المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم كما يراها العلماء


محمد فراج عبد النعيم
18-09-2011, 08:08 PM
أوصاف الخطابي لكلامه صلى الله عليه وسلم
للخطابي نصوص يتحدث فيها عن البلاغة النبوية , وضعها ضمن مقدمة كتابه غريب الحديث تحت عنوان ذكر فصاحة الرسول  وما يؤثر من حسن بيانه , فيذكر أهم سمات أسلوبه , ثم يذكر ضروبا من حسن بيانه , وواضح أن كلامه هذا عطاء عقلية صافية عايشت كلام سيد البشر ووعته ,وأجالت النظر فيه فبصرت حسنه وبلاغته عن قرب , ولا شك أنه جزء من صبابة القول التي كان فيها متبرض . على حد عبارته , ولولا تعجل أهل العلم على تحصيل فائدة هذا الكتاب لرأينا ضروبا كثيرة لبيان رسول الله  هي ثمرة الأناة وتلوم النظر واستيفاء الملاحظة كما يقول .
وتتسم دراسته بالاهتمام بالناحية التطبيقية يذكر كل نوع واتباعه بالشاهد والمثل , يقول في أول كلامه عن بلاغة الرسول : ( إن الله عزوجل لما وضع رسوله موضع البلاغ في وحيه ونصبه منصب البيان لدينه اختار له من اللغات أعربها , ومن الألسن أفصحها وأبينها ليباشر في لباسه مشاهد التبليغ , وينبذ القول بأوكد البيـان والتعريف) .
يؤكد الخطابي أن البيان ضرورة للأنبياء حتى يبلغوا وحي الله , ويتمكنوا من الإقناع وإقامة الحجج والبراهين , وكأنه يستوحي كلام سيدنا موسى  حين أمره الله بدعوة فرعون ( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) وذلك حين عيره فرعون بأنه لا يكاد يبين وقد أرسل  للعرب وهم في الذروة من البيان , إذ لا يذعنون لعيي ولا بكى , ولم يسودوا عليهم إلا ذا بيان وفصاحة وحكمة , لأن حسن البيان كان مرتبطا عندهم بقوة العقل , وإحكام المنطق , والشرف والسؤدد , وقد فاقهم رسول الله مع ذلك فصاحة وبيانا , فالله قد اختار له أحسن لغة وأنصع لغة , لغة قريش التي تمخضت فيها محاسن الكلام , حيث كانت قريش القطب الذي يلتقي عنده الفصحاء والخطباء والشعراء من القبائل , فيتركون لها أنصع ما في بيانهم وأحسن ما في لهجاتهم لتصيرا جزءا من هذه اللغة التي عذبت على الألسن , ورقت على الأذواق , وحسنت في الأسماع فبلغت أعلى مراتب الرقي اللغوي , فعقدها الله على لسان نبيه , ففاقهم بلاغة وبيانا .
ثم يتحدث الخطابي عما خص الله نبيه من هذه اللغة فيقول ( ثم أمده بجوامع الكلم التي جعلها ردءا لنبوته وعلما لرسالته لبنتظم في القليل منها علم الكثير فيسهل على السامعين حفظه ولا يؤودهم حمله .)
يشير الخطابي إلى أن بلاغة النبي  المتمثلة في جوامع الكم هي إلهام ومدد من الله تقدم علما غزيرا وكثيرا في ألفاظ يسيره .
ويعتبر الخطابي هذه الجوامع علما لرسالته  في قوله : ( ردءا لنبوته وعلما لرسالته ) وعلم الرسالة يعني دلالة النبوة الذي لا بد أن يكون أمرا إلهيا يجريه الله على يد نبيه فيؤمن عليه الناس كمعجزات الرسول الأخرى , ونحن لانكاد نعتبر جوامع الكلم من دلائل النبوة , وكأن الخطابي نظر في ذلك إلى قوله  "أدبني ربي فأحسن تأديبي" فقد أسند أدبه إلى الله , وقال  أيضا " أوتيت جوامع الكلم " أي أنها عطاء من الله , وهذا شي وعلم الرسالة شي آخر , لأنني لم أعرف أحدا من علمائنا جعل حسن بيانه وجوامع كلمه من آيات نبوته .
ثم يقف الخطابي عند هذه الجوامع بعد أن عرّفها وبين قيمتها في أداء الرسالة فيقسمها فيقول ( ومن تتبع هذه الجوامع من كلامه لم يعدم بيانها , وقد وصفت منها ضروبا وكتبت لك من أمثلتها حروفا تدل على ما وراءها من نظائرها وأخواتها .)
فإدراك الجوامع في كلامه مما لا يخفى على من نظر إليها في بيانه الشريف صلوات الله عليه ؛ لأنهاكما قلنا تغلب على كلامه كله , وقد اعتبر الخطابي هذه الجوامع ضروبا كثيرة كل ضرب يدخل تحت غرض تشريعي خاص , وكانت طريقته في التقسيم أنه يورد الغرض التشريعي ثم يتبعه بالشاهد والمثل ليدل على نظيره وشبيهه .
ويذكر الخطابي ضربين منها لتدل على ماوراءها من نظائرها وأخواتها كما يقول , "فالضرب الأول في القضايا والأحكام , قال رسول الله  ( المؤمنون تكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ) وقوله ( المنيحة مردودة والعارية مؤداة والدين مقضي والزعيم غارم )
وهذان الحديثان يحملان عامة أحكام الأنفس والأموال , وهذه الأحكام من أوسع أبواب التشريع الإسلامي التي تتعدد مناحيها وتتفرع أنواعه , تأمل كل جملة من هذه الجمل ,وانظر إلى ما وراءها من معان متسعة , ثم تأمل إحكام بنائها وضبط مدلولها , ثم تأمل تقسيمها وتناسقها فكل واحدة مساوية للأخرى أو تكاد . ومنها ما هو جامع لأمر الدنيا والآخرة كقوله  ( سلوا الله اليقين والعافية ) يقول الخطابي "فتأمل هذه الوصية الجامعة تجدها محيطة بخيري الدنيا والآخرة , وذلك أن ملاك أمر الآخرة اليقين وملاك الدنيا العافية , فكل طاعة لا يقين معها هدر , وكل نعمة لم تصحبها العافية كدر ) .
فالخطابي بنظره الثاقب فطن إلى قدرة الكلمات على حمل المعاني في التراكيب والوفاء بأدق دقائقها وخصوصياتها , وكان ينبه قارئه إلى النظر وتدبر المعاني , انظر إليه وهو يقول ( فتأمل هذه الوصية الجامعة ) والخطابي هنا يفتح بابا لدراسة الإيجاز في بيانه  فنجمع فيه جوامع كلمه  ونضعها تحت أبواب التشريع المختلفة , وبذلك تتجمع لنا عدة تراكيب تجمل غرضا واحد وتعبر عنه بطرق شتى , نلمح من خلالها طاقات هذه التراكيب في التعبير عن الغرض الواحد , وكأن الخطابي وهو يتحدث عن كثر الجوامع في كلامه  يشير من جانب خفي , وهو أن الإيجاز كان من طبع كلامه  وأن هذا الطبع كان يواتيه أبدا وإن اختلفت المقاصد والمرامي , وعلى مقدار واحد من القوة والبيان , وهذا على غير ما عليه أهل البيان , فإنهم يحكمون بيانهم في باب دون باب ولكل واحد منهم ميدان تقوى فيه ملكته ويتوفر حسه فيه فإذا انتقل إلى ميدان آخر تعثرت خطاه وجانبه الزلل , ثم يذكر الخطابي ضربا آخر من ضروب فصاحته انفرد بها من بين العرب لا نجد مثلها في كلام السابقين وهي قدرته على الاشتقاق في اللغة . يقول الخطابي ( ومن فصاحته وحسن بيانه أنه قد تكلم بألفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله ولم توجد في متقدم كلامها كقوله "مات حتف أنفه" وقوله "حمى الوطيس" )
وتشقيق مثل هذه التراكيب من اللغة منزلة لا يبلغها إلا من لانت له اللغة وكان من العرب الصرحاء , وهذه قضية قديمة توقفت بنزول القران الكريم والسنة النبوية المطهرة , وقد بهر العرب بهذه القدرة العجيبة وهم يرون رسول الله يضع ما يشاء من تراكيب ومفردات تفرد هو في وضعها .
ولم يقتصر وصفه  للتراكيب بل اشتق مفردات لم تعرف من قبل كالمصطلحات الشرعية , وظلت هذه التراكيب وحيدة نسجها منذ ذلك العهد تجري مجرى الأمثال .ويظهر أن الخطابي تأثر بالجاحظ في قوله هذا , لأن الجاحظ قال ( سنذكر من كلام رسول الله  مالم يسبقه إليه عربي ولا شاركه أعجمي ولم يدع لأحد ولا ادعاه أحد مما صار مستعملا ومثلا سائرا ) . وهذا مضمون كلام الخطابي وهو في النهاية راجع إلى ملاحظة على كرم الله وجهه , وهذه التراكيب تحتاج إلى جمع ودارسة بيانية تكشف عن قدرته على إبداع مثل هذه التراكيب وأثرها في إثراء معجم العربية . ويذكر الخطابي أن من فصاحته وسعة بيانه وجود الغريب الوحشي الذي يعيا به قومه وأصحابه وعامتهم عرب صرحاء لسانهم لسانه ودارهم داره .
ويضرب أمثلة على ذلك منها ( أن رجلا قال يا رسول الله من أهل النار ؟ قال : كل قعبري قال يا رسول الله : وما القعبري ؟ قال : الشديد على الأهل الشديد على العشيرة الشديد على الصاحب ) وقول الخطابي يوجد في كلامه الغريب الوحشي قد يبدو متناقضا مع قول الجاحظ وهجر الغريب الوحشي وليس كذلك ؛ لأن مقياس الغرابة ليس ثابتا وليس مردودا في كل حال ؛ لأن الغريب قد يطلق على الكلمات التي لا تظهر معناها إلا بالرجوع إلى أمهات كتب اللغة , وقد يطلق على ما غرب من لهجات القبائل , أو على الكلمات التي تبدو فصيحة في عصرها غريبة في العصور الأخرى كبعض ألفاظ الشعر الجاهلي , ويطلق على الألفاظ التي يقل دورانها في بيئة فكرية كما في شعر المعري ونثره , ويدخل تحت هذا النوع غريب القران الكريم والحديث النبوي الشريف .
