفهم من لغة العرب)، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته (وهو الذي يأتي إلى الذهن من معرفة معناه من النصوص)، وتفسير تعلَّمه العلماء (بالاجتهاد والاستنباط)، وتفسير لا يعلمه إلا الله (وهو ما يتعلق بالأمور الغيبية).

وطرق تفسير القرآن هي:
- تفسير القرآن بالقرآن.

- تفسير القرآن بالسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله .

- التفسير بقول الصحابي.

- التفسير بقول التابعي.

- التفسير بمطلق اللغة، فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين.

- التأويل.

ويفسر القرآن تبعًا للترتيب السابق، ولا ننتقل من طريقة في التفسير إلى أخرى إلا إذا لم يوجد فيها تفسير للآية المطلوبة، وقد فسر الرسول ( بعض الآيات للصحابة، ولكن ليس لدينا ما يدل على أن رسول الله ( فسر جميع القرآن كله، لذا فنحن نكتفي من تفسير رسول الله ( ومن سنته بما وصلنا صحيحًا ثابتًا عنه.

وفي عهد التابعين ومن بعدهم انفصل علم التفسير عن علم الحديث، واستقل بكتب خاصة به، فظهرت تفاسير عديدة على مر الزمن، ويمكن تقسيمها حسب المنهج العلمي الذي اتبعه العلماء، إلى قسمين:

- التفسير بالمأثور:
ويعتمد على النقل والرواية والأخبار، ويشمل تفسير القرآن بالقرآن، وتفسيره بالسنة، وبأقوال الصحابة أو التابعين، ومن أمثلة كتب التفسير بالمأثور:

1- جامع البيان في تفسير القرآن. لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ).

2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ت 774 هـ).

3- الدر المنثور في التفسير المأثور لجلال الدين السيوطي (ت911 هـ).

- التفسير بالرأي:
وهو تفسير القرآن بالاجتهاد والاستنباط، بالاعتماد على اللغة العربية ومعاني الألفاظ، والتفسيرات المأثورة، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وفيه يجتهد العالم بعد أن يحيط بالعلوم اللازمة لتفسير كتاب الله، وهي العلوم السابقة. ومن أهم نماذج كتب التفسير بالرأي:

1- مفاتيح الغيب للفخر الرازي (ت 606هـ) وهو تفسير يغلب عليه ثقافة مؤلفه في علوم الكون والطبيعة وأقوال الحكماء والفلاسفة، وقد ربط فيه مؤلفه بين معظم العلوم التي اشتهرت في عصره، وبين القرآن الكريم.

2- البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي (ت 745هـ).

3- إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود محمد بن محمد العمادي (ت982 هـ).

4- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني لشهاب الدين محمد الألوسي البغدادي (ت 1270هـ).

وقد اهتم المسلمون في العصر الحديث بتفسير القرآن الكريم، ومن أمثلة هذه التفسيرات:
1- تفسير المنار لمحمد رشيد رضا.

2- التفسير القرآني للقرآن لعبد الكريم الخطيب.

3- في ظلال القرآن لسيد قطب.

4- تفسير القرآن للشيخ المراغي.

كما اهتم المسلمون في العصر الحديث أيضًا بالتفسير العلمي للقرآن، ومن أمثلة هذا التفسير:
- تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري.

كما اهتم المعاصرون بجمع تفاسير الصحابة والتابعين ومن بعدهم من خلال الرسائل الجامعية وغيرها، وإحياء ما هو مخطوط من ذلك، وقد قدم تفسير القرآن للحضارة الإسلامية خدمات جليلة، منها: أنه ساعد على استنباط الأحكام من كتاب الله، ومعرفة قواعد وأصول الحضارة الإسلامية في كل مجالات الحياة، كما ساعد على فهم مقاصد كتاب الله.

علم الحديث:
لقد حرص صحابة رسول الله ( على سماع أحاديثه، وبلغ حرصهم على تتبع سماع هذه الأحاديث أن كان بعضهم يتبادلون ملازمة مجلسه ( يومًا بعد يوم، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد -وهي من عوالي المدينة- وكنا نتناوب النزول على رسول الله (، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوصى وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك.

وكان الرسول ( يحضُّ المسلمين على تبليغ ما يسمعون، فقال: (نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمع، فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع) [الترمذي]. وكان أبو هريرة وابن عباس أكثر الصحابة حفظًا لكلام رسول الله .

ولم يدون من حديث رسول الله ( في حياته إلا القليل، وكان رسول الله ( في بداية الأمر قد نهى الصحابة نهيًا عامًّا عن كتابة الحديث حتى لا يختلط بالقرآن الكريم، مما دفع الصحابة للاجتهاد في حفظه ومدارسته، ثم سمح فيما بعد لبعض الصحابة أن يكتبوا، إلا أن الصحابة انصرفوا إلى الاهتمام بحفظ القرآن.

