المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "الهندية" المغربية بين ثقافة المقاومة واٌلإيثار


عبد الرحمان
21-09-2009, 09:36 AM
"الهندية" المغربية بين ثقافة المقاومة و الإيثار .

الهندية المغربية التي تعتبر غذاء رائعا للبسطاء ، اسم له سحر وكوامن
غامضة الأصول ، والمقصود منه شجرة الصبار الكمثري وثمرتها في
ذات الآن ، وهي أيضا مايطلق عليه التين الهندي أو الصبر ) بكسـر
الباء غالبا أو تسكينها أحيانا( ، و من الخطإ تسميتها بالصبير الذي
.................. يعني في الفصيح السحاب الأبيض ،
......................... أو الكفيل ، أو الفراء .

كثيرة هي الأحاديث النبوية التي تحدثت عن النبات وأنواعه ، وعن
علاقته بالإنسان وصحته ، بل وقيمه الروحية .. وقد رفع الحديث
النبوي الشريف النبتة إلى القمة حين قال رسولنا الكريم :"إن قامت
الساعة وفي يد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها ،
فليغرسها . " فقد قدم محمدُ البشرية غرس الفسيلة على كل عمل
أو عبادة غداة قيام الساعة ! إن الشتيلة في عرف نبي الرحمة ،
صبية ثديها الغراس ولباها الماء ، وقيام الساعة لا يجب أبدا أن
يمنعها من الحياة حتى وإن كانت الحياة ذاتها أمام الفناء ! أليس
الإسلام هنا ذروة من ذرى الوجدان الإنساني يحس بكل راهـفة في
الفسيلة فيقف لها الإنسان ويحبسه ليخدمها وإن كان في انتظاره
داهية قيامته ؟ !
هذا الحديث وغيـره ، يبرز نظرة الإسلام إلـى عناصر الطبيعة
وتفاعله معها بحب و ثقة وبصيرة مما أدى إلى تشكل ثقافة متميزة
لدى المسلمين جعـلتهم يحـتـضـنون الشجـرة والنبتة على السواء
ويتعايشون معهما في وئام .
ومن الأحاديث التي تحدثت عن الشجرة حديث جاء في صحيح مسلم
عن نبيه بن وهب قال فيه :
خرجنا مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بمَلل اشتكى عمر بن عبيدالله
عَـيْـنـيْـهِ فلما كنا بالروحاء اشتد وجعه فأرسل إلى أبان بن
عثمان يسأله ، فأرسل إليه أن ضمدها بالـصَّــبـِـر ِ فإن عثمان
ابن عفان رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدها بالصبر .
لقد جاء هذا الحديث ليرفع شجرة كان الناس في الجاهلية لايعيرونها
كثير اهتمام ، إلى مرتبة التكريم ، حيث جعلها دواء لأعز ما يملكه
المسلم وهو عينه ، حتى وإن كان مُحْرما ، فصيرها بذلك عنوانا
للطهر والنقاء .
والمغاربة الذين تشبعوا بقيم نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم ، أولوا
لشجرة الـصّـَــبـِر ِ أهمية خاصة واحتضنوها احتضانا ، فصارت جزءا
من نشاط العديد من الفلاحين في مناطق مختلفة .
وأول ما يثيرك في فاكهة الهندية المغربية شكلها المستطيل ووفـرة
بزورها ، وحجمها حيث قد يفوق طولها مقشرة 5.5 سم و عرض
وسطها 3.5سم . و هي ثمرة ذات عيون تفرز وبرا شوكيا بالغ الدقة
والأذى ، و تنبت من الورقة اللحمية التي يطلق عليها المغاربة :
الظلفة . وخروجها من الظلفة مقصود حتى تستفيد مباشرة من مائها
الهلامي العجيب الذي لايكاد ينضب حيث تحوله غنيا عذبا زلالا .
إن الصبرة المغربية تـتميز مثل باقي شقيقاتها التي تفوق مائتي نوع
(منها ما لا يؤكل) ،بذكاء غريزي وقدرة أودعهما الله فيها بشكل
عجيب ، ذلك أن شجرتها تضاعف فرص بقاء نوعها مرتين ؛ مرة عبر
الظلفة التي تُعَرِقُ في الأرض تلقائيا بعد سقوطها من الشجرة، ومرة
عبر بزورها الموجودة بوفرة في ثمرتها . وحظ فسيلة "الهندية" في
التشجر أوفـر من باقي الشتلات إذ لا تحتاج إلى الماء خلال العام كله
إلا أربع أو خمس مرات فقط ، مما يبرز قدرتها على التحسب للمناخ
بإلهام من الله عز وجل .
ولعل هذا ما يفسر أن هجر هذه الشجرة المتعلقة بالحياة للصحارى على
عكس باقي بنات عمها ، واستيطانها الوعور والصخور لم يكن من
قبيل العبث فهي تستغل مهارتها في الحفاظ على الماء وتلزيجه ،
و عزلتها عن باقي الأشجار للبحث وامتصاص الماء ، الكثير من الماء
بالقدر الذي يمثل تسعين في المائة من كلية جسمها .
وأعاجيب الصبرة لا تكاد تنتهي إذ تتسلح لحماية نفسها بعدة أسلحة
منها الشوك غليظا ودقيقا . فالشوك الغليظ الذي ينبت على صفحة
الظلفة في هندسة بديعة تجمع بين الاصطفاف والتشتت ، يحمل قوة
جبارة كفيلة بردع أعـتى الحيوانات العادية بفضل ما في رؤوسه
الموجهه من مضاء مؤلم . أما الشوك الدقيق فتفرزه ثمرة الصبار
على هيئة وبر شوكي خفيف مستعد للطفو على متن الريح ، والانتشار
لإلحاق الأذى عند أبسط هبة أورجة . إن الشجرة الذكية إذن تستخدم
ضد الأعداء جنديا برتبة رام ؛ هو الريح ! وليس هذا كل ما في الأمر،
فالتينة الهندية تسخر طاقة عـدوها ضد نفسه عند أدنى احتكاك له
بثمرتها أو وراقها اللحمية ، وغير اللحمية إذا لم تكن مثمرة !
لم تُـفرغ الشجرة العصامية بعد ما في جعبتها ؛ فهي لم تستعمل بعد في
استراتيجيتها الحربية سوى سلاح الحراب و الرماية ولم تحارب سوى
الأهداف الكبيرة المتحركة ! فماذا تستبطنه هذه الشجرة الأبية يا ترى
لبقية أعدائها ؟
ليس العدو هنا سوى الديدان والفطريات والفيروسات الفتاكة بالنبات
والحشرات الناخرة ، وقد أودع مبدع السماوات و الأرض في هذه
الشجرة إزاء هذا الصنف من الأعداء أسلوبان للقتال نوعيين ! أما
الأسلوب الأول فهو القتال عن بعد عبر الأرض حيث تبث الشجرة
سرها في التربة المحيطة بها بواسطة جذورها فإذا عدد من النواخر
و كذا المتعضيات ينكبح تلقائيا ولا يجرؤ على الاقتراب قيد أنملة ! أما
الطريقة الثانية فهي الحرب المباشرة ضد كل الفيروسات والأمراض
النباتية ، و الحكاية أن الشجرة المقاتلة هذه تترك العدو كيفما كان
يقترب ، بل تدعه يطعم منها هنيئا مريئا حتى إذا ابتلع نسغ الشجرة ..
أي ماءها الهلامي الفاتك ، مات حتف ظلفه في الحال ! أما الخدوش
التي قد تطال اللـِّحاء بسبب الإنسان أو غيره فسرعان ما تستحيل
خيوطا بنية رائعة قد اندملت بفعل الماء الهلامي ذاته .
ومن قصص الصبرة أنها تأبت على الفلاح المغربي حين رغب أن
يستنبتها في السهل بدل الوعر والمرتفعات ، فكان يطوعها أحيانا ،
بينما تتمنع أحايين مثل الصقر يرفض عيش الخفض . إنه لسلوك مثير
حقا ، ففسيلة الصبر هنا ترفض دخول معركة خاسرة لأن السهل هو
مستقر الأمطار و شتلتها لاتتحمل الماء إلا على فترات متباعدة . ومن
أسرار هذا الحران أيضا أن الشجرة لا تريد أن تفقد ميزة "القتال
على الارتفاع"حيث أنها في المشارف تجمع بين العلو والاقتصاد فـي
الجهد ضد غرمائها ! إنها لاترضى أن تفقد أي عنصر من عناصر
قوتها ولو كان ذلك على حساب وجودها ! بل إن هذه الشجرة الكريمة
حين اختارت الجموح هذا إنما كانت تعبر عن إيثار فيها عجيب ، حيث
تنازلت لباقي النبات عن الأرض اللينة المسقية في تحالف مع الإنسان
عز نظيره وكأنها تأبى إلا أن تضحي في ثقة لتواجه النباتات الأخرى
أوضاعا أقل قساوة ، بينما تصدت هي لشح الماء ولفح القيظ وقسوة
الصقيع و عصف الريح . إنه الوجه الآخر لشجرة الإباء ، إنها بذرة
الإيثار قد قذفها الله جل جلاله في الصبرة ! ومن الإيثار ذاته تأبت
"الهندية" عن السهول لأنها لا تريد بقدرة من الله ، أن تصيب الناس
والحيوان بشوكها الدقيق عند هبوب الرياح . لا ، إنه ليس من شيمها
أن تسعى إلى الخلق لتعدوَ عليه هي التي اعتادت أن تقاتل من يسعى
إليها في الوعر ظالما .
ثم ماذا بعد ؟
الصبرة ، من سخاء الإيثار فيها أنها تورق ورقها اللحمي الذي
يسميه المغاربة الظلفة ، للدواب وخاصة الجمال ؛ وتثمر ثمرتها
الغنية ليأكل الإنسان ، ولكن ليس أي إنسان .. فالمعْنِي هنا هو الإنسان
البسيط المتواضع لا المتكبر البطـر .
فالفلاحون البسطاء الذين أحبوا هذه الشجرة ، لم يقابلوا منها إلا
بالوفاء والعطاء السخاء سواء من خلال أوراقها ذات المنافع العديدة ،
أو على مستوى الثمار التي تبدأ بواكير ها في الظهور منذ الشهر
السادس إلى شهر شتنبر حيث تقل نسبة الحلاوة فيها كلما برد الطقس .
ومن جمال الجمال في الصبرة أن ماءها الهلامي الذي يفتك بكل
الفيروسات والطفيليات لايؤذي الثدييات ، بل يغذي و يقتل ضواري
الأمعاء وفطرياتها ! و المفاجأة أن علف الصبار يجفف الماء ويذهب
العطش . وذلك إيثار ليس بعده شيء تخص به الـشجـرة الكريمة
غيرها .
لكن حذار ، فالثمار والورق كليهما لابد من أخذهما من الشجرة
وتنظيفهما بمعرفةٍ و خبرةِ متلطفٍ يحفظ للصبرة كرامتها ، وإلا نال
منه الشوك النيل . ثم إن الصبرة ، على عكس أغلب النبت ، تحفظ
لقائظة الصيف يخضورها الذي لايظهر خلال بقية الفصول حتى الربيع
منها ، وكأنها تريد أن تمدد لعمر الاخضرار والخصب بصنيعها حين
تهيج الطبيعة . ومن الغرائب أن تجمع الصبرة بين الجمال في العمق
والإيهام بالبشاعة . البشاعة لمن يأتيها عاديا أو متكبرا ، والجمال لكل
عاشق و متذوق ! وكأنها توظف الحالة النفسية لعدوها فيستهول
منظرها إذ الغضب والعجب يمنعان طلب الجوهر . بينما تسمح حالة
الودود بتجاوز المظهر إلى المخبر ، فتمنحه عروس الوعور أسرار
جمالها ؛ ابتداء من هندسة الأوراق التي يحمل بعضها بعضا في تقارب
يتيح تخلل الشمس وتباعد يحقق الاقتصاد في التماسك و في الجهد ،
وانتهاء ببهاء عيون الوبر الشوكي في الثمرة التي يعلوها زهر ذو
أطياف أخاذة !
وللتاريخ ، فإن الهندية المغربية من الشجرات القليلات التي استطاعت
الإفلات من الإبادة التي شنها المستعمر الفرنسي ضد كل ماهو مغربي
من نبات وحيوان مثل الرمان المحلي والمشمش المحلي.. والقمح
الصلب المحلي ..والكلب السلوقي المغربي ، والكلاب الذئبية
المغربية ؛ وذلك إجلَ فتح الباب أمام المنتجات الغربية . والهندية
المغربية إنما قاومت هذا المستعمر البغيض بفضل استيطانها الوعور ،
مثل ما فعلت المقاومة المغربية تماما تحت قيادة الشهيد موحا أوحمو
الزياني ، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي ..
هذه هي شجرة البسطاء منحوها حبهم و تحايلوا على أذاها وخبروا
طباعها و فلاحتها ، رغم تمنعها ، و اتخذوا منها الأعلاف والسياج
والثمار ، يتلطفون لها ويتعلمون منها ، فكان أن فتحت لهم باب
إيثارها ، وقاومت معهم كما قاوموا .
عبد الرحمان – مكناسة الزيتون – المغرب .
يوم الاثنين / عيد الفطر1430 / 21 – 09 – 2009 .

فوزية محمد
26-09-2009, 11:06 AM
ما شاء الله..

جميل ما خطته يدك أخي الكريم...

مشكور على الإفادة والتذكير الطيبين..

وفي انتظار جديدك أهلا بك بيننا في منتداك...