المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اعف عمن أساء إليك


محمد فراج عبد النعيم
26-12-2011, 02:36 AM
تذكر قول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}.
وها هو النبيّ القدوة يضرب أروع الأمثال في العفو، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "قد لقيت من قومي وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرية الثعالب فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت منهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا"، (رواه البخاري ومسلم). ومن صفحات عفوه صلى الله عليه وسلم عفوه عمن أساء إليه، فعن أنس قال: كنت أمشي مع رسول الله وعليه بُرْد نَجْرَانِي غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجَبَذَهُ بردائه جَبْذَة شديدة، فنظرت إلى صَفْحَة عاتِق النبي وقد أثّرت به حاشية الرداء من شدة الجَبْذَة، ثم قال: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت النبي إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء. أخرجه البخاري.
أمّا عفوه عن خادمه، فيقول أنس بن مالك: خدمت النبي عشر سنين، فما قال لي قط لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ رواه مسلم.
فهذا رسول الله طيلة عشر سنين لم يؤاخذ أنسًا على خطأ فعله، حتى إن أنسًا ـ كما ورد في روايات صحيحة ـ طلب منه رسول الله فعل شيء فأقسم أنس أن لا يفعله، ومع ذلك لم يعنّفه رسول الله، ولم يعاقبه، بل طلب منه برفق في وقت آخر ففعله . وعن ابن عمر قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، ثم أعاد عليه الكلام، قال : "اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة"، رواه أبو داود وصحّحه الألباني.


وتذكر أخي الحبيب :



إنَّ العفو عن الآخرين ليس بالأمرِ الهيِّن؛ إذ له في النّفسِ ثِقلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقامِ للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس ورغباتها وإن كانت حقًّا لهم يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}، غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات. ومِن هنا يأتي التميُّز والبراز عن العُموم، وهذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين وغيرهما عن النبي، وقد أخرج الإمام أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ : {من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء}.
وقد كان الفضيل بنُ عياض رحمه الله يقول: إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان.

فسلامة صدرِ المرء وخُلوّ نفسِه من نزعةِ الانتصار للنَّفس والتشَفِّي لحظوظِها، لهي سِمَة المؤمن الصالح الهيّن اللَّيِّن الذي لا غلَّ فيه ولا حسَد، يؤثر حقَّ الآخرين على حقِّه، ويعلم أنَّ الحياةَ دارُ ممرٍّ وليسَت دار مَقرٍّ؛ إذ ما حاجةُ الدنيا في مفهومه إن لم تكُن موصِلَةً إلى الآخرة ؟!
وما أكثَرَ الذين يبحَثون عن مصادرِ العزِّة وسبُلها والتنقيب عنها يمنةً ويَسرةً والتطلُّع إلى الاصطباغِ بها أو بشيءٍ منها مهما بلَغ الجَهدُ في تحصيلها، مع كثرَتِها وتنوُّع ضُروبها، غيرَ أنَّ ثمَّةَ مصدرًا عظيمًا من مصادرِ العزَّة يغفل عنه جلُّ النّاس مع سهولَتِه وقلَّة المؤونةِ في تحصيله؛ إنما مفتاحُه شيءٌ من قوَّةِ الإرادة وزمِّ النفسِ عن استِتمامِ حظوظها واستيفاءِ كلِّ حقوقِها، يتمثَّل هذا المفتاحُ في تصفِيَة القلب من شواغلِ حظوظ الذّات وحبِّ الأخذ دون الإعطاءِ.
وعن ذلك المعنى يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم "ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه" رواه مسلم، وفي لفظٍ لأحمد: "ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره".
وقد وعد الله المتَّصفِين بها بقولِه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ}