المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السميط رجل بأمة وأمة في رجل


المراقب العام
16-01-2014, 04:09 PM
http://www.up-aa.com/upfiles/rMZ10089.jpg

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم اهدني وسددني

" السميط رجل بأمة وأمة في رجل "

الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكانوا بالحق قائمين، وبالصدق قائلين، ولسُنَّة رسول الله الكريم على طول الدهور والأزمان متبعين، فما وهنوا وما ضعفوا لذلك، بل كانوا من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، هؤلاء صافهم الله فصفَّاهم فاصطفاهم فكانوا من صِفِةِ الصفوة، حتى صاروا من المصطفين الأخيار، وأصبح الواحد منهم في الأمة أمة، فأحيى الله بهم الملة، ونصر بهم السنة، وأعلى بهم منار الإسلام، ونشر بهم أعلام الدين، فكانوا في الأمة مجددين، وعن الدين منافحين، وبالأمر قائمين، وعن المنكر ناهين؛ والصلاة والسلام على رسول الله خير عباد الله القائمين بأمر الدين، والباذلين له، وعلى آله وصحبه المتبعين لهديه، القائمين بعده بالدعوة والجهاد، والبذل والتضحية، وبعد:

فإن الله قد تَكَفَّلَ بحفظ هذا الدين، وامتنَّ على الأمة بكماله وتمامه، فقال سبحانه:]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيْنَاً [[المائدة:3]، فإذا كان الله قد أكمل دينه، وأتم نعمته، فما بقي على العباد إلا شكر الله بالمحافظة على دينهم، والسعي لتطبيقه في أنفسهم ومجتمعاتهم، ونشره بين الناس، وبيانه وبذله لجميع الخلق، ولا يتحقق ذلك إلا برجالٍ هم في الأمة أعلامًا، وللملة أوتادًا، جمعوا خصال المعروف، ومكارم الخلاق.

قومٌ هم للخير باذلون، ولنصرة الدين مسابقون، باعوا الفاني بالباقي، وزهدوا في الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، يرون مُوْعُود الله أمام أعينهم شاخصًا، فهم بذلك مصدقين بوعده، ] وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[[الروم:6].

سيكون حديثي عن رجل من عظماء هذا العصر، ليس من أبطال هوليود أو بوليود بل هو من أبطال التضحية والعطاء، وأبطال الصبر والإباء، اختار القارة السوداء لأداء دوره البطولي، ورسالته العظيمة فكانت البداية في عام:1401ه، وظل هذا العظيم ببذله ما يقرب من ثلاثين عاماً، يقدم ويضحي، ويبني ويؤسس، حتى كان ثمرة جهده، ونتاج عطائه ما يلي:

أولاً: إسلام أكثر من عشرة ملايين شخص على يديه.
ثانياً: بناء ما يقرب من ستة آلاف مسجد.
ثالثاً: بناء وتسيير ما يقرب من تسعِ مئة مدرسة.
رابعًا: بناء وتسيير خمس جامعات.
خامساً: إنشاء أكثر من مائتي مركز إسلامي.
سادساً: إنشاء سبع محطات إذاعية.
سابعًا: إنشاء ما يقرب من سبعين مستشفاً ومستوصفاً.
ثامنًا: حفر أكثر من عشرة آلاف بئر.
تاسعًا: توزيع أكثر من سبعة ملايين مصحفاً، وترجمة لمعاني القرآن الكريم.
عاشرًا: كفالة أكثر من خمسين ألف يتيم.
الحادي عشر: تعليم أكثر من نصف مليون طالباً.
هذا عمل رجلٍ واحد، لكنه:" رجل بأمة، وأمة في رجل"، يقوم بما تعجز عن القيام به دولا.

هذا الرجل هو: خادم الفقراء، وناصرُ الدعوة، هو الباذل الناصح، والمضحي الصادق، والداعية الحكيم الصابر، صاحب الهمة العالية، والنفس الرضية، القدوة الحق، والرجل الصدق، صاحب القلب الكبير، والصدر السليم، الطبيب الجاد، والأمين المخلص، داعيةُ القارة السمراء، وإمام الدعوة في أفريقيا السوداء، الشيخ الطبيب عبدالرحمن بن حمود السميط رحمه الله تعالى.
جمع المحاسن والمحامد كلها --- وسعى إلى شَرَفِ الفضائل والعلا
هذا الإمام - رحمه الله تعالى - من مواليد دولة الكويت عام: 1947م، ونشأ بها وكان منذ نعومة أظفاره متمثلاً دين ربه، متمسكًا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أيام دراسته الثانوية يحرص على مساعدة العمالة الفقيرة، والسعي لقضاء حوائجهم، فعندما كان يرى العمالة الفقيرة ينتظرون في الحر الشديد حتى تأتي المواصلات فما كان منه إلا أن جمع هو وبعض أصدقائهبعض المال، واشترى به سيارة قديمة وكان كل يوم يحمل هؤلاء العمالة حيث يريدون رحمة بهم، وإحساناً إليهم.

ولما أتم دراسته الثانوية درس الطب بجامعة بغداد، وتخرج فيها، وقد تعرض للاعتقال من قبل البعثيين، وعذبوه عذابًا شديداً بسبب تمسكه بدينه، ومساعدته للمحتاجين هناك، وبعدما أتم الدراسة الجامعيةغادرإلى جامعة ليفربول في المملكة المتحدة للحصول على دبلوم أمراض المناطق الحارة، ثم سافر إلى كندا واستكمل دراسته العليا في الأمراض الباطنية، والجهاز الهضمي، وهناك أسس ورأس جمعية الأطباء المسلمين في كندا عام: 1976م.

ولما أنهى دراسته عاد للعمل في أشهر المستشفيات الكويتية، وعمل فيها لمدة ثلاث سنوات، وفي تلك الفترة لم يكن الشيخ طبيباً عادياً بل طبيباً فوق العادة، إذ بعد أنينتهي من عمله المهني، كان يتفقد أحوال المرضى، ويسألهم عن ظروفهم وأحوالهم الأسرية والاجتماعية والاقتصادية،ويسعى في قضاء حوائجهم، ويطمئنهم على حالاتهم الصحية.

لكن مع كل هذه النجاحات الأكاديمية لم يجد هذا الرجل ما يحقق مناه، ويُشبع رغبته، فكان يبحث عن عملٍ يجد نفسه فيه، فكأنه لم يجد نفسها في الطب، فأخذ يبحث عما يحقق أمنيته، ويتم عليه رغبته فأخذ يبحث عن العمل الخيري الدعوي، فأخذ يطرق الأبواب الرسمية النظامية، ولكنه لم يجد جدوى بعد عدة محاولات، حتى أراد الله له أمرًا هو خيرٌ له، وبرًا هو له أحسن، ألا وهو الدعوة في أفريقيا والبذل لدين الله هناك.

وإن تعجب فعجبٌ أن تعلم أن وراء هذا العظيم في دعوته ونجاحه امرأتان:

أما الأولى، فهي زوجته الداعية المحتسبة، الصابرة المضحية أم صهيب التي كانت تقول له: أنت ليس مكانُك الطب بل الدعوة إلى الله، وإغاثة المحتاجين، ليس هذا فحسب بل شاركته في دعوته كثيراً بنفسها، ومالها، وبل وبولدها، فقد كانت تهاجر معه إلى أدغال أفريقيا للدعوة إلى الله - تعالى -، وإغاثة الملهوفين، وإطعام الفقراء، ورعاية الأيتام، مع شظف العيش، وبؤس المكان.

وأما الأخرى، فهي صاحبة أول دعمٍ شق به الشيخ طريق دعوته في بلاد أفريقيا،ففي ذات يوم جاءته عجوزٌ بتبرع تريده في بناء مسجد، يقول الشيخ: فقررت أنا وبعض الإخوة أن نذهب إلى أفريقيا لبناء المسجد والعودة فقط، لكن عندما ذهبنا إلى أفريقيا رأيت أمراً عظيماً، رأيت الناس بحاجة ماسة لكل أنواع الدعوة والتعليم، والإغاثة والإعانة...

فيا سبحان الله يُرجى أن يكون عملُ هذا الشيخ الكريم في ميزان حسنات هاتين المرأتين اللتين نحسبهما مخلصتين والله حسيبهما.

فينبغي للعبد أن لا يحتقرن من العمل شيئًا، وأن يحرص على بذل الخير فإن لله فضائل متتابعةٍ لا يعلم بها إلا هو، فقد يدرك العبد رحمة من الله بعمل يسير، فلا يحرم العبد نفسه فضل ربه، والله يقول:] ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[ [الجمعة:4].

وبعد أن ذهب الشيخ إلى أفريقيا في أول زيارة له وكانت في عام 1401ه ورأى الوضع هناك، وما هم فيه من الجهل، ومن ذلك أن كثيراً من الأئمة لا يعرفون قراءة الفاتحة، فكيف بغيرهم، فرأى الجهل الفظيع، وأدرك انتشار حملات التبشير التي تجتاح صفوف فقرائهم، أخذ على عاتقيه حمل هم الدعوة إلى الله، وبذل الجهد في خدمة المسلمين، ودعوة غيرهم إلى الإسلام، فأخذ يبذل وقته كله للقارة السمراء؛ وبذل في ذلك جهدًا عظيمًا تعجز عنه دول بأكملها، ولاقى في سبيل ذلك أصنافًا من المحن والإحن، والبلايا والرزايا، وتعرض لمحاولات اغتيال كثيرة، بل وقد تعرض لهجوم السباع عليه، والحيات والحشرات، ومع ذلك كان غاية في البذل والتضحية، والصبر والمصابرة في الدعوة إلى الله، وظل في أفريقيا ما يقرب من ثلاثين عامًا يدعو إلى دين الإسلام، ويعلم الناس القرآن، ويبذل للفقراء الإحسان، في همة شاب لا يهرم، وفي نفس مجاهدٍ لا يكل ولا يقنط، فصدق فيه قوله صلى الله عليه وسلم :«لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ» أخرجه ابن ماجة(8)، عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه .

كان ينطلق - رحمه الله تعالى - في دعوته من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقوم على الرفق والإحسان، واللين والتواضع، وحسن الخلق، واحتواء الناس، واحترام مشاعرهم، مع البساطة التامة.

لقد كان - رحمه الله تعالى - ذو مكانة علمية واجتماعية رفيعة، ومع ذا لم تحمله مكانته الاجتماعية، ولا درجته العلمية، ولا بيئتُه الخليجية أن يحتقر أهل القارة الإفريقية، بل لو رأيته وهو يحتضن الفقراء والمساكين، ويضم الأيتام والمستضعفين، لو رأيته وهو يواسي المعوزين، ويزور الأرامل والثكالى، ويعالج المصابين والمرضى، ويلاعب الصغار والصبيان، ويُطعم بيديه الطعام، ويسقي الحليب للأطفال، ويُعلم الجاهل، ويقيم في بعض البلدان أياماً يعلمهم الصلاة، ويفقههم في دين الله، لو رأيت ذلك لعلمت أن هذا الرجل قد ربى نفسه على التواضع والبذل؛ فهو متواضع غاية التواضع، كان يقول - رحمه الله تعالى - :(تعلمت أن أدوس على نفسي من أجل خدمة الآخرين )، وهذه أهم صفة للداعية إلى الله، أن يتجرد من حظوظ نفسه، وأن يتواضع لله في دعوته.

لقد كان الشيخ يكره الظهور، فقد ظل ما يقرب من عشرين سنة لا يظهر في الإعلام، ولا يُحب الأضواء، راجياً الثواب من الله، فلما رأى المصلحة في الظهور بادر لذلك، وحرص على دعوة الناس للبذل لإخوانهم والمشاركة في قضيتهم.

لقد كان - رحمه الله تعالى - سبَّاقًا لخدمة كل الناس مُسْلِمِهِمْ وكَافِرِهِم، فقد أعان قرىً كاملة في قحطهم وجدبهم، بل تعدى إحسانه لقساوسة النصارى ورهبانهم، فقد عالج قساوسة مما أصابهم من أمراض، كل ذلك منه رجاء دعوتهم لدين الإسلام، وكان يُحسن لمن أساء إليه منهم، ومن ذلك ما ذكره بنفسه: بقوله:( تعطلت سيارتي في الصحراء فمر بي وبمن معي قسيس نصراني وأتباعه فطلبت منهم المساعدة فرفضوا - يقول - ثم أصلحنا السيارة ومشينا، وبعد ساعاتإذ بالقسيس ومن معه قد تعطلت بهم سيارتهم وهم ينتظر من يُساعدهم، فوقفنا وأصلحنا سيارتهم، فكانت النتيجة أن أسلم القسيس ومن معه)، هذه أخلاقه، وهذه دعوته رحمه الله تعالى.

لقد طاف قارة أفريقيا داعية ومغيثاً، ومعلماً ومربياً، وناصحاً ومصلحاً، يستخدم في دعوته الرفق واللين، والكلمة الطيبة، والنصيحة الصادقة، والهدية المتواضعة، ويُجادل أهل الإشراك والأوثان بالموعظة الحسنة، مع الصبر والدعاء لهم.

لقد كان هدفه واضحاً، ومنهجه بيناً، فقد كان هدفه بناء أهل أفريقيا بناءً علمياً وعملياً، وسلوكياً وتربوياً، وإدارياً وتقنياً، عن طريق تقديم الغوث لهم، وبهذا الهدف فقد تَخَرَّجَ من تحت يده، ومن دور رعايته أساتذةُ جامعات، وأطباءُ، وخبراء، ومدراءُ مدارس، وأهلُ تقنية وهندسة، يقول - رحمه الله تعالى - قبل خروجه بسبب المرض من أفريقيا بعامين:( أشعر بالفخر عندما أرى الأيتام الذين كانوا مشردين، حفاة الأقدام هم اليوم أطباء، ومهندسون، وأساتذةُ جامعات، ومدراءُ مدارس، وخبراءُ في أماكن مختلفة، أشعر بالفخر أن جهدي خلال ثمانٍ وعشرين سنة أرى أن الله كافأني فيه أني رأيت النتائج الآن).

لقد كان الشيخ مُفَرِّغًا وقته كلَّه للدعوة إلى الله، وبَذْلُ الوسْعِ في ذلك، ومن عجيب أمره أنه كان لا ينزل للكويت إلا لماماً، جُلُّ وقته في أفريقيا، حتى أنه من طول غيابه عن أبنائه كان إذا جاء إلى الكويت يستوحش منه أصغر أبنائه، فلما كبر أبناؤه وبناته جيشهم لخدمة الدين فكانوا معه في أفريقيا باذلين، وفي الدعوة ساعين، ولخدمة الفقراء والمساكين من المشاركين.

لقد كان - رحمه الله - أميناً على أموال المتبرعين، ناصحاً في بذلها في وَجْهِهَا، فلم يتنعم بأموال المحسنين في أرقى الفنادق، ولا ألذ المطاعم، بل كان ينام مع الفقراء، ويبيت أحياناً كثيرة في العراء، فكان لدعوته أثراً، ولعمله بركة، كان يقول - رحمه الله تعالى -:( أموال الناس التي دفعوها لعمل الخير لا يمكن أن أفرط في ريالٍ واحدٍمنها)، بل لما حصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام والمسلمين عام: 1995م، وكانت تقدر بسمع مئة وخمسين ألفاً، تبرع بها جميعاً للعمل الخيري بأفريقيا، ولم يأخذ منها ريالاً واحداً.

ولقد كان - رحمه الله تعالى - لا يقدم نفسه على الفقراء، بل كان يوفر الدواءلهم، ولا يُريد أن يأخذ الدواء دونهم حتى أنه مرة أصيب بالملاريا والدواء في جيبه، فقاوم المرض، وكان يقول:( الفقير لا يستطيع أن يأخذه فكيف آخذه)، لكن المرض بلغ به مبلغاً أشرف معه على الموت فأخذ الدواء، وهو يرى أنه مضطراً لأخذه، فكان يهب كل شيء للفقراء، ولا يُريد أن يأخذ شيئاً لنفسه.

نحسب أن الله قد أحب هذا الرجل فاستعمله لخدمة دينه، ووفقه للعمل الصالح فأعانه على البذل فيه؛ إن العمل الخيري، والدعوةَ إلى الله الجليل ما هو إلا محض منة الله العلي، وتوفيق الكريم المنان، يقول صلى الله عليه وسلم :«إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ »، فَقِيلَ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:« يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ » أخرجه أحمد(19/94)، والترمذي(2142) عن أنس رضي الله عنه ، ألا فأكثر من سؤال الله التوفيق والتسديد، فإنه هو الموفق والهادي إلى السواء السبيل.

الشيخ عبدالرحمن السميط هو واحد من الناس، يحب الراحة كما نحبها، ويحب الطعام كما نحبه، وكذا النساء كما نحبهن، ويتشوف للمال كما نتشوف إليه، ويرغب في الترقي في المناصب كحال كل الناس، لكن هذا الرجل أيقن أنَّ ما عند الله هو خيرٌ من هذا كله، فقدم مراد الله على مراده، ورَغِب في ثواب الله على هوى نفسه فهجر الدنيا بلذاتها، وأقبل على الله في سيره ودعوته فكان مثالاً رائعاً للداعية الباذل، والمضحي الناصح، والمحسن الصادق.

ما جعل هذا الرجل يتحمل هذا العبء ويبذل هذا البذل لقضيته التي جعلها هدفه إلا لما شاهد بعينيه جهود المُنَصرين في أفريقيا، وبذلهم لدعوتهم، فإذا علمتم أن المجلس الكنسي العالمي قد فرغ أكثر من سبعة ملايين ونصف داعية للنصرانية، وهم مدعومون بأكثر من أربع مليارات دولار سنوياً، وبأسطول جوي يُقدر بأكثر من ثلاث مئة وستين طائرة، وببث إذاعي يُقدر بأكثر من أربعة آلاف إذاعة ومحطة، أيقنتم حجم هذه الحملة الشرسة على بلاد المسلمين من النصارى الحاقدين، لكن الله قد جعل هذا الشيخ وأمثالَه سدًا منيعاً أمام مؤامرات الفاتيكان وتسلطهم، يقول الشيخ مرة:( كنت في رحلة دعوية وكانت في رمضان، فقلت لمن معي أريد أن أذهب إلى مكان لم يصله أحد من الدعاة إلى الآن، فقالوا: لكنه مكان بعيد، وطريقه شاق لا تصل إليه السيارات، إنما تسير إلى مكان قريب منه ثم يكون بعد ذلك السير على الأقدام، - قال الشيخ - فقلت لهم: لا إشكال عندي، قالوا: نذهب غداً من الصباح ولعلنا نصل المغرب أو قبله بقليل، قلت: خيراً، ولما صلينا الفجر عزمنا على الذهاب وكانت معنا سيارة وكانت تمشي قليلاً وتتوقف قليلاً لإصلاح الطريق وذلك لوعورته، - يقول الشيخ - وعندما كُنَّا في بعض الطريق وصلنا إلى منطقة خضراء كثيرة الأشجار فقلت للسائق: توقف، وكنت أريد أن أرفع الأذان في هذا المكان الذي ظننت أنه لم يذكر الله فيه، وعندما توقف السائق، خرجت من السيارة لأرفع الأذان، وإذا بي أرى منظراً غريباً، امرأة شقراء في أفريقيا السوداء تجوب الغابة، فقلت لمن معي: من هذه؟! قالوا: امرأةٌ لها خمس سنوات هنا؛ قلت: ماذا تفعل هنا؟! قالوا: إنها امرأة نصرانية تدعو لدينها، يقول فأصابني همٌ عظيم ولم أستطع أن أرفع الأذان من عِظَمِ هذا المنظر عليَّ)، امرأة في أدغال أفريقيا تدعو إلى دين محرف، في صبر وجلد وليس لمدة أيام أو أشهر بل لمدة سنين عجاف، فقر وجوع ومرض وخوف وهذه متجلدة تدعو إلى دينها، فيا سبحان الله ما أجلد أهل الباطل!.

فأين أنتم أيها الدعاة فضلاً عن الداعيات عن خدمة دينكم عن مثل هذا الجهد والظنك والعناء الذي تقوم به امرأة في خدمة دين محرف أبطله الإسلام؟!

إن العمل للدين شرف وأي شرف، فلا يتحمله إلا الشُّرفاء، ولا يقوم به إلا العظماء، ولا يبذل له إلا الخُلَّص من الأصفياء، فإذا رغبت أن تكون من أهل هذا الشرف فكن مع الداعين، وسابق لتكون من الباذلين لخدمة دين رب العالمين، فإن الدنيا فانية، والآخرة باقية، فمن استشعر ذلك كان له دافعاً، وهذا كان دافع الشيخ - رحمه الله تعالى -، يقول:( يوم من الأيام سنموت، ويوم من الأيام سندخل القبر، ماذا أعددنا لهذا اليوم، والله إن الكفن ليس له جيوب، والله إن القبر لمظلم وضيق ورطب ومليء بالحشرات فماذا أعددت له).

لقد قضى الشيخ أكثر من ربع قرن فيأفريقيا، وكان لا يأتي للكويت إلا فقط للزيارة أو العلاج، ولقد كانت سلسلة رحلاته في أدغال أفريقيا، وأهوال التنقل في غاباتها تُعد نوعاً من الأعمال الاستشهادية بتعريض نفسهللخطر لأجل أن يحمل الإسلام والغوث لأفريقيا بيد فيها رغيف، ويد فيها مصباح نور وكتاب, وسلاحه المادي جسده المثخن بالأمراض، وأما سلاحه الإيماني فآيات استقرت في قلبه.

لقد كان همه واحداً، ودعوته متواصلة، ولا تستغرب إذا قلت لك أن هذا الشيخ الداعية، وإمام الدعوة في أفريقيا كان جسده محملاً بالأمراض، فقد كان يعاني من مرض السكري ويستخدم إبر الأنسولين خمس مرات في اليوم، وكان يعاني من ارتفاع ضغط الدم، وضعف عضلة القلب، ونقص في وظائف الكلى، وضعف شديدٍ في البصر، واحتكاك في الركبتين، وآلام في القدمين والظهر، وقد أصيب بعدة جلطات في الرأس والقلب، وكان يتناول يومياًأكثر من عشرة أنواع من الأدوية، ومع هذا فهو يسابق للعمل، ويشتهي مواصلة البذل، فكانت أمنيته أن يعيش مع الأيتام، ويحادثهم بعد صلاة العصر أو صلاة الفجر كما يقول، وقال مرة - رحمه الله تعالى -:( أنا أريد أن أعيش في أفريقيا وأموت في أفريقيا، أنا أحب أفريقيا، وأحب الأفارقة على الرغم ما يعتري الإنسان في أفريقيا من قلة الإمكانيات)، فا يا لله أين الأصحاء وأهل المال عن مثل هذا العطاء.

وصدق أبو الطيب:
وإذا كانت النُّفوسُ كِباراًتَعِبَت في مُرادِها الأجسامُ.
لما قيل للشيخ - رحمه الله – متى ستلقي عصا الترحال؟ فكان الجواب منه مجلجلاً، قال:(سألقي عصا الترحال يوم أن تضمن الجنة لي، وما دمت دون ذلك فلا مفر من العمل حتى يأتي اليقين فالحساب عسير، كيف يراد لي أن أتقاعد وأرتاح والملايين بحاجة إلى من يدلهم على للهدية، وكيف أرتاح بدنياً وكل أسبوع يدخل الإسلام العشرات من أبناء الأنتيمور من خلال برامجنا، ونرى كل يوم أن المناوئين للإسلام لا يدخرون جهداً ولا مالاً في سبيل إبعاد أبناء هذه القبيلة التي كانت عربية مسلمة عن الإسلام، وينفقون كل سنة عشرات الملايين ولديهم عشرات من العاملين هنا) هذا جواب الشيخ فلله أبوه.

وما زالالشيخ – رحمه الله تعالى - يعمل في الدعوة رغم كبر سنة، ورقة عظمه، وضعف جسده، وصعوبة حركته، وتثاقل قدماه وذلك حتى أثقله المرض جداً، فاضطر اضطراراً للرجوع إلى الكويت وبقي فيها يعاني آلام الأمراض، وظل مريضاً ملازماً للفراش لأكثر من عامين حتى كان يوم الخميس السابع من شهر شوال لهذا العام وافته المنية، فرحمه الله وعفا عنه.

لقد كان عظيمًا، وجنازته مهيبة، وانتشر بين الناس ذكره الحسن، والذكر الحسن والثناء الطيب علامة صدق في مثل هذا الموقف.

إن التأمل في سير هؤلاء العظماء ليرفع من الهمة، ويعجل بالعمل لبلوغ القمة، ويسارع للبذل والتضحية، ويجعل الصغير كبيراً، والوضيع عظيمًا.

قد لا تستطيع أن تكون مثل هذا الجبل، لكن اجعل لك في التأريخ مكانًا، ولك في الحياة بصمة وأثراً، اجعل لك في مجتمعك، في حيك، في قبيلتك، في عملك في أي مكان، اجعل لك أثراً، فالمؤمن كالغيث أينما حل نفع.

وأخيرًا، فلقد أجمع كل من عرف الشيخ بأنه:" رجل بأمة، وأمة في رجل "؛ اللهم فارحم الشيخ عبدالرحمن، واجعل درجته في عليين، واخلفه في عقبه يا رب العالمين، اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراً، واجعل كل ما بذله في ميزان حسناته، اللهم تقبل سعيه، وتجاوز عن خطئه وتقصيره يا رب العالمين، اللهم آمين.




بقلم
الفقير إلى عفو سيده ومولاه
د. ظَافِرُ بْنُ حَسَنْ آل جَبْعَان