المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة كنعان


محمد فراج عبد النعيم
12-10-2011, 08:04 PM
يتقلب (كنعان) قلقاً في صلب أبيه، لا يهدأ له حال، كثير الرحلة، مشوش البال، يهدر الصمت في جوفه، صرخاته تتمدد على حساب صمته فينقلب عليها الصمت ليلفها في غطاء سميك!.

يفرح بالنور ينبعث من عمق ذاك المضيق الممتد، فتشرق بسمته أملاً في امتداد الضوء ليعم المكان، ولكن أمراً ما لا يفقهه (كنعان) يُلجئ النور إلى نقطة ضيقة، حوافها عالية جداً كأنما دقها رأس مسمار تعمق بداخلها فتجوفت وتجوف معها النور، وسرعان ما تنبت له أصابع منمنمة تتلمس جدار بئر المسمار فتصعد إلى الأعلى لكنها تعود وقد أدمتها أحذية الجنود، تدوسها فتسحق نضرتها لتنسحب إلى الداخل، وتترك بصمات الدماء لتجف للمرة الألف على حافة البئر!.

تنهد (كنعان) فأحرقت تنهيدته جوفه فاشتعل ونفث لسان لهبٍ! وقال منادياً نقطة الضوء:

متى تكبرين؟ بل متى تستطعين..؟

ردت عليه (نقطة الضوء): آه آه... أحتاج إلى مساعدة منك ومن أمثالك حتى أستطيع وأنطلق فأكبر، فمتى تتحركون؟

قال: نموج ليل نهار منذ أن أوجدنا الله نبحث عن مخرج ولا نستطيع... ويقتلنا الانتظار..

(نقطة الضوء): لا أصدق، أظنكم نسيتم من أنتم؟ وإلى من تنسبون؟ وما الدور الذي ينتظركم؟ أيشغلكم عالم اللازمن الذي تحييونه لاهين؟

قال (كنعان): ويلكِ! من قال أنَّا نعيش خارج الزمن؟ نحن نتغذى عليه لا لنلوكه أو نجتره، بل نبتلعه ويبتلعنا في دورة لا تنتهي أبداً حتى تُسلمنا الأصلاب إلى القرار المكين! فإذا قذفت بنا الأمهات تسابقنا! ميداننا ما بين السماء والأرض، رماحنا.. نظراتنا نسددها لصدر العدو، كلماتنا.. قذائفنا نسقطها على رأسه، عشقنا الأرض وشجرة الزيتون، ترنيمتنا صوت المؤذن، وعيوننا على حرم وقبة على صخرة، أما صلواتنا فإسراء نبي ومعراج إلى سدرة المنتهى.

أتعلمين؟ أنا الآن أقلب بين يدي حجر.. وأخي يصنع مقلاعاً .. أما أختي فتنسج خيمة وكفن وراية خضراء لمن انتصر!. أخبرك سراً ولا تبوحين..!؟

قالت: نعم.

- أقسمي.

أقسم بالنور خالق الظلمات، إلهي الذي لا تغشاه الظلمات، القادر على إخراجي من جوف هذا البئر بأن لا أفشي لك سراً.

- صدقتِ ، فأصغي:

..بالأمس سمعت أبي ورجالا آخرين يتفقون على عملية فدائية يختطفون فيها بعض جنود العدو ليتبادلوهم مع بعض أسرانا، وأخرج أبي من جيبه الذي على قلبه محفظته القديمة التي ورثها عن جده والتي رُسمت عليها خارطة أرضنا المقدسة يتوسطها هلال.

أخرج منها مصحفاً صغير الحجم لونه أخضر وعليه بقعة من دم جدي حين قتله الأعداء؛ ليقسموا عليه بأن يتوحدوا ولا يتفرقوا أبداً مهما اختلفوا، فنشطت وإخوتي وتمنيت لو شاركتهم هذه العملية!

هل تعلمين أن هذه المحفظة تتوارثها عائلتنا من جيل إلى جيل، وإني أنتظر اليوم الذي أخرج فيه إلى الحياة، وإذا كبرت فستكون لي بإذن الله.

تحدرت الدموع بغزارة من أشعة نقطة الضوء، تنسكب دفءًا وحنينا، وتمتمت بحمد لله وهي تسمع سر (كنعان)، ثم رفعت صوتها: خاب ظن العدو فينا!

قال ذات مرة موقناً:

- يموت الكبار وينسى الصغار وتندثر القضية، ولكن الأيام أثبتت أنه يموت الصغار على ما مات عليه الكبار.