المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قسوة القلب


ألب أرسلان
09-05-2013, 05:58 AM
http://dorar.m3n4.com/dimgs/M3N4NET-104884-1.jpg

لكل شيء علامة، وبمعرفة هذه العلامة يسهل الاكتشاف المبكِّر لهذا الداء الوبيل، ألا وإن أبرز علامات القلب القاسي:


1-تعطل الحواس:


القلب القاسي.. لا القرآن يُزكِّيه ولا النظر في آيات الله يحييه، والسبب موت حواسه وتعطل عملها.

قال ابن الجوزي: “رأيت هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 64] فلاحت لي فيها إشارة كدتُ أطيش منها، وذلك أنه إن كان عنى بالآية نفس السمع والبصر، فإن السمع آلة لإدراك المسموعات والبصر آلة لإدراك المبصرات، فهما يعرضان ذلك على القلب فيتدبر ويعتبر، فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر أوصلا إلى القلب أخبارها من أنها تدل على الخالق، وتحمل على طاعة الصانع، وتحذِّر من بطشه عند مخالفته.


وإن عنى معنى السمع والبصر؛ فذلك يكون بذهولها عن حقائق ما أدركا شُغِلا بالهوى، فيُعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات، فيرى وكأنه ما رأى، ويسمع وكأنه ما سمع، والقلب ذاهل عما يتأذى به لا يدري ما يُراد به، لا يؤثِّر عنده أنه يبلى، ولا تنفعه موعظة تُجلى، ولا يدري أين هو، ولا ما المراد منه، ولا إلى أين يُحمل، وإنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته، ولا يتفكر في خسران آجلته، فلا يعتبر برفيقه، ولا يتعظ بصديقه، ولا يتزود لطريقه، فنعوذ بالله سبحانه من سلب فوائد الآلات، فإنها أقبح الحالات” (صيد الخاطر: ص105)


لا أرى لا أسمع لا أتكلم


ومن قسوة القلب كونه “أصم لا يسمع الحق أبكم لا ينطق به أعمى لا يراه، فيصير النسبة بين القلب وبين الحق كالنسبة بين أذن الأصم والأصوات، وعين الأعمى والألوان، ولسان الأخرس والكلام، وبهذا يعلم أن الصم والبكم والعمى للقلب بالذات والحقيقة، والجوارح بالفرض والتبعية، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وليس المراد نفي العمي الحسي عن البصر، وإنما المراد أن العمى التام على الحقيقة: عمى القلب، حتى أن عمى البصر بالنسبة إليه أمر هيِّن حتى يصح نفيه بالنسبة إلى كماله وقوته” (الجواب الكافي:ص82 بتصرف)
، واسمع إلى تفاصيل تعطل حواس القاسية قلوبهم حاسة حاسة:


أ‌-السمع:


وصف الله حال الكفار حال سماعهم الهدى أنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأطلق الله اسم الأصابع على الأنامل على وجه المجاز، فإن الذي يُجعل في الأذن الأنملة لا الأصبع كله، لكنه عبَّر عن الأنامل بالأصابع للمبالغة في إرادة السامعين سد المسامع؛ بحيث لو أمكن لأدخلو الأصابع كلها، فإن حدث ووصلت إلى آذانهم كلمة واحدة من كلمات الحق قبل أن يسدوها، ونفذ إليها سهم من سهام الخير، لارتد من على أبواب الآذان المؤصدة.


لذا قال تعالى: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام:25] أي صمماً وثقلاً مانعاً من سماع الحق، بل لو أزال الله انسداد هذه الأسماع حتى تصل الموعظة إلى قلوبهم لوصلت؛ لكن إلى قلوب غلفاء لا تُنفِد النور، ظلمات بعضها فوق بعض، لذا قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال:23]


والإسماع المطلوب هو إسماع القلوب وهو أعلى درجة من إسماع الآذان، فإن الكلام له لفظ ومعنى، فسماع لفظه هو حظ الأذن، سماع معناه هو حظ القلب، ومتى لم ينصت القلب ضاع الحديث والحدث، وقد نفى سبحانه عن الكفار غلاظ القلوب سماع المعنى الذي هو حظ القلب، وأثبت لهم سماع اللفظ فقط الذي هو حظ الأذن، وهذا النوع من السماع لا يفيد السامع بل يضره لقيامه حجة عليه.


