المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لا تغضب


الشيخ محمد الزعبي
22-09-2009, 04:17 PM
لا تغضب
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أوصني قال( لا تغضب فردد مرارا قال لا تغضب )رواه البخاري. رجلا : لعله أبو الدرداء ، والقول بأنه جارية بن قدامة عارضه يحيى القطان بأن جارية المذكور تابعي لا صحابي .
أوصني : وصيةً وجيزةً جامعةً لخصالِ الخيرِ .لا تغضب : لا تتعرض لما يجلبُ الغضبَ ، ولا تفعلْ ما يأمرك به .فردد: كرر ذلك الرجل قوله (( أوصني )) يلتمس أنفع من ذلك ، أو أبلغ أو أعم .مرارا: في رواية عثمان بن أبي شيبة بيان عددها ، فإنها بلفظ (( لا تغضب ثلاث مرات )).قال : النبي صلى الله عليه وسلم له في المرة الثانية والثالثة .لا تغضب : فيه بتكرارها على عظيم نفعها وعمومه .
يستفاد من هذا الحديث :
1-معالجةُ كلِ ذي مرضٍ بما يُنَاسِبُ مرضَهُ ، والنبي صلى الله عليه وسلم خص هذا الرجل بهذه الوصية . لأنه كان غضوبا .
2-التحذير من الغضب فإنه جماع الشر ، و التحرز منه جماع الخير ، وفي هذا الوصيةِ استجلابُ المصلحة ، ودرءُ المفسدةِ ما يتعذرُ إحصاؤُهُ ، فإن الغضبَ يَترتبُ عليه من المفاسدِ تغيرُ الظاهرِ والباطنِ والأثرِ القبيحِ في اللسان ، أما تغيرُ الظاهرِ ، فبتغيرِ اللونِ والرعدةِ في الأطرافِ ، وخروجِ الأفعالِ من غيرِ ترتيبٍ ، واستحالةِ الخِلقَةِ ، بحيثُ لو رأى الغضبانُ نفسَهُ لا ستحيا من قبحِ صورتِهِ ، وأما الباطن أشدُ ، لأنه يُولدُ الحقدَ في القلبِ والحسدَ ، وإضمارَ السوءِ على اختلافِ أنواعِهِ ، بل تغيرُ ظاهرِهِ ثمرةُ تغيرِ باطنِهِ ، وأما أثرُهُ في اللسانِ فانطلاقُهُ بالشتم والفحشِ الذي يستشحى منه العاقلُ ، ويندمُ قائلُهُ عند سكونِ الغضب ، ويظهرُ أثرُ الغضبِ أيضا في الفعلِ بالضربِ أو القتلِ ، وإن فات ذلك بـهروبِ المغضوبِ عليه رَجَعَ الغضبانُ إلى نفسِهِ فيمزقُ ثوبَه ، ويلطمُ خدَهُ ، وربما سقطَ صريعاً ، وربما أُغميَ عليه ، وربما كسر الآنيةَ ، أو ضربَ من ليس له جريمةٌ في ذلك .
3-الأمر بالأخلاق التي إذا تخلق بها المرء وصارت له عادة دفعت عنه الغضب عند حصول أسبابه ، كالكرم والسخاء ، والحلم والحياء ، والتواضع والاحتمال ، وكف الأذى ،والصفح والعفو، وكظم الغيظ والشر ، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة
وخرَّج الترمذي هذا الحديثَ من طريق أبي حصين أيضاً ولفظُه : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله علِّمني شيئاً ولا تُكثر عليَّ لَعَلِّي أعيه ، قال : (( لا تَغْضَب )) ، فردد ذلك مراراً كلُّ ذلك يقول : (( لا تغضب )) وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال : قلتُ : يا رسولَ الله ، دلني على عمل يُدخلني الجنَّة ولا
تُكثِرْ عليَّ ، قال : (( لا تَغْضَب )) . فهذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها ؛ لكثرتها ، فوصَّاه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا يغضب ، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مراراً ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يردِّدُ عليه هذا الجوابَ ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير.
ولعلَّ هذا الرجلَ الذي سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هو أبو الدرداء ، فقد خرَّج الطبراني من حديث أبي الدرداء قال : قلتُ : يا رسولَ الله دلني على عمل يدخلني الجنَّة ، قال : (( لا تَغْضَبْ ولكَ الجَنَّةُ )) .وقد روى الأحنفُ بنُ قيسٍ ، عن عمه جارية بن قدامة : أنَّ رجلاً قال :يا رسولَ اللهِ قُلْ لي قولاً ، وأقْلِلْ عليَّ لعلي أعقِلُهُ ، قال : (( لا تغضبْ )) ، فأعاد عليه مراراً كُلُّ ذلك يقول : (( لا تَغضَبْ )) خرَّجه الإمام أحمد.فهذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها ؛ لكثرتها ، فوصَّاه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا يغضب ، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مراراً ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يردِّدُ عليه هذا الجوابَ ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخي .
وخرَّج الإمامُ أحمد((2)) من حديث الزهري ، عن حُميد بنِ عبد الرحمان ، عن رجلٍ من أصحاب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : قلتُ : يا رسولَ الله أوصني ، قال : (( لاتَغْضَبْ )) قال الرجل : ففكرتُ حين قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما قال ، فإذا الغَضَبُ يجمع الشرَّ كُلَّه ، وخرَّج الإمامُ أحمد((4)) من حديث عبد اللهِ بن عمرو : أنَّه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ - عز وجل - ؟ قال : (( لا تَغْضَب )) . وقيل لابنِ المبارك : اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة ، قال : تركُ الغضبِ .
وكذا فسَّر الإمام أحمد ، وإسحاقُ بنُ راهويه حسنَ الخلق بتركِ الغضب ، وقد رُوي ذلك مرفوعاً ، خرَّجه محمدُ بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " ((1)) من حديث أبي العلاء بنِ الشِّخِّير : أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِن قِبَلِ وجهه ، فقالَ : يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ ؟ قالَ : (( حُسْنُ الخلق )) ثُمَّ أتاه عن يمينه ، فقالَ : يا رسول الله ، أيُّ العمل أفضل ؟ قال : (( حسنُ الخُلُقِ )) ، ثم أتاه عن شِماله ، فقال : يا رسول الله ، أيُّ العمل أفضل ؟ قال : (( حسنُ الخُلُقُ )) ، ثم أتاه من بعده ، يعني : من خلفه ، فقال : يا رسولَ الله أيُّ العملِ أفضلُ ؟ فالتفت إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( مالك لا تَفْقَهُ ! حسْنُ الخُلُقِ هو أنْ لا تَغْضَبَ إنِ استطعْتَ )) . وهذا مرسل .
فقولُه - صلى الله عليه وسلم - لمن استوصاه : (( لا تَغْضَبْ )) يحتَمِلُ أمرين :أحدُهما : أنْ يكونَ مرادُه الأمرَ بالأسبابِ التي تُوجبُ حُسْنَ الخُلُقِ من الكرمِ والسخاءِ والحلمِ والحياءِ والتواضعِ والاحتمالِ وكفِّ الأذى، والصفح ِوالعفوِ، وكظمِ الغيظ ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإنَّ النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادةً أوجبَ لها ذلك دفعَ الغضبِ عندَ حصول أسبابه .
والثاني : أنْ يكونَ المرادُ : لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَل لك ، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإنَّ الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر والناهي له، ولهذا المعنى قال الله - عز وجل - : { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ } فإذا لم يمتثلِ الإنسانُ ما يأمرُهُ به غضبُهُ ، وجاهد نفسَهُ على ذلك ، اندفع عنه شرُّ الغضب ، وربما سكن غَضَبُهُ ، وذهب عاجلاً ، فكأنَّه حينئذٍ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله - عز وجل - : { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } ، وبقوله - عز وجل - : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }.
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ من غضبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ ، وتُسَكِّنُهُ ، ويمدح من ملك نفسَه عند غضبه ، ففي " الصحيحين " عن سليمانَ بن صُرَد قال : استَبَّ رجلانِ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ عنده جلوسٌ ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مُغضَباً قد احمرَّ وجهُهُ ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : (( إني لأعْلَمُ كلمةً لو قالها لذهبَ عنه ما يجد ، لو قال : أعوذُ بالله من الشَّيطان الرجيم )) فقالوا للرجل : ألا تسمعُ ما يقولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : إني لَسْتُ بِمجنونٍ .
وخرَّج الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديث أبي سعيد الخُدري : أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خُطْبته : (( ألا إنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ في قلبِ ابنِ آدمَ ، أفما رأيتُم إلى حُمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه ، فمن أحسَّ من ذلك شيئاً فليَلْزَقْ بالأرضِ )) .
وخرَّج الإمامُ أحمدُ((4) وأبو داودمن حديث أبي ذرٍّ : أنَّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا غَضِبَ أحدُكُم وهو قائِمٌ ، فَلْيَجْلِسْ ، فإنْ ذَهَبَ عَنه الغضبُ وإلا فليَضطجعْ )) .
وقد قيل : إنَّ المعنى في هذا أنَّ القائم متهيِّئ، للانتقام والجالس دونَه في ذلك ، والمضطجع أبعدُ عنه ، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام ، ويَشْهَدُ لذلك أنَّه رُوي من حديث سِنان بنِ سعد ، عن أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومن حديث الحسن مرسلاً عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( الغَضَبُ جَمرةٌ في قَلبِ الإنسانِ تَوَقَّدُ ، ألا ترى إلى حُمرةِ عَيْنَيهِ وانْتِفَاخِ أوداجِهِ ، فإذا أحس أحدُكُم مِنْ ذلك شيئاً ، فليَجْلِسْ ، ولا يَعْدُوَنَّه الغَضَبُ )) .
والمرادُ : أنَّه يحبسه في نفسه ، ولا يُعديه إلى غيره بالأذى بالفعلِ ، وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث ابنِ عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ ، فليَسْكُتْ )) ، قالها ثلاثاً.وهذا أيضاً دواءٌ عظيم ٌللغضبِ ؛ لأنَّ الغضبانَ يَصدرُ منه في حال غضبِهِ من القولِ ما يَندمُ عليهِ في حالِ زوالِ غضبِهِ كثيراً من السِّبابِ وغيرِهِ مما يعظم ضَرَرُهُ ، فإذا سكت زالَ هذا الشرُّ كُلُهُ عنه ، وما أحسنَ قولَ مورق العجلي - رحمه الله - : ما امتلأتُ غبضاً قَطُّ ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ . وغضب يوماً عمرُ بن عبد العزيز فقالَ لهُ ابنُه : عبدُ الملكِ - رحمهما الله - : أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضبَ ؟ فقال له : أو ما تغضبُ يا عبدَ الملك ؟ فقال عبد الملك : وما يُغني عني سعةُ جوفي إذا لم أُرَدِّدْ فيه الغضبَ حتى لا يظهر؟ فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب - رضي الله عنهم - .قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطانِ ، وإنَّ الشيطانَ خُلِقَ من النَّارِ ، وإنَّما تُطفَأُ النارُ بالماءِ ، فإذا غَضِبَ أحَدُكُم فَليَتوضَّأ )) . وأبو داود
وفي " الصحيحين " عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لَيْسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَبِ )) .وفي " صحيح مسلم "عن ابن مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( ما تَعُدُّوَن الصُّرَعَةَ فيكم ؟ )) قلنا : الذي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ ، قال : (( ليس ذلك ، ولكنَّه الذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغضبِ )) .
وخرَّج الإمامُ أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث معاذ بن أنس الجهني ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( مَنْ كَظَمَ غَيظاً وهو يَستطيعُ أنْ يُنفذه ، دعاه الله يومَ القيامة على رؤوس الخلائق حتَّى يخيره في أيِّ الحورِشاء )) .
وخرَّج الإمامُ أحمد من حديث ابن عمر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما تَجَرَّع عبدٌ جُرعَةً أفضلَ عندَ اللهِ من جُرعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُها ابتغاءَ وجهِ الله - عز وجل - وقال الحسن : أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان ، وحرَّمه على النار : مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة ، والرهبة ، والشهوةِ ، والغضبِ. فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشرِّ كُلِّه ، فإنَّ الرغبةَ في الشيء هي ميلُ النفس إليه لاعتقاد نفعه ، فمن حصل له رغبةٌ في شيءٍ ، حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يَظُنُّه موصلاً إليه، وقد يكون كثير منها محرماً ، وقد يكون ذلك الشيءُ المرغوبُ فيه مُحرَّماً .
والرهبة : هي الخوفُ من الشيء، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكلِّ طريق يظنه دافعاً له ، وقد يكون كثير منها محرَّماً .
والشهوة : هي ميلُ النفس إلى ما يُلائمها ، وتلتذُّ به ، وقد تميل كثيراً إلى ما هو محرَّم كالزنا والسرقة وشرب الخمر ، بل وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع . والغضب : هو غليانُ دم القلب طلباً لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه ، أو طلباً للانتقامِ ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه ، وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان ، وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش ، وربما ارتقى إلى درجة الكفر ، كما جرى لجبلة بن الأيهم ، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعاً ، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ .
والواجبُ على المؤمن أنْ تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه الله له ، وربما تناولها بنيةٍ صالحةٍ ، فأثيب عليها ، وأنْ يكونَ غضبه دفعاً للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاماً ممن عصى الله ورسولَه ، كما قال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ }.
وهذه كانت حالَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فإنَّه كان لا ينتقِمُ لنفسه ، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله لم يَقُمْ لِغضبه شيء ,ولم يضرب بيده خادماً ولا امرأة إلا أنْ يجاهِدَ في سبيل الله. وخدمه أنس عشرَ سنين ، فما قال له : (( أفٍّ )) قط ، ولا قال له لشيء فعله : (( لم فعلت كذا )) ، ولا لشيء لم يفعله : (( ألا فعلت كذا )) . وفي رواية أنَّه كان إذا لامه بعضُ أهله قال - صلى الله عليه وسلم - : (( دعوه فلو قُضي شيءٌ كان )). وفي رواية للطبراني قال أنس : خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، فما دَرَيْتُ شيئاً قطُّ وافقه ، ولا شيئاً قط خالفه رضي من الله بما كان .
وسئلت عائشةُ عن خُلُقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : كان خُلُقُه القُرآن، تعني : أنَّه كان تأدَّب بآدابه ، وتخلَّق بأخلاقه ، فما مدحه القرآن ، كان فيه رضاه ، وما ذمه القرآنُ ، كان فيه سخطه، وجاء في رواية عنها ، قالت : كان خُلُقُه القُرآن يَرضى لِرضاه ويَسخَطُ لسخطه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - لِشدَّةِ حيائه لا يُواجِهُ أحداً بما يكره، بل تعرف الكراهة في وجهه ، كما في " الصحيح " عن أبي سعيد الخدري قال : كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها ، فإذا رأى شيئاً يكرهه ، عرفناه في وجهه ، ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ قَولَ القائل : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، شقَّ عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وتَغيَّر وجهه ، وغَضِبَ ، ولم يَزِدْ على أنْ قال : (( قد أوذِيَ موسى بأكثر من هذا فصبر )).
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ، أو سَمِعَ ما يكرهه الله ، غَضِبَ لذلك ، وقال فيه ، ولم يَسْكُتْ ، وقد دخل بيتَ عائشة فرأى ستراً فيه تصاويرُ ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه ، وقال : (( إنَّ مِنْ أَشدِّ النَّاسِ عذاباً يومَ القيامةِ الَّذينَ يُصوِّرُونَ هذه الصُّورَ )) . ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه ، غَضِبَ ، واشتد غضبُه ، ووَعَظَ النَّاسَ ، وأمر بالتَّخفيف .
ولما رأى النُّخامَةَ في قبلة المسجد ، تَغَيَّظ ، وحكَّها ، وقال : (( إنَّ أحدَكُمْ إذا كان في الصَّلاةِ ، فإنَّ الله حِيالَ وَجْهِهِ ، فلا يَتَنخَّمَنَّ حِيال وجهه في الصَّلاةِ )) .وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : (( أسألك كَلِمَةَ الحقِّ في الغضب والرِّضا )) وهذا عزيز جداً ، وهو أنَّ الإنسان لا يقولُ سوى الحقِّ سواءِ غَضِبَ أو رضي ، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول .
وخرَّج الطبراني من حديث أنس مرفوعاً : (( ثلاثٌ من أخلاقِ الإيمان : مَنْ إذا غَضِبَ ، لم يُدخله غضبُهُ في باطلٍ ، ومن إذا رَضِيَ ، لم يُخرجه رضاه من حقٍّ ، ومن إذا قَدَرَ ، لم يتعاطَ ما ليسَ له )) .
وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( أنَّه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان أحدُهما عابداً ، وكان الآخرُ مسرفاً على نفسه ، فكان العابدُ يَعِظُهُ ،فلا ينتهي ، فرآه يوماً على ذنبٍ استعظمه ، فقال : والله لا يَغفِرُ الله لك ،فغفر الله للمذنب ، وأحبط عملَ العابد )) . وقال أبو هريرة : لقد تكلَّم بكلمة أوبقت دنياه وآخِرتَه ، فكان أبو هريرة يُحَذِّرُ الناسَ أنْ يقولوا مثلَ هذه الكلمة في غضب . وقد خرَّجه الإمامُ أحمد.ثم إنَّ من قال مِن السَّلف : إنَّ الغضبان إذا كان سببُ غضبه مباحاً، كالمرض، أو السفرِ ، أو طاعةٌ كالصَّوْم لا يُلام عليه إنَّما مرادُه أنَّه لا إثمَ عليه إذا كان مما يقع منه في حال الغضب كثيراً من كلام((1)) يُوجِبُ تضجراً أو سباً ونحوه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّما أنا بَشَرٌ أرضى كما يرضي البَشَرُ ، وأغْضَبُ كما يَغْضَبُ البشر ، فأيُّما مسلم سببتُه أو جلدتُه ، فاجعلها له كفارةً )).
فأما ما كان من كفر ، أو ردَّةٍ ، أو قتل نفس ، أو أخذ مالٍ بغير حقٍّ ونحو ذلك ، فهذا لا يشكُّ مسلم أنَّهم لم يُريدوا أنَّ الغضبانَ لا يُؤاخذُ به ، وكذلك ما يقعُ من الغضبان من طلاقٍ وعَتاقٍ، أو يمينٍ، فإنَّه يُؤاخَذُ بذلك كُلِّه بغيرِ خلافٍ .