المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخلاق الرسول بعد الهزيمة الحربية .. د/ راغب السرجاني


المراقب العام
10-03-2013, 06:17 AM
http://islamstory.com/sites/default/files/styles/300px_node_fullcontent_img/public/13/03/10/20411_image002.jpg

لا يوجد من ينتصر على الدوام! والله تعالى -من رحمته- جعل هناك بعض المواقف في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع فيها أن يُحقق النصر! ووجه الرحمة في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا ماذا نفعل في مثل هذه المواقف، ولو كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها انتصارات ما وجدنا قدوة في حال هزيمتنا، ولقد مرَّت به صلى الله عليه وسلم مواقف عصيبة في السيرة النبوية تعامل معها بأسلوب فريد، ولعل أهم ما يميز هذا التعامل أنه لم يخرج أبدًا عن الطابع الأخلاقي الراقي الذي كان يتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، وسوف نقوم في هذا المبحث بالتعليق على بعض مواقفه وردود فعله صلى الله عليه وسلم عند عدم تحقيق النصر في حرب من الحروب. ولن نذكر هنا شيئًا خاصًّا بفترة مكة المكرمة (http://islamstory.com/ar/%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D9%85%D9%83%D8%A9) -على صعوبتها وتعدد أزماته- لأنها لم يكن بها حربٌ بالمعنى المفهوم، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أُمِرَ بعدم القتال في هذه الفترة، ولم يُسمح له بالحرب إلا بعد الهجرة إلى المدينة، ومن ثم فإن فترة مكة تخرج عن إطار هذا البحث الخاص بأخلاق الحروب.

وسوف يكون تناولنا لهذا الموضوع -بإذن الله- من خلال المطالب الآتية:


المطلب الأول: أخلاقه بعد غزوة أحد:


تُعدُّ غزوة أحد (http://islamstory.com/ar/%D8%BA%D8%B2%D9%88%D8%A9_%D8%A3%D8%AD%D8%AF) من أشدِّ الأزمات التي مرَّت برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، لدرجة أن الله تعالى سمَّاها "مصيبة"! قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران: 165] وعادة ما يخرج الإنسان عن شعوره عند المصائب الكبرى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسيطرًا تمامًا على كل أحاسيسه ومشاعره، فخرج لنا سلوكه وردُّ فعله على الصورة الراقية التي اعتدنا، ولم نر منه ما يخالف منهجه الأخلاقي في الحياة.


يروي أبي بن كعب (http://islamstory.com/ar/%D8%B3%D9%8A%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7% D8%A1_%D8%A3%D8%A8%D9%8A_%D8%A8%D9%86_%D9%83%D8%B9 %D8%A8) -رضي الله عنه-: أنه لما كان يوم أُحُدٍ أُصيب ( أي استشهد) من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة (http://islamstory.com/ar/%D8%AD%D9%85%D8%B2%D8%A9_%D8%A8%D9%86_%D8%B9%D8%A8 %D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D9%84%D8%A8)، فَمَثَّلُوا بهم؛ فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ ، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] فقال رجل: "لا قريش بعد اليوم!".. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُفُّوا عَنِ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً» .


فمع شدة مصاب يوم أحد، ومع شدة ألمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه يطبق شرع الله تعالى، فلا يسمح بتجاوز، ولا يقبل بتعدٍّ، ولا يتمناه. أما ما روي عن سبب نزول الآية السابقة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عندما رأى حمزة –رضي الله عنه- مُمَثَّلاً به يوم أحد: «لأُمَثِّلَنَّ بسبعين منهم» فقد ضعَّفه ابن حجر في الفتح، وكذلك ضعَّفه غيره، ويعارضه الحديث السابق الذي يذكر أن الآية نزلت عند فتح مكة وليس في أُحد، كما أنه ليس من طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج عن شعوره، أو يتكلم بعاطفته دون عقله، وحتى إنْ صَحَّ الحديث فيُحمل على أنه كان هاجسًا عارضًا ما لبث أن انهار وتلاشى أمام الآية الكريمة، فقد كان صلى الله عليه وسلم وقَّافًا عند كتاب الله، لا يأخذ قرارًا في شيء، ثم يرى ما هو أفضل إلا ترك الشيء الأول وفعل ما يراه أعدل وأجمل.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، ‏ ‏فَلْيَأْتِ ‏الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» .


لقد كان يوم أحد يومًا عصيبًا حقًّا، وتخيَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتفطَّر ألمًا لرؤية أجساد أصحابه ممزقة على أرض المعركة، ثم إنه قد أُصيب شخصيًا، وجُرِح في كل موضع من جسده، حتى كان لا يقوى على القيام في صلاة الظهر فصلى جالسًا، وتفجَّرت الدماء من وجهه صلى الله عليه وسلم، وبُذلت محاولات مضنية لوقف النزيف، ثم حوصر الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه في الجبل..


إنها لحظة من أشد لحظات حياته صلى الله عليه وسلم شدة وقسوة..


في هذا الموقف الصعب يفعل ما لا يتخيله أَحَد أبدًا !! في هذا الجو من الألم والحزن والضيق إذا به صلى الله عليه وسلم يمسح الدم عن وجهه ويقول: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» !!
سبحان الله!! أبعد كل هذا العناء يدعو لهم؟! إنه لم ينس مهمته كداعية، ووظيفته كرسول، إنه يعاملهم معاملة الأب الحنون الذي يرى ابنه عاقًا ومنحرفًا ومؤذيًا له وللمجتمع، فيرفع يده ليدعو له لا ليدعو عليه.


إنه -كما وَصَفَ ربُّنا -رحمةٌ للعالمين !!


المطلب الثاني: أخلاقه صلى الله عليه وسلم بعد حادث بئر معونة


هذا من أشنع مواقف السيرة النبوية؛ فقد غدر فريق من المشركين بالمسلمين في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة. وقُتِل في هذا الحادث سبعون صحابيًا بغدر عامر بن الطفيل ، ومن وراءه عدة فروع من قبيلة بني سُليم هي عُصية ورِعل وذَكوان ..


سبعون شهيدًا في يوم واحد، وبعد شهور قليلة من مصيبة أحُد، وليس هذا فقط بل إن هؤلاء الشهداء كانوا من أفضل الدعاة إلى الله في المسلمين، وكانوا يحفظون ما نزل من القرآن، ولذلك كانوا يُعرفون بالقراء، فهي خسارة نوعية فادحة! لقد كانت كارثة بكل المقاييس!


ووصل الأسى والحزن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن مكث شهرًا كاملاً يدعو على هؤلاء الغادرين، وهذا ليس أمرًا معتادًا في حياته صلى الله عليه وسلم، بل لعلها المرة الوحيدة التي وصل فيها حزنه إلى هذه الدرجة، ولم ينج من هذه الكارثة إلا صحابي واحد هو عمرو بن أمية الضمري –رضي الله عنه-، وكان عامر بن الطفيل قد أعتقه لرقبة كانت على أمه.


وأثناء عودة عمرو بن أمية إلى المدينة المنورة التقى برجلين من مشركي بني عامر، وهي فرع من فروع بني سليم، والتي قامت بقتل الصحابة السبعين، فرأى عمرو أنَّ قتلهما يُعد ثأرًا لأصحابه، فقتلهما بالفعل، ثم فوجئ بوجود عهد لهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمان، فعاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحكى له القصة، فماذا كان رد فعله صلى الله عليه وسلم؟!


لقد تناسى صلى الله عليه وسلم أحزانه تمامًا، وحكَّم دينه وعقله، ولم يُحَكِّم عاطفته وهواه.. لقد قال لعمرو بن أمية في عدل نادر، وفي وفاء عجيب: «لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لَأَدِيَنّهُمَا!».


لقد قرَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع الدية لأهلهما!!

لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد خان الآخرون العهد وقتلوا سبعين، فمِن حقي أن أخون العهد أنا الآخر وأقتل رجلين.. إنه لا يأخذ أحدًا بجريرة أحد.. الرجلان العامريان لم يخطئا، ولم يرتكبا ذنبًا يستحق القتل، ومعهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجب أبدًا أن يُقتلا مهما كانت الظروف! ولذلك قرَّر أن يدفع ديتهما!


ولم يكن قرار دفع الدية هذا قرارًا سهلاً، فَدِيَةٌ كبيرةٌ كهذه لا تُجْمَع بسهولة، فقد كانت المدينة تمر بأزمة اقتصادية كبيرة، وحالة شديدة من الفقر، وخاصة أن هذه الأحداث تقع -كما ذكرنا- بعد غزوة أُحد بشهور، ومن ثم فهناك صعوبة كبيرة في تجميع القيمة المطلوبة لدفع الدية، وسوف يحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاون مع اليهود بموجب الاتفاقية التي بينهما لجمع الدية اللازمة، وقد يدخل في أزمة مع اليهود بسبب هذا المال المطلوب..


إنها أزمات مركبة ومتعددة، فليس العامل النفسي والقلبي هو الذي يؤثر على الموقف فقط، ولكن العامل الاقتصادي والسياسي أيضًا، ومع ذلك، ومع كل هذه المعوِّقات، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على أداء الدية، وبالفعل توجه إلى بني النضير ليسألهم المساهمة في الدية كما قضى الاتفاق الذي بين المسلمين واليهود، وكانت هذه الزيارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير سببًا في غزوة بني النضير كما هو معلوم في السيرة .


إن كل هذه المساعي والجهود التي ذكرنا كانت لدفع دية رجلين قتلهما عن طريق الخطأ رجلٌ مسلمٌ أفلت منذ سويعات قليلة من حادث غدر قُتل فيه سبعون من الصحابة!!


أهناك في العالم - القديم والحديث - عدلٌ على هذا المستوى؟! وهل هناك من يدَّعِي بعد كل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يعترف أو لا يحترم أو لا يعدل مع غير المسلمين؟!


إن ما نرويه في هذه الصفحات لَيُعَدُّ في حسابات الكثير من الناس ضربًا من الخيال، أو لونًا من ألوان الأساطير، ولكن الإسلام يحقق فعلاً على أرض الواقع ما لا يمكن تَخَيُّلُهُ في الأحلام والأمنيات..


المطلب الثالث: أخلاقه صلى الله عليه وسلم عند أسوار الطائف


حربٌ شرسة تلك التي حدثت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الطائف في العام الثامن من الهجرة، والطائف هي ثاني أعظم مدينة في الجزيرة العربية بعد مكة، وبها قبيلة ثقيف، وهي من أهم القبائل العربية.. ولكي نستوعب مدى السمو الأخلاقي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد من العودة إلى قصته صلى الله عليه وسلم مع الطائف من البداية. فقد ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من البعثة –فيما عرف برحلة الطائف (http://islamstory.com/ar/%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A7%D8%A6%D9%81)-، بعد وفاة أبي طالب؛ ليدعوهم إلى الإسلام، ويستثير فيهم شهامة العرب ونجدة الشرفاء، فكيف استقبلوه؟! لقد استقبلوه بما لم يتخيله صلى الله عليه وسلم من السخرية والاستهزاء! ولقد تحدث سادتهم معه بدرجة من السفاهة يندر أن توجد في سادة قوم! فقد قال له عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسله!! وقال مسعود: أما وجد الله أحدًا غيرك؟! وقال حبيب: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً لأَنْتَ أعظم خطرًا من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كُنْتَ تَكْذِبُ على الله ما ينبغي أن أكلمك !!
ومع ذلك مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام يدعو في الطائف، فما ترك أحدًا إلا كلَّمه في الإسلام، ورغم ذلك فقد اجتمعت المدينة بكاملها على تكذيبه، ثم قالوا له في اليوم العاشر: اخرج من بلادنا!! ثم أغرَوْا به سفهاءهم وغِلْمَانَهُمْ، فَصَفُّوا أَنْفُسَهُمْ صفين خارج الطائف، وأرغموه صلى الله عليه وسلم وصاحبه زيد بن حارثة (http://islamstory.com/ar/%D8%B2%D9%8A%D9%80%D8%AF_%D8%A8%D9%86_%D8%AD%D8%A7 %D8%B1%D8%AB%D8%A9) -رضي الله عنه- على المرور بين الصفين، وجعلوا يقذفونهما بالحجارة، حتى سالت الدماء من قدميه الشريفتين، وشُجَّتْ رأسُ صاحبه زيد!! وانطلق الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه زيد -رضي الله عنه- يعدوان، والسفهاء وراءهما بالسباب والحجارة، حتى أرغموهما على دخول حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة! ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وهو لا يدري كيف سيدخلها، وقد تنكَّر له أهلها، ويصور لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حاله ونفسيته فيقول: «فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا ‏بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ». إنها أشد المواقف صعوبة على نفسه صلى الله عليه وسلم مطلقًا..


في هذا الموقف العصيب يقول صلى الله عليه وسلم: «فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» !!


وهذا أيضًا من أعجب مواقف التاريخ!!

إن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال؛ ليأتمر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليدعوه صراحةً إلى الموافقة على إهلاك القوم، وفي إرسال ملك الجبال نفسه إشارة واضحة إلى أن الله تعالى لن يعتب على رسوله إذا طلب إهلاك القوم، ومع ذلك فهلاك الناس على الشرك لا يَسُرُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم!! إن له مهمَّة أصيلة واضحة، وهي استنقاذ الناس من الجحيم، والناس لا تدري، وتتجه إلى هاويتها مسرعة، والرسول صلى الله عليه وسلم أشدُّ حرصًا عليهم من أنفسهم، فيتمالك أعصابه سريعًا، ويأخذ قراره دون تردد: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ، مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».


هل تملك أمة من الأمم هذا التاريخ؟!


هل يعرف المسلمون الثروات الهائلة الكامنة بين بطون الصفحات، والتي شَرَحَتْ بالتفصيل كلَّ لحظة من لحظات حياة سيِّد البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟!


وتمرُّ الأيام، وتظلُّ ثقيف على كفرها.. لقد قاومت كثيرًا، وصدَّت عن سبيل الله كثيرًا، واشتركت مع هوازن في الحرب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقعة حنين، وكانت حريصة كل الحرص على إبادة جماعية للمسلمين، ولكن الموقعة انتهت بهزيمتهم وفرارهم إلى مدينتهم الطائف، وذهب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاصرها حصارًا شديدًا مُدَّةَ شهر كامل، لكنه لم يتمكن من فتحها لمناعة حصونها وقوة مقاتليها، فقرَّر بواقعية أن ينسحب ويتركها، وحزن الصحابة لذلك، وقالوا: "يا رسول الله، أحرقتْنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم"، فرد ردًّا عجيبًا! لقد قال: «اللهم اهد ثقيفًا» !!
بعد كل هذه المعاناة والتعب يكون رد فعله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد ثقيفًا»..!!


نعم.. اللهم اهد ثقيفًا.. واهد كل البشر..

إن من فَقِهَ منهجَ حياته صلى الله عليه وسلم وعَلِمَ الأهدافَ السامية التي عاش من أجلها، وأدرك عظمة أخلاقه، ونُبل صفاته، وصفاء سريرته، ونقاء قلبه.. من علم كل ذلك فلن يستغرب أفعاله، ولن يتعجب من مواقفه صلى الله عليه وسلم..


لقد أدرك قِصَرَ الحياةِ وسُرْعَتَهَا، وعَلِم قيمة الجنة وعظمتها، وفَقِهَ عذاب النار وقسوته، فوهب حياته بكاملها لهداية البشر أجمعين، وما رأى حقًّا لنفسه؛ فما فكَّر قَطُّ في ثأرٍ لذاته، أو انتقام لكيانه..!!
إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
نسأل الله تعالى أن يحشرنا في زمرته صلى الله عليه وسلم وأن يجمعنا تحت لوائه..




المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية (http://islamstory.com/ar/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8)) للدكتور راغب السرجاني.



موضوعات ذات صلة:
عدم دموية حروب الرسول (http://islamstory.com/ar/%D8%B9%D8%AF%D9%85-%D8%AF%D9%85%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%88%D9%8A%D8%A9)
أخلاق الرسول في الحروب (http://islamstory.com/ar/%D8%A7%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8)
أخلاقيات الحروب في الإسلام (http://islamstory.com/ar/%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85)
أخلاق الحروب في السنة النبوية (http://islamstory.com/ar/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8)
أخلاق رسول الله في الحروب وبعدها (http://islamstory.com/ar/%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D9%88%D8%A8%D8%B9%D8%AF%D9%87%D8%A7)




أخلاق الرسول بعد الهزيمة الحربية (http://islamstory.com/ar/%D8%A7%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%B2%D9%8A%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9)