وهو ما يلخصه قول أهل الكتاب لنبينا: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء:46] أي اسمع غير مسموع منك، فآذاننا معك وقلوبنا مع غيرك، فقاسي القلب لا يسمع، وإذا سمع لا ينصت، وإذا أنصت لا يعي، وإذا وعى لا يُدرك، وإذا أدرك لا يعمل، وإذا عمل أتبع عمله برياء وسمعة، فعمله كله عليه مردود، وعاقبته ضلال وحسره.


وإن كان هذا هو وصف القرآن لسمع أصحاب القلوب القاسية فإن وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم قريب من قريب.


قال صلى الله عليه وسلم: «ويل لأقماع القول!! ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على مافعلوا وهم يعلمون» [رواه أحمد وصححه الألباني]
فكما أن القمع يدخل ما يوضع فيه من جانب ويخرج من الآخرة فكذلك قاسي القلب أذناه طرفا قمع!! يدخل الكلام من الأذن اليمنى ليخرج من اليسرى دون أن يستقر في القلب منه شيء


ب‌-البصر:


ما أشقى قساة قلوب رانت عليها ذنوب، فلم تعد عيونهم تبصر دلائل الحق وآيات الخير، ولا ترى رسل الله نظراً لِما غطَّى أبصارها من قساوة وجهالة.
قال تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف: 100،101]


قال ابن القيم:


“وهذا يتضمن معنيين: أحدهما أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته، والثاني أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به، وهذا الغطاء للقلب أولا ثم يسري منه إلى العين” (شفاء العليل: 1/93)


لذا كان الكافرون -وقلوبهم أشد القلوب قساوة- لهم عيون لا يبصرون بها، فهم عُمي عن الحق لا يبصرونه، لذا وصفهم ربهم وهو الأعلم بهم بقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر:14،15]


فشبَّه تعطّل حاسة البصر بسكر الشراب، أي غشيهم ما غطَّى أبصارهم كما غشي السكران ما غطَّى عقله، فلم ير شيئا، وإن كان لصاحب القلب الحي في الآية الواحده آيات، فإن صاحب القلب القاسي نظراً لتقلبه في ظلمات الذنب وغوصه في أعماق الخطيئة يُعاقَب بأشد العقوبة وهي: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} [الأنعام:25]، وهذا يشمل كلاً من آيات الله المنظورة في كونه أو المستورة في كتابه، فمرور الآيات عليه شبيه بطلوع الشمس والقمر على العميان.


ألا رُبَّ ذي عينين لا تنفعانه *** وهل تنفع العينان من قلبه أعمى


قد يُنصَح من بعينه رمد بِعدم البروز إلى الشمس، وما في الشمس مِن عيب ولا مرض! والمرض في عيني الأرمد! وقد يُنصح المريض بِعدم شمَّ الطِّيب.. وما في الطِّيب إلا الشذى والعطر.


فقل للعيون الرُّمد للشمس أعينُ *** تراها بحَقٍّ في مَغِيبٍ ومَطلعِ
وسامح عيونا أطفأ الله نورها *** أبصارها لا تسْتفيق ولا تَعِي


ج- اللسان:


قاسي القلب الخرس أحسن من معانيه والعي أبلغ من بيانه، وقال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: «وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم» [رواه البخاري]


واسمع مثلا إلى ابن هانئ الأندلسي وهو يمدح الخليفة المعز بقوله:

ما شتَ لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار


فابتلاه الله بمرض شديد على إثر هذه الكلمة، صار يعوي فيه من شدة الألم نادما على ما قال، لسان حاله:

أبعين مفتقرٍ إليك نظرتَ لي *** فأهنتني وقذفتني من حالق
لستَ الملوم أنا الملوم لأنني *** أنزلت آمالي بغير الخالق


فقاسي القلب على الإجمال ما سلمت له يد ولا قدم ولا عقل ولا جارحة، وهذا حال القلب حين يقسو ويذبل ويفقد رطوبة إيمانه، فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا، فكل شيء طالح، وهل يخرج من الفاسد إلا فاسد؟! وهل يلد الضال غير (ضلَّ) (يضلُّ) (ضلالا)؟!


قاسي القلب غافل عن الغاية التي خلق الله لأجلها لسانه فلا ذكر ولا دعاء ولا خير ولا بناء، بل غيبة وفحش، وخشن قول واعتداء، والقساوة القلبية ستؤدي إلى قساوة اللفظ ولا بد.


مثل فقهي


وحتى تقترب الصورة وتكون أوضح، وتعرف معنى تعطل الحواس عند قاسي القلب وتُصدِّق ما أقول هاك هذا المثل العملي في هذا الحديث:

عن صفية بنت شيبة قالت: حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا طلاق ولا عِتاق في إغلاق» [حسنه الألباني]


والإغلاق هو شدة الغضب إو الإكراه، ذلك أن الإنسان في حالة الغضب الشديد قد يفقد إحساسه بمن حوله فلا سماع لصوت الحق ولا إبصار لعواقب الأمر ولا عقل يُرشد للصواب، تماماً كما يُغلق البابُ على الإنسان، فلا يدرك ما حوله، ولذا جعل الشارع الحكيم لا عبرة عندها بالطلاق أو الإعتاق، وهو شبيه بما يحدث لقاسي القلب الذي لجَّ في عصيانه حتى ذهب عقله، وكما تأتي الإنسان حالات يفقد فيه عقله وسيطرته على حواسه من جراء غضب عارم؛ تأتيه كذلك أوقت وحالات تتعطَّل فيها حواسه من جراء غفلة عارمة أو قساوة شديدة أو طول غياب عن أنوار الحق.


يا مؤثر الأمراض على العافية.. يا مختار الكدر على الصافية:

إذا كنت تضجر من حجاب الشمس ساعة فكيف لا يضجر من شمس عقله محجوبة عن الحق أربعين عاما؟!


ومن القلوب القاسية:القلوب الممسوخة ، قال ابن القيم وهو يتكلم عن أثر الذنوب:

“ومنها مسخ القلب فيمسخ كما تُمسخ الصورة، فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به، ومنها ما يُمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك، وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]، قال: منهم من يكون على أخلاق السباع العادية، ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب، وأخلاق الخنازير، وأخلاق الحمير، ومنهم من يتطوَّس في ثيابه لحما بتطوس الطاووس في ريشه، ومنهم من يكون بليدا كالحمار” (الجواب الكافي: ص82)


ومن أقسام القلوب القاسية: القلوب المحجوبة، فقد قال ابن القيم وهو يُكمل كلامه عن أثر الذنوب:

“ومنها حجاب القلب عن الرب في الدنيا، و الحجاب الأكبر يوم القيامة كما قال الله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم فيصلوا إليها، فيروا ما يصلحها ويزكيها وما يفسدها ويشقيها، وأن يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم فتصل القلوب إليه، فتفوز بقربه وكرامته وتقرَّ به عينا، وتطيب به نفسا، بل كانت الذنوب حجابا بينهم وبين قلوبهم، وحجابا بينهم وبين ربهم وخالقهم” (الجواب الكافي: ص83)


ومن أقسام القلوب القاسية: القلوب المطبوعة. قال تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100]، وأصل الطبع: الصدأ يكون على السيف ونحوه، فلا يدخلها شيء من ضوء الهدى، فصاروا بسبب استغراقهم في ذنوبهم مطبوعا على قلوبهم لا يصل إليها من النور شيء، فلا يسمعون ما يُتلى من الوعظ والإنذار، والإصرار على الذنب من أخطر مفاتيح الطبع على القلب، لذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: «من ترك الجمعة ثلاث مرات متواليات من غير ضرورة، طبع الله على قلبه» [صححه الألباني]


ومن أقسام القلوب القاسية: القلوب المكنونة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت :5] وهي جمع كِنان، وأصله من الستر والتغطية، فذكر الله في هذه الآية غطاء القلب وهو الأكنة، وغطاء الأذن وهو الوقر، وغطاء العين وهو الحجاب، والمعنى: إنا في ترك قبول أي شيء منك بمنزلة من لا يسمع ما تقول ولا يراك.


فهذا الصنف من الناس لا يكتفي بما قاله أصحاب القلوب المغلقة: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88] إنما يتجاوز ذلك، ويبدي كراهيته لسماع أي خير، بل وعدم رغبته حتى في رؤية من يرشده إلى الخير، فمجرد رؤيتُه تُنغِّص عليه لذته الدنيوية، وهذا النوع من أقسى أنواع القلوب، وقد قال تعالى في تشبيه هؤلاء المعرضين عن كلامه وهديه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49-51]


قال ابن القيم:

“شبَّههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحُمر رأت الأسد أو الرماة ففرَّت منه، وهذا من بديع القياس والتمثيل، فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر وهي لا تعقل شيئا، فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور، وهذا غاية الذم لهؤلاء، فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يُهلكها ويعقرها، وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة؛ فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضَّه على النفور، فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد، فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه” [إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1/164]


وهل تنفع الموعظة مع أمثال هؤلاء؟! كلا والله.
إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة *** كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر