المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أصول الفقه وأصل القانون - أوجه الشبه والاختلاف


محمد فراج عبد النعيم
13-07-2011, 11:07 PM
لما كانت الشريعة الإسلامية في كمال تشريعها وملاءمتها لصالح المجتمع البشري وكفالتها بجلب المصالح والمحافظة عليها ودرء المفاسد وسد الذرائع إليها عرضة لمطاعن بعض من كتبوا عنها من المستشرقين الأوربيين وفلاسفة العصر الحديث وكان أول سهم يسددونه إليها أنها جامدة عن مسايرة الزمن قاصرة أحكامها عن تطورات الحوادث والوقائع وأنها لا تفي بحاجة المجتمعات البشرية المتجددة في التشريع والتقنين لا سيما مع التقدم المطرد والتطور المتدارك في أحوال الشعوب وشؤون الأمم وكان الراسخ في عقائدها - معشر المسلمين - وهو الحق اليقين أن شريعتنا الغراء أكمل الشرائع أحكامًا وأوفاها بالحاجة التشريعية نظامًا وأوسعها شرعة لمتقلبات الحوادث على مختلف الأزمان في متباين الآفاق والبلدان، كان علينا أن نبين كيف تساير شريعتنا الزمان ولا تضيق بالتطورات الاجتماعية لندحض حجة المعاندين ونقضي على دعوى الطاعنين، وتظفر شريعتنا على خصومها المبطلين، فلم أجد سبيلاً إلى ذلك خيرًا وأقوم ولا حجة أقوى وبرهانًا أدحض من استنزال أصولها ومبادئها إلى أصول القوانين الوضعية وقواعدها في ميدان البحث والمقابلة والموازنة والمفاضلة، عل الله يوفقني وهو ولي التوفيق والسداد إلى تبيان أن ما اتفق عليه التشريعان الوضعي والسماوي من المبادئ العامة والقواعد الكلية كانت الشريعة الإسلامية إليه أسبق وأن ما اختلفا فيه من ذلك كانت الشريعة فيه أحكم وأقوم.
وقد سلكت هذا المسلك في مباحثي السابقة بين مبادئ الشريعة ومبادئ القانون وأريد في هذا المبحث أن أعقد الموازنة بينهما باعتبارهما علمين من العلوم ذات القواعد والتصانيف أي أردت أن أرجع إلى ذات العلمين ونفسيهما ببيان المقارنة والمفارقة بينهما فأقول:
لا نعرف أصول الفقه من حيث اعتبارها علمًا مصطلحًا عليه مدونًا فيه الكتب التي نعرفها إلا من ناحية القدر المشترك بينها وبين أصول القوانين فإن ذلك ما نحن بصدده من هذا البحث فنقول:
هي القواعد العامة التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية وإلى كيفية الاستنباط والاستفادة من هذه الأدلة - أما بيان حالة المستفيد المذكور في تعاريف الأصوليين - فليس مما يعنينا في هذا البحث وذلك أن الدليل الشرعي قسمان:
1 - إجمالي.
2 - تفصيلي.
1 - فالإجمالي هو: الكلي الذي يصدق على أدلة كثيرة كالأمر والنهي والخاص والعام والمطلق والمقيد والنسخ والتخصيص.
2 - والتفصيلي هو: جزئي هذا الدليل الإجمالي تعالى (وأقيموا الصلاة)، وكذلك قوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم) من جزئيات الأمر وكقوله تعالى (ولا تقربوا الزنى) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) من جزئيات النهي، وهذه الأدلة الإجمالية هي مناط بحثنا مضافًا إليها مبادئ الشريعة وكلياتها العامة المأخوذة من علل الأحكام وأغراضها ومراميها الدائرة على مصالح العباد الدنيوية والأخروية وجميعها مندرج تحت اسم (أصول الفقه الإسلامي) لا بمعناها الفني عند علماء الأصول بل بالمعنى الأعم من ذلك.
وهذه القواعد العامة والأدلة الإجمالية تنتظم كل مذهب من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المجتهدين كسفيان الثوري والأوزاعي والليث وابن أبي ليلى وابن شبرمة فكل منهم قد توصل بقواعد هذا العلم إلى استنباط الأحكام التي اجتهدوا فيها فمثلاً الأمر والنهي والعموم والخصوص والتخصيص والنسخ وغير ذلك من قواعده كانت موضع النظر ومناط الاعتبار عند هؤلاء الأئمة في استخراج الأحكام الفقهية من طريق الاجتهاد وإن كان منهم من كان عصره قبل تدوين هذا العلم كسفيان الثوري وأبي حنيفة فإن هذا العلم قبل أن يدون كانت قواعده ومباحثه معلومة لدى المجتهد وكانت نصب عينيه في استنباط الأحكام.
وأما علم أصول القوانين فإنه يبحث عن القواعد العامة المشتركة بين جميع القوانين الوضعية في الأمم المتمدنة ومن تلك القواعد النظريات التي ينبني عليها تشريع قوانين كنظريات (جان جاك روسو) الفرنسي و(بنتام) الإنكليزي و(كانت) الألماني فإن لهذه النظريات آثارها في القوانين الجنائية في سائر الدول - ومنها النظريات التي لا ينبني عليها تشريع قوانين ولكنها تعرف ماهية من الماهيات أو حقيقة من الحقائق المشتركة بين سائر القوانين الوضعية كنظرية (أوستن) الإنكليزي ونظرية (سارفيني) الألماني في تعريف ماهيات القانون وهل هو نتيجة التطور الاجتماعي كرأي الثاني أو هو أمر من الحاكم يلزم الناس باتباعه كرأي الأول.
مواضع الاتفاق بين العلمين:
1 - أن كلاً منهما يبحث في قواعد عامة.
2 - أن هذه القواعد العامة مشتركة بين فروع مختلفة فقواعد أصول الفقه مشتركة بين جميع مذاهب الفقهاء والمجتهدين وقواعد أصول القوانين مشتركة بين جميع القوانين الوضعية في الأمم المختلفة.
3 - أن كلاً منهما يبحث في القواعد الإجمالية دون التعرض للأدلة التفصيلية فعلم أصول الفقه لا يبحث في الأدلة التفصيلية لمذهب بخصوصه من مذاهب المجتهدين إلا عرضًا واستكمالاً لبحث القواعد العامة، وعلم أصول القوانين لا يتعرض لبحث الملكية مثلاً وطرق انتقالها في قانون دولة خاصة بل من حيث المبادئ العامة للقوانين الوضعية المختلفة ولا يعرج على قانون خاص إلا استكمالاً للبحث في المبدأ العام وفي مقام الاستشهاد والتمثيل.
مواضع افتراقهما:
1 - أن المبادئ العامة والأصول الكلية في الشريعة الإسلامية مستنبطة من نصوصها وأحكامها التي ترجع إلى أصول أربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس ويدخل في هذه الأصول الاستصحاب الذي تقول به الشافعية والاستحسان عند الحنفية والمصالح المرسلة عند الإمام مالك: أما الاستصحاب فليس إلا الاستدلال بالوجود على البقاء فالوجود إن كان ثابتًا بأحد الأصول الأربعة فهو معتبر وإلا فلا اعتبار به - وأما الاستحسان فإنما هو الاستدلال بقياس خفي في مقابلة قياس جلي فهو راجع إلى القياس - وكذلك المصالح المرسلة راجعة إلى القياس المرسل الغريب وهو ترتيب الحكم على وصف لم يعلم من الشارع اعتباره ولا إلغاؤه ولم يعلم من الشارع ترتيب الحكم عليه ولكن وجد في ترتبه عليه مصلحة يؤخذ من قواعد الدين ونواميسه اعتبارها والسياسة الشرعية نوع منها كما أوضحنا من قبل في أحد مباحثنا السابقة.
ولا تتعدى أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها هذه الأصول الأربعة ولا يجوز إنشاء قاعدة شرعية أو ابتداع أصل في الشريعة لا يرجع إلى هذه الأصول ولا يستنبط منها لأن هذا الأصل المنشأ إذا لم يرجع إلى أصول الشريعة المعروفة وإنما يستقل به العقل وحده والعقل لا يستأثر شرعًا بإثبات الأحكام الشرعية فكيف بقواعدها الكلية.
أما أصول القوانين فهي مبادئ لا ترجع إلى أصول محصورة وإن كانت مأخوذة من روح التشريع الوضعي وتتبع القوانين المختلفة في الممالك المتمدينة ويجوز إنشاء مبدأ في القانون أو ابتداع قاعدة بمحض العقل دون أن يكونا راجعين إلى المبادئ القانونية السابقة فليس لها أصول تشريعية بمعنى مبادئ وكليات تكون ضوابط لكل ما يشرع منها وإن كان لها أصول بمعنى مصادر تاريخية كالشريعة الإسلامية والقانون الروماني والشريعة الإنكليزية فإن هذه الشرائع الثلاث أصل لمعظم القوانين الوضعية.
وميزة الشريعة الإسلامية في هذا أن التشريع الإلهي العادل الحكيم يسيطر على كل ما يشرع لبني البشر في الأزمة المختلفة والأمم المتباينة من أي طريق من طرق الأصول الأربعة الشرعية بخلاف القانون الوضعي الذي يستأثر به العقل وحده فقد تغلب على تشريعه الشهوات النفسية أو النزوات العقلية وليس في مأمن من حيف الأهواء المحضة.
2 - أن المبادئ القانونية ضيقة الدائرة يراعي في وضعها زمان خاص وأحوال معينة بل هي وليدة زمانها ونتيجة الارتقاء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في البلاد والممالك التي بتشريعها، بخلاف كليات الشريعة الإسلامية الغراء فإنها تتسع لكل زمان ومكان ولا تضيق بالحوادث والأزمان لاتساع دائرتها يوعد متناولها وعموم اشتمالها.
3 - إن أصول القوانين قابلة للنسخ والتغيير والمحو والإثبات خاضعة في ذلك للتطورات الزمانية والمكانية أما أصول الشريعة الإسلامية فقد فرغ من محو ما انمحى منها وإثبات ما أثبت حتى استقرت في مقارها وألقت عصا تسيارها فما نسخ منها قد نسخ في زمن نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تقبل محوًا ولا إثباتًا بعد ما ورد به الكتاب وأتت به السنة أو تقرر بالإجماع أو القياس اللهم إلا أن يستنبط مجتهد حكمًا لم ينص عليه بالفهم من الكتاب أو السنة أو الرجوع إلى إجماع أو القياس على منصوص عليه وذلك إظهار للحكم لا إثبات له من جديد وهو معنى قول الإمام علي كرم الله وجهه لمن سأله هل بعد كتاب الله وسنة رسوله شيء قال: لا إلا أن يلهم الله عبدًا فهمًا في القرآن - والدليل على أن الشريعة غير قابلة للنسخ بعد الوحي أن النسخ لا يكون إلا بوحي وقد انقطع الوحي بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن النسخ بعده ينافي كمال الشريعة الثابت بقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) إلى الأصول والكليات وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (تركت فيكم من أن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي).