المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خلفية التعامل مع المسن في الغرب وفي الإسلام .


عبد الرحمان
01-08-2009, 06:24 AM
في مقال للدكتور الفاضل راغب السرجاني تحت عنوان : البعد الإنساني للطب عند المسلمين ، لفت انتباهي مجموعة من اللطائف التي استعرضها هـذا المؤرخ الجليل في استشراف وسخاء نفسي لايشبههما غير حب الإسلام ذاته ، ولست هنا
بصدد التعليق على المقال إذ أن ما جاء فيه يعبر عن العمق الوجداني والحضاري لماهية الإسلام أفضـل مـن أي تعقيـب . بيد أن مـا أروم التطـرق إليـه هـو جانب المقارنة ، ليس بين المستشفيات الإسلامية والمشافـي الأوروبية ، ولكن بين خلفيات سلـوك العنايـة الطبية بالمريض لدى الطرفين انطلاقا من نموذج واحد ومحصور وهو نموذج المسنين .
وأول ما أبدأ به قول الدكتور راغب: ( فبمجرد دخول المريض للمستشفى يُفحص أولاً بالقاعة الخارجية، فإن كان به مرض خفيف يُكتب له العلاج، ويُصرف من صيدلية المستشفى..) هذا شاهد على أن المال المخصص للمستشفيات كان في المتناول ومستقلا ووفيرا ، وأن البيت المسلم كان مكملا أساسيا لدور المستشفى خاصة في علاج المسنين ، وقد اجتمع للمسن في الإسلام دفاءة حضن الأبناء وحضن المجتمع بفضل الوصية بالوالديـن والرحـم وبالجيـرة وعيـادة
المريض : و في المقلب الآخر لصورة المقارنة ، سنلفي الغرب ينفي مرضاه إلى الملاجـئ ، أما حيـن يمرضون وينقلون إلـى المشفـى فإنهم رغم ما يجدونه مـن عناية لايشعـرون بالرضـى لأنهم يفقدون هنالك الإحساس بدفء الأسـرة و يعانون كثيرا مـن تلاشي أهمية الذات1 . وكل ما يبذله الممرضون مـن عناية لأجلهم سرعـان ما يفقـد طعمه لمجرد التفكير فـي كون ذلك الجهد إنما هـو ناجم عـن موظفين غرباء يؤدون عملهم خوفا على وظيفتهم أو لأداء الواجب ، أو مـن باب الإنسانية والشفقة في أحسن الأحوال . ومن الصور التـي تجلـي مأساة المسنين ، أن يعالج الممـرض في حالات معينة- وإن ندُرت- أمه أوأباه فـي المشفى الذي يعمل فيه !
إن ما أقصده مـن هذه المقارنة ليس هو تحصيل النتائج ، ولكن أصول النتائج أستهدف ، إذ أن الأساس هو الخلفية التـي تتحكم فـي هذه الوضعية وأشباهها فـي الغرب . ولست هنا بصدد تشويه صورة الغرب إذ أن وضعنا أسوأ، ولكنني
أسوأ ، و لكنني منصرف إلى قراءة الأسباب ، فالمتأمل في المجتمعات الغربية لابد أن يخلص إلـى أن الثورة الصناعية أنتجت أوضاعا لم تكن فـي الحسبان خاصة خلال نهاية القرن التاسع عشـر ، ومـن هذه الأوضاع انفجار الأسر الممتـدة وظهور الأسرة التواة بعـد ان تكرس عامل الهجـرة القروية منذ زمن وانكسر التساكن بين الأجيال وبرز عامل تفرق الأبناء . والضحية الأولى لهذا التفاعل غير الطبعي كانت هـي شريحة المسنيـن ، حيث أجبرالإيقاع القاسـي الذي فرضـه الاقتصاد الصناعي على الأبناء التخلي عـن الآباء . فظهرالعجزة المشردون فجأة ممـا اضطرالراهبات " الصغيرات "1 إلـى فتح المئات مـن منازل الاستقبـال ، و انتشرت مشافي الرعاية الصحية التـي رفعت سقف الأعمار إلى السبعين لتبرير الإغاثة وللحد من نطاق العملية . وقامت المؤسسات الخاصة والبلديات والكنائس بتفريق الأكل والوقود والنقود على الطاعنين في السن2.
والغريب اللافت انـه رغم تفاقم مأساة المسنين فقد انطلق أصحاب القرار، أي : الدولة ، فـي معالجة الأزمة مـن منظور رأسمالـي بحت . ذلك أن هاجس الرأسمالية الذي لا يكاد يفارقها هو الخوف ، الخوف من الفقر ومن الأمراض لما لها من عواقب علـى الإنتاج ، والخوف مـن عواقب الحروب عليها وليس مـن الحروب ذاتـها ، ولا ننسـى هنا أيضا تأثيرالمآسي التي سجلتها الذاكرة الغربية خلال الحرب العالمية الثانية .
لقد ابتدعت الدول الغربية نظام التأمين الحمائيعلى قاعدة الادخاروالإعانات في نهاية القرن التاسع عشر ، وفي 30 أبريل 1930 م جاءت فرنسا بقانون نظام المعاشات ، ولكن المشروعين كانا بطيأين لأنهما أسسا على رأس المال3 رغم أن أزمة المسنين إنسانية تقتضي الاستعجال .
كان لابد للمسنين ، من انتظارعام 1945م حيث تحسنت السياسة الاجتماعية الجديدة بفضل انتعاش اقتصاد ما بعد الحرب . وكانت هذه السياسة عبارة عـن نظام عام للحماية الاجتماعية يقوم علـى : العالمية والتوزيع وإلزامية الانتماء ، وهنا أيضا لم تخل التوليفة من النكهة الرأسمالية حيث جاءت على صيغة الإجبار: إلزامية الانتماء ! و بعد أربع سنوات ، أي : فـي غشت عام 1949 جاءت فرنسا بقانون المساعدة الاجتماعية للأشخاص المسنين فانفصلت وضعيتهم عن وضعية ذوي الأمراض المستعصية والعجز الدائم وذلك بالاعتماد علـى ضرائب الشعب . وفـي سنة 1982 أمكن تخفيض سن التقاعد فـي مجموع الدول الأوروبية إلى الستين ، إلا أن الرأسمالية سرعان ما تراجعت عن حق المسنين في " الشيخوخة " معللة نكوصها بأن الحقائق البيولوجية والاجتماعية قـد لاتعترف بسـن محدد للتقاعد ، لكن ما لبثت الرأسمالية أن كشفت عن نيتها الحقيقية ، حيث رفعت سن التقاعد في السنوات الأخيرة إلى65 سنة قسرا وتحت الإجبار4 !
إن النظام الغربي حين تحرك نحو توسيع تغطيةالحماية الاجتماعية إنما كان باعثه على ذلك أرران ؛ أولهما السعي لضمان سلامة "الوسيلة" التـي تحقق له الغنى وهي الإنسان ، فالغنى لا يتأتى بمجتمع أفراده مرضى . أما الأمرالثاني فهو اقتطاع اعتمادات التغطية الاجتماعية من أجورالعمال والموظفين والضرائب بعيدا عن تحفيز رجال المال والأعمال على تدخـل فاعل وسريع ولو تطوعيا لإغاثـة العجزة ،على اعتبار أنهم أوفر المستفيدين حظا من النظام السياسي والاقتصادي السائد ، فبدا أن الدولة كانت تحمي الأغنياء لا المسنين .
اِحتاطت الدولة الرأسمالية لنجاح السياسة الاجتماعية بواسطة تكثير سواد المنخرطين واستثمار مساهماتهم ، بينما اعتمدت علـى الضرائب في تكميل نفقات المشافـي تحسبـا لحالات الخصاص ! ورغـم ذلك ظـل الخصاص قائما بسبب إكراهات الاقتصاد الرأسمالي نفسه . حينذاك وكذا لأسباب أخرى ، وجدت الشعوب الغربية نفسها مضطرة إلـى ابتداع مـا سمي بظاهـرة المجتمع المدنـي5الذي يعبر في العمق عن نقص فـي استيعاب حاجيات ذوي الدخول المحدودة والحالات القهرية المتنوعة وعلـى رأسها المرض والشيخوخة . إن هذا المجتمع المدني الذي ناقض الرأسمالية حين نزع نحو التكافل وكشف عـيوب المؤسسات المنتخبة لم يستطع بسبب طبيعتـه وظروفـه6 إلا أن يكون معارضـة محدودة ومتفرقة الأهداف تنجـح بامتياز أحيانا فـي نيـل مبتغاها وتصل أحيانـا أخـرى إلـى حلـول وسط أوإلى الفـشل خاصة حين تواجه مصالح اللوبيات الكبرى . ثـم مالبث التكافل الاجتماعي الذي يهمنا هنا كوجه حضاري وإنسانـي أن تراجع لأن المجتمع المدني الغربـي أضحـى مخترقا من قبل الأحزاب ، بل وصار يستخدم كتبريرلاستمرار النظام الرأسمالـي و كوسيلة للتنفيس عـن مشاكل المؤسسات الرسمية بين الفينة والأخرى7 . وبذلك تم تدجين وتطويع مقوم التكافل الاجتماعي الغربي الذي هو من أهم مقومات الوجه الحضاري للمجتمع المدني الغربي . والخلاصة أن الدولة الرأسمالية حين فوجئت بظاهرة لفظ المجتمع للمسنين
لم تتفاعل معها علـى أنها أزمة إنسانية استعجالية ، بل تعاملت معها على أنها مشكلة اقتصادية تستوجب الحيطة حيث اعتبرت المسنين عالة 'لأنهم لا ينتجون' ، و حاولت حل الأزمة على حساب الأجور ودافعي الضرائب ، وتركت الحسم لوتيرة اقتصاد متقلب وبطيء لم ينتعش حتى 1945 م ، ولجأت إلى مبدإ استهلاك الزمن إذ بدأت الأزمة قبل نهاية القرن 19 ولم يصدرأي قانون ذي صلة إلا في في نهاية القرن ، هذا علاوة على التراخي الزمني بين سنوات القرار: 1900م و1930 م ... ومـن المفارقات الدالـة فـي ذا الشأن ، أن المشافـي الحكومية رفعت سقف الشيخوخة كمـا رأينا إلـى 70 سنة للحـد من نطاق المستفيدين ، بينما فتحت الراهبات الصغيرات مئات من منازل الاستقبال أمام الشيوخ فلقبن براهبات الفقراء باستحقاق . نعم إن المؤسسة الرأسمالية حققت تعاضضا – وليس تكافـلا - بين فئة المأجورين وصغار الحرفيين والتجارولكنـه تعاضد محدود بسبب محدوديـة المداخيل وحياد الرأسمال .
إنه لابد للمرء عند التفكير فـي نظام الإسلام ، من الوقوف عند التكامل بين الزكاة والأوقاف فـي تحقيق التكافل التعبدي مع المستضعفين . فإذا كانت الزكاة تـُحَمل الفرد المسلم مسؤولية التكافل بقدر استفادته من اقتصاد مجتمعه وتشرك فـي المساهمة جميع الشرائـح التـي يتوفـر فـي مالها النصاب ، فإن ميزة
الوقف فـي الإسلام التطوع السخي غالبا و خدمة القضية التـي حبس لها الأصل بشكل مباشر و مستقل عن القرار السياسـي و وتيرة النمو الاقتصادي وخارج
أي صراع اجتماعي . بل إن الوقف فـي فلسفته الإنسانية إذ يقوم على الإيثاركما يرسمه القرآن الكريم (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وعلـى دوام النفع (الصدقة الجارية ) كما عبـر عنها نبـي الرحمة ، يرقـى إلـى بـذل النفائس للمحتاجين الموجودين والمحتمل وجودهم ، مما يدل علـى تحسب الشرع فـي حنيفيتنا لـلأزمات قبل وقوعهـا ! أليس هذا الأمر بعجيب إذن؟! ويتفرد الوقف بقدرة عجيبة علـى النمو والتزايد بسبب استمرارالناس فـي التطوع وصمـود الأوقاف أمام عوادي الزمن لأنه من مقاصد الوقف ضمان بقاء الأصل و الانتفاع بثمرته مدة طويلة ، وهذا يؤمن للأمة مواجهة الطوارئ سلفا ويشكل تراكما هائلا لثروات المستضعفين . ماذا أقول ؟ هل للمستضعفين ثروات ؟ نعم للمستضعفين في الإسلام ثروات ، ثروات رحراحة ، ثروات الأوقاف ! وخير دليل علـى ذلك ، هذا الشاهد التاريخي الذي أورده الشيخ راغب السرجانـي فـي مقاله المذكور سلفا :( فإذا أصبح المريض في دَور النقاهة أدخل القاعة المخصصة للناقهين، حتى إذا تم شفاؤه أعطي بدلة من الثياب جديدة دون أجر، وليس هذا فقط بل كان يعطى مبلغًا من المال يكفيه إلى أن يصبح قادرا على العمل ! وذلك حتى لا يضطر إلى العمل في فترة النقاهة فتحدث له انتكاسة .. ) ألا يشبه الوقف هنا المال الذي يدخره المرء لتقلبات الدهر ، مع فارق مهم أن المدخر قد لايكفي ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ


1- ويسميـن أيضا براهـبات الفقراء .
2- تلك بداية إرهاصات ماسوف يطلق عليه في الغرب : المجتمع المدني .
3- إنها تجربة تحتاج إلى وقت لأجل تقويمها بغض النظر عن وتيرة النمو ، رغم الطابع الاستعجالي للأزمة .
4- أوروبا الرأسمالية التي تتباكى على تشغيل الأطفال لا تتورع في تشغيل مسنيها .
5- تعتبر اليونيسكو المجتمع المدني هو التنظيم الذاتي للمجتمع خارج إطار الدولة وخارج إطار التجارة .
6- المجتمع المدني تنظيمات جمعوية ، نعم نشيطة ، ولكنها تستهدف مشاريع بيئية وإنسانية و خدماتية...محددة ومتنوعة ، ومن ثم عدم امتلاكها لمشروع شامل وموحد يقابل مشروع الدولة ككل .
7- من متناقضات المجتمع المدني تبني جوهر الرأسمالية و معارضة قراراتها وذلك ناجم عن خروجه من رحمها بينما يحاول في الوقت نفسه معانقة المبادئ الإنسانية .

ياسر ابوزيد
01-08-2009, 04:24 PM
جزاكم الله خيرا..الحقيقة ان د.راغب السرجانى من افضل العلماء الذين يتكلمون فى التاريخ الاسلامى و باسلوب شيق للغاية ويبين للامة الاسلامية دائما القضايا المعاصرة و احوال المسلمين فى كل مكان فجزاه الله خيرا وربنا يوفقه دائما..

عبد الرحمان
01-08-2009, 05:02 PM
باسم الله الرحمان الرحيم . السلام عليكم ورحمة الله .
أيها الرجل الطيب ياسر، وأنت من أهل الجزاء ، وأنا بدوري أقول لك بأنني من محبي السيد راغب كحبي لأهل الله الذين يحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . أشكر لك تصفحك لهذا الموضوع آملا أن تبدي ملاحظاتك إزاءه ونقدك إياه . دمت خـَـيــِّــراً ، ولا تنساني عند دعاء السجود . عبد الرحمان .