المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة طريفة من قصص الشيخ علي الطنطاوي


fadou
18-06-2013, 08:31 AM
((كنت يوما أستقبل في بيتي جماعة من الأصدقاء ، فجاء أحد أصحابنا و جاء معه بولد صغير ( و أنا لا أكره شيئا كما أكره من يزورني و يأتيني بولده معه) ، و لكني تجلدت و قلت لنفسي : إنه ضيف ، و لابد من الاحتمال .
فما كاد يستقر في المجلس حتى شرع يتحدث عن ولده وذكائه و نوادره و كماله ، و الحاضرون يبتسمون -مجاملة- و يتمنّون أن يحس فيختصر هذا الحديث الثقيل ، وهو يفيض فيه . ثم قال لولده : بابا قم اخطب لهم خطبة .
فتدلل الولد و تمنّع ، و قال : ما بدّي .
قال : قم ، عيب!
و ما زال معه شد و دفع حتى استجاب و قام ، فخطب خطبة أزعج لسامعيها من شربة خروع لشاربه ، و لكن اضطروا أن يكشّروا و يقولوا مجاملة : ما شاء الله.
و حسبوا أن المحنة انتهت ، و لكن الرجل عاد فقال : و هو حافظ غيرها كمان .
و انتظر أن يستبشروا بهذا الخبر و يطيروا سروراً بهذه البشارة ، فلما رآهم سكتوا و أحجموا لم يسكت هو و لم يحجم ، و قال للولد: اخطب - بابا - الخطبة الثانية .
و من خطبة إلى خطبة ، حتى خطب عشر خطب ، شعر الحاضرون كأنها عشر مطارق تنزل على رؤوسهم و طلعت منها أرواحهم ، و هو يضحك مسروراً كأنه جاء بمعجزة . ثم قال : و هو يغني كمان . غنّ - بابا- أغنية .
قلت في نفسي : أعوذ بالله ، خرجنا من الخطب فجاءت الأغاني .
و غنى أغنية ، ثم أتبعها بأخرى ، فقلت : يكفي ؛ إنه قد تعب .
قال : لا ( و مطّها ...) إنه لا يتعب ، الله يسلمه و يرضى عليه .
من حق تعبت يا بابا ؟
قال : لا. ووثب ينط في الغرفة .
قال : أبوه بيعرف يلعب كمان .
و خرّب في لعبه كثيراً مما كان في الغرفة من التحف .
ثم جاء الشاي ، فمد يده ليأخذ الفنجان ، فقلت : إنه حار .
قال : لا .
و رفع رجله بحذائه الملوث فوضعها فوق المقعد ، و أخذ الفنجان و قربه من فمه ، فأحس حرارته ، فأفلته فانكب على المقعد الجديد .
و توقعت أن يعتذر أبوه عن إفساده وجه المقعد ، و إذا به لا يهتم بوجهه و لا قفاه ، لقد اهتم بولده و قال له لا ترتعب ما صار شيء ، هل احترقت يدك ؟
و نظر فيها ، و ابتسم و قال : سليمة و الحمدلله . و انتقل هو و ابنه إلى مقعد آخر .
ثم قام الولد و وقف بحذائه على المقعد الثاني و أخذ يكلمه في أذنه ، فقال الأب : كأس ماء من فضلك ، الولد عطشان .
فقمت و أتيته بها ، فشرب و أراق الماء على المقعد الثاني.
وبعد لحظة قال أبوه : ممكن - من فضلك - يخرج للخلاء ؟
قلت : قم . و أخذته بيده فصرخ صرخة أرعبتني ، و حسبت أن قد قرصه ((دبّور)) و سألت : ما له؟
قال أبوه : إنه لا يخرج إلا معي .
فقلنا : خذوا طريقا و هاتوا طريقا [تعبير متدوال في الشام يستعملونه إذا كان البيت رجل أجنبي عن المرأة لا يجوز لها أن تظهر أمامه، و معناه أن تستر أو تغلق على نفسها باب غرفتها حتى يمر هذا الرجل فلا يراها (مجاهد)] ، و وقفنا حتى وصل الموكب الهمايوني إلى بيت الخلاء !
و لا أريد أن أصف لكم بقية المشهد ، فتصورا آخره من معرفة أوله .))