واستمرت الحال هكذا حتى بدأت الصراعات والفتن تقع في الدولة الإسلامية منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ظهرت جماعة من الوضاعين الذين يضعون الأحاديث، ثم ينسبونها زورًا إلى رسول الله (، وكان ( قد تنبأ بهذه الظاهرة حيث قال: (من كذب عليَّ عامدًا متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار) [البخاري].
وفي عهد الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، أمر بجمع حديث رسول الله (، وكلف بذلك أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ومحمد بن شهاب الزهري، فبذلا جهدًا كبيرًا في جمع حديث الرسول (، وكانت هذه المرحلة الجمع بدون تنقيح.

ثم جاءت بعد ذلك مرحلة أخرى أكثر عمقًا بظهور جماعة من علماء الحديث نظروا فيما جمعه محمد بن عمرو بن حزم وابن شهاب الزهري، وجمعوا الصحيح منها، وتركوا الضعيف والموضوع، وهي المرحلة المعروفة بمرحلة تدوين السنة، ولعل أقدم كتاب جمع الصحيح واهتم بالتنظيم والتبويب هو موطأ الإمام مالك -رضي الله عنه- (ت 179هـ).

ونشط العلماء في جمع وتدوين أحاديث الرسول ( في القرن الثالث الهجري، ويعد هذا القرن هو القرن الذهبي لتدوين الحديث، فقد ظهر في هذا القرن أصحاب الكتب الستة: ومنها: صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ)، وصحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري
(ت 261هـ)، وقد اتبع هذان العالمان الدقة والأمانة في جمع الأحاديث النبوية، فنالا ثقة المسلمين جميعًا، وأصبح كتاباهما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى.

كما ظهر ما يعرف بكتب السنن، كسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه، كما ظهرت المسانيد، كمسند أحمد بن حنبل، ومسند أبي عوانة، والمستخرجات والمستدركات كمستدرك الحاكم على الصحيحين. كما ظهر علم مصطلح الحديث، وهذا العلم يهتم بمعرفة الحديث الصحيح والحسن من الضعيف والموضوع، كما ظهرت كتب خاصة بالضعيف، وأخرى خاصة بالموضوع.

وظهر أيضًا علم الجرح والتعديل أو علم الرجال، والذي يهتم بدراسة شخصيات الرواة من حيث الثقة والأمانة والكذب والتدليس، وبالجملة من حيث قبول حديث الراوي أو عدم قبوله، وهل هو متروك أم يؤخذ عنه الحديث، وممن كتبوا في هذا العلم الإمام البخاري، فكتب كتاب التاريخ، وكان شيخه على بن محمد المديني قد سبقه في كتاب (علل الرواة)، و(الضعفاء) و(الكبير) للإمام العقيلي، و(تهذيب الكمال) للحافظ المزي، و(ميزان الاعتدال) للذهبي، و(لسان الميزان)، و(تهذيب التهذيب)، و(تقريب التهذيب) للحافظ ابن حجر، وغير ذلك.

وبعد هذه المرحلة تأتي مرحلة الشرح والاختصار لتلك الكتب، فألف العلماء شروحًا لموطأ الإمام مالك كشرح الزرقاني على الموطأ، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، وشرح النووي لصحيح مسلم للنووي، وباقي الكتب الستة، وشرحوا غيرها من كتب الأحاديث الصحيحة، وكان ذلك على يد علماء أفاضل عكفوا على دراسته وكتابته وشرحه.

وقد اهتم العلماء في كل العصور بسنة رسول الله ( حتى عصرنا الحالي. والسنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، الذي تُستمد منه أسس وقواعد الحضارة الإسلامية في كل المجالات.

- علم الفقه:
وهو كما عرفه بعض العلماء الطريق لمعرفة الأحكام الشرعية العملية من خلال الأدلة التفصيلية؛ كمعرفة ما يجب ويحرم، وما يسن وما يندب، وما يكره، من خلال الكتاب والسنة، وما يستنبط منهما.

ولقد حمل الصحابة -رضي الله عنهم- لواء الفقه بعد الرسول ( ، كل واحدٍ منهم في مجاله وفي تخصصه الذي تفوق فيه، فنبغ عبد الله بن عمر في الفقه، وكان معاذ بن جبل أعلم الصحابة بالمواريث، وأسس كل منهم ما يسمى بالمدرسة الفقهية.

وفي المدينة اشتهر عدد من الصحابة المقيمين بها بالإفتاء مثل أبي بكر وعمروعثمان بن عفان وعلي وزيد بن ثابت، ومن النساء عائشة وأم سلمة، وأخذ عن هؤلاء الصحابة عدد من التابعين عُرفوا في المدينة بالفقهاء السبعة، وهم:
عروة بن الزبير (ت 94 هـ) الذي أخذ الفقه عن خالته عائشة زوج النبي صلىالله عليه وسلم، وسعيد بن المسيِّب (ت 94 هـ) وكان زوج ابنة أبي هريرة، وكان يحفظ فتاوى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما-، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (ت 98هـ) وكان ثقة فقيهًا، كثير الحديث والعلم، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث (ت 94 هـ) وكان فقيهًا كثير العبادة، وسليمان بن يسار (ت 107 هـ).

وكان خادم ميمونة بنت الحارث زوج النبي (، والقاسم بن محمد بن أبي بكر (ت 108 هـ) وكانت عمته السيدة عائشة، وكان من الفقهاء الكبار الصالحين الأتقياء، وخارجة بن زيد بن ثابت، وهو ابن الصحابي الجليل زيد بن ثابت الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.

وفي مكة كان زعيم مدرسة الفقه والفتوى الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، الذي دعا له الرسول ( بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، ومن تلاميذ هذه المدرسة مجاهد وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء وطاووس وغيرهم.

وفي الكوفة بـرز من الصحابة عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وعمار بن ياسر وغيرهم -رضي الله عنهم-، ومن تلاميذ هؤلاء الصحابة:

علقمة بن قيس النخعي (ت 62 هـ )، والأسود بن يزيد النخعي (ت 75 هـ)، وشريح بن الحارث القاضي (ت 82 هـ).

وفي البصرة، عاش الصحابي أنس بن مالك مدة من الزمن، وتتلمذ فيها على يده عدد من التابعين مثل الحسن البصري ومحمد بن سيرين مولى أنس بن مالك وغيرهما.

وفي الشام، كان أبو إدريس الخولاني (ت80 هـ)، ومن تلاميذه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وغيرهما.

وأما مصر، فتمتعت بوجود صحابيين جليلين هما عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وعلى أيديهما تخرج يزيد بن حبيب (ت 128 هـ)، وهو أول من تكلم عن الحلال والحرام في مصر بصورة علمية، كذلك ظهر في مصر الفقيه الجليل الليث بن سعد، الذي قيل عنه: كان الليث أفقه من مالك لولا أن أصحابه ضيعوه. يعنى لم يحفظوا فقهه وينشروه كما فعل تلاميذ الأئمة الآخرين.

المذاهب الفقهية الأربعة:
المذهب الحنفي: وهذا المذهب، يعد امتدادًا لمدرسة الصحابي عبد الله بن مسعود في الكوفة، وإمام ذلك المذهب الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (80 -150 هـ).

ومن أشهر تلاميذ أبي حنيفة: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) الذي دَوَّن فقه أستاذه أبي حنيفة في كتب مثل: المبسوط والزيادات والجامع الصغير والكبير.

المذهب المالكي: وهو امتداد لمدرسة المدينة، وينسب إلى الفقيه المدني مالك بن أنس (ت 179 هـ)، وللإمام مالك كتاب الموطأ وهو كتاب حديث مرتب على أبواب الفقه. ومن أشهر تلاميذ المذهب المالكي: عبد الرحمن بن القاسم المصري،

وأسد بن الفرات الذي نشأ في أفريقية، ثم رحل إلى المدينة، وسمع موطأ مالك، وتفقَّه على يد عبد الرحمن بن القاسم في مصر، ونقل مسائل مالك وسجلها في كتاب باسم الأسدية.

المذهب الشافعي: ومؤسسه هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150ـ 204هـ) أحد أئمة الفقه الأعلام، ورحل إلى العراق، وكوَّن هناك مذهبه القديم، وألف في ذلك كتاب الحجة، وأتى الشافعي إلى مصر مرتين، وفي المرة الثانية سنة (199هـ) استقر في مصر، وظل بها حتى مات، وعدَّل في مذهبه تعديلات كثيرة، فأنشأ لنفسه مذهبه الجديد، وكان يقول: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي.

وألف الإمام الشافعي في مصر كتبًا رائعة في الفقه وغيره، منها كتاب الأم، وهو موسوعة فقهيَّة قيمة، ووضع أصول علم جديد، هو علم أصول الفقه، وألف فيه كتاب الرسالة، ومن أشهر تلاميذه: أبو ثور الربيع المرادي (ت 270 هـ)، ويوسف بن يحيى البويطي (ت 231 هـ)، وإسماعيل بن يحيى المُزَني (ت 264 هـ)، ويونس بن عبد الأعلى (ت 264 هـ).

المذهب الحنبلي: وينسب هذا المذهب إلى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني
(164 ـ 241 هـ)، وهو مذهب قائم على الحديث النبوي الشريف، وأفعال الصحابة حيث يقدم الحديث، ويأخذ به وإن كان ضعيفًا يفضله على الأخذ بالرأي (الاجتهاد)، ويأخذ بأقوال الصحابة والتابعين.

ولم يترك الإمام أحمد مؤلفات تعبر عن فقهه لكن تلاميذه نقلوا آراءه الفقهية، فحُفظ بذلك مذهبه من الضياع، ومن تلامذته: صالح بن أحمد بن حنبل (ت 266 هـ) وهو أكبر أولاد الإمام أحمد، ونقل معظم فقه أبيه، وعبد الله بن أحمد بن حنبل(ت 290 هـ) وهو الذي روى مسند أبيه في الحديث، وأبو داود (ت 257 هـ) صاحب كتاب سنن أبي داود، وإبراهيم بن إسحاق الحربي (ت 285 هـ).

وهكذا لعب الفقهاء دورًا هامًّا في ازدهار الحضارة الإسلامية ورقيها، بما قدموا لها من اجتهادات واستنباطات وأحكام للحوادث التي وقعت في عصرهم والتي لم تقع، وتوقعوا إمكان حدوثها في المستقبل، وخاصة في المذهب الحنفي، وهذا من عظمة الفقه الإسلامي.

اللغة والأدب:
ولقد اهتم علماؤنا اهتمامًا عظيمًا باللغة العربية، لأن باقي العلوم الإسلامية تحتاج إلى فهم اللغة العربية فهمًا جيدًا، فاهتم العلماء بدراسة حروف اللغة وخصائص كل حرف، وكيفية النطق به، وأخرجوا علمًا يسمى علم الأصوات، وهو يختص بدراسة حروف اللغة من جميع الجوانب، وتفوق في هذا المجال الخليل بن أحمد الفراهيدي، وابن جني، وغيرهما، ونظروا في الكلمة، من حيث هي اسم أم فعل أم حرف، وتحديد الحروف الزائدة والأصلية في الاسم والفعل، ... إلخ، وتكون من ذلك علم الصرف، وممن كتبوا في علم الصرف العالم اللغوي الشهير سيبويه.

كما نظروا في الكلمات عندما تنضم إلى بعضها، واهتموا بعلاقاتها ببعضها، ومواقعها الإعرابية، وضبط أواخر الكلمات في الجمل بناءً على فهم معنى الجملة، ودرسوا الجمل التي لها محل إعرابي، والتي ليس لها محل إعرابي، فأخرجوا علم النحو، ومن أوائل من ألَّفوا فيه سيبويه، وذلك في كتابه الذي سماه (الكتاب).

وابتكر علماؤنا أيضًا علميْ المعجم والدلالة، حيث يهتم علم المعجم بمعنى الكلمة المفردة، ويهتم علم الدلالة بالأسلوب والجملة، وذلك حسب سياق الكلام.

وهكذا أحاط علماؤنا باللغة من جميع جوانبها، مما رفع شأن اللغة والناطقين بها، وظهر عدد من الأدباء والفصحاء من الشعراء والخطباء فأبدعوا لنا شعرًا رائعًا ونثرًا أمتع العقول والمشاعر والعواطف. واشتهر بعض العلماء في اللغة وآدابها في عدد من بلاد الدولة الإسلامية، ففي مصر؛ أحمد بن جعفر الدينوري المتوفى سنة (289 هـ) والذي ألف كتاب (إصلاح المنطق)، وأبو جعفر النحاس (ت 338 هـ) الذي ألف كتاب (إعراب القرآن)، و(معاني القرآن)، وشرح أبيات سيبويه.

وفي العراق، أبو الفتح عثمان بن جني تلميذ أبي علي الفارسي، وقد درس ابن جني الكتاب لسيبويه، وغيره، ولابن جني مؤلفات عديدة، منها: سر صناعة الإعراب، والخصائص، وقد توفي سنة (392 هـ).
وأبو عبيد القاسم بن سلام الخزاعي (ت 225 هـ)، وله كتب كثيرة منها:
غريب المصنف، وفي معاني الشعر، وغيرهما. وأبو عبدالله الحسين بن خالَوَيْه (ت 370 هـ)، وله كتب كثيرة منها: إعراب ثلاثين سورة، وليس من كلام العرب، والمقصور والممدود. وقد كانت اللغة العربية لغة الحضارة الإسلامية، تعلمها سكان البلاد التي فتحها المسلمون الأوائل، وصارت لغة العلم في كافة الأقطار الإسلامية.

التاريخ:
التاريخ هو ذاكرة الزمن، يحفظ للبشرية حر