فالغرابة عند الجاحظ هي التي تخل بالفصاحة , وحين تقع في كلام البلغاء تدل على التكلف وقساوة الطبع , وهي الألفاظ التي أهملت , أما غريب الخطابي فهو ما يعيا به قومه ولا يكون مخلا بالفصاحة وإنما هو من أماراتها , وقول الرسول السابق يدخل تحت علمه بلهجات القبائل , وعلمه بأصول لغة قريش وحركلامها كما يدل على قدرته على وضع مفردات في اللغة لا عهد لهم بها .
ثم يذكر الخطابي ضربا أخيرا لحسن بيانه وهو ترتيب الكلام وتنزيله منازله , من ذلك حديث البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى النبي  فقال : علمني عملا يدخلني الجنة قال : اعتق النسمة وفك الرقبة , قال أوليسا واحدا ؟ قال : لا , عتق النسمة أن تفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها .
وقذ تحدث الخطابي عن هذا الوجه في كتابه ( البيان وإعجاز القران ) وهو يبحث عن وجوه إعجاز القران وسماه عمود البلاغة وعرفه بقوله ( ثم اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشمل عليها فضول الكلام موضعه الأخص الأشكل به , الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام , وإما ذهاب الرونق الذي يكون منه سقوط البلاغة ) .
ثم ذكر هذا الحديث من بين ما ذكره , وهذا يقع في الألفاظ التي تبدو أن معانيها واحدة وعند التدقيق في أصول المعنى يظهر أن لكل لفظ معنى خاصا به , وهو يلتبس على أكثر أهل اللغة , كهذا الأعرابي القح , ففرق بين الحمد والشكر , وبين البخل والشح , والعلم والمعرفة , مع أن اللفظتين تشتركان في معنى عام إلا أن لكل كلمة دقائقها ومعانيها الخاصة , "فعتق الرقبة وفك النسمة" تطلقان عامة على التحرير من الرق , وهذا ما فهمه الأعرابي إلا أنهما يختلفان من حيث الدلالة الخاصة لكل منهما وهكذا تتمايز ألفاظ اللغة , فالعون على تحرير الرقبة غير الإنفراد بفكها ولكل مرتبة وثواب بحسب اختلافهما .
يقول الخطابي بعد أن ذكر الحديث ( فتأمل كيف رتب الكلاميين واقتضى من كل واحد منهما أخص البيانين فيما وضع له من المعنى وضمنه من المراد) . فالكلام قد رتب حسب معانيه مع اختلافها .
وانظر إلى الخطابي وهو يقول ( تأمل ) وكأن هذا الباب لا يتأتى ولا يفطن إليه إلا بالتأمل والنظر حتى تتضح الرؤيا وتظهر الفروق , فنضع اليد على عمود البلاغة . والبحث في فروق ألفاظ اللغة من أجل البحوث اللغوية البلاغية .
والنوع الثاني من هذا الضرب الذي تحدث عنه الخطابي هو تنزيل الكلام منازله , أي ترتيبه على وجه يحصل به دقة المعنى من ذلك قوله  ( نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها ) فالرسول عليه السلام قد نسق المعاني وأنزل الكلمات والألفاظ منازلها عالما بالفروق الدقيقة بين الكلمات في الحديث وأسرار ترتيبها على وجه يحسن به المعنى .
يقول الخطابي ( فتأمل كيف رتب الوعي على الحفظ فاشترط الحفظ أولا ثم تلقف ألفاظها وجمعها في صدره ثم أمره بالوعي وهو مراقبته إياها بالتذكر وتخولها بالرعاية والاستصحاب لها إلى أن يؤديها فيخرج من العهدة فيها )
وفي قوله "وعاها وأداها" ترتيب فالحفظ أولا ثم الوعي ثم الأداء , وفرق بين حفظ حقائق المعرفة وبين وعيها , والحفظ يعني تحصيل الحقائق في الصدر , ثم تأتي مرحلة الوعي أي التأمل لهذه الحقائق واستبطان معانيها في النفس واستخراج خبائها , ثم تأتي مرحلة الأداء أي تعليمها للناس بعد وعيها لتثمر وتؤتى خيراتها , فالحديث قد نزل منازله وتم نسقه فأدى المعنى .
وهكذا نحد الخطابي يلفتنا إلى خصائص في البيان النبوي تفرد بها وخصت به فيرى أنها كثيرة لا يحاط بها , وما ذكره كان بعضا منها , فذكر أكثرها أهمية وبروزا في كلامه  ولو أنه توسع فيها لوجدنا خيرا كثيرا .