المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أوّل الكلمات.. اقرأ.!


فوزية محمد
10-11-2009, 01:07 PM
أوّل الكلمات.. اقرأ.!



عدنان كنفاني



كيف جئتُ إلى هذا المكان.؟ أيّ ريحٍ حملتني إليه.. أسمعُ وأرى وأحسّ.. أسبحُ في الفضاء بلا جناحين.. وأمشي بلا ساقين..
يا لصفاء روحي.!
هل تُراني رأيته في وقت ما.؟ أم أن صورته تعلّقت ذاكرتي من قراءات دفتر عزّ الدين.؟
ألمس في صفحاته الصغيرة تفاصيل المكان الموصوف، فأقرأ:
ـ تقول أمي: المخيم ليس بيتنا.! بيتنا هناك.. فيقتلني الحنين إليه، إلى سفح أخضر يفترش عتباته، ويمتد ولا يتوقف سيله الأرجواني حتى تقاطعه حبيبات عرق تلقطّها أمي بمنديلها الأبيض، يقترب المساء، تجمعنا مقاعد خشبية عليها وسادات كثيرة تتحلّق حول بركة تتوسط ساحة الدار، تصّب فيها ثلاث نوافير، وتظللها دالية عجوز تعربشت على أعواد قصب فتشابكت معها وأقامت، ترسل ظلالها ولا تتعب، وتدّلي عناقيدها ولا تنضب.. يصب أبي كأس شاي، ويريح عينيه المتعبتين في امتداد الفضاء.. كان يغفو وهو بانتظار العشاء.. هكذا قالت أمي..
أصحو من هلوسة قراءاتي، فأرى الناس حولي، يروحون ويغدون بلا ضجيج، تتهادى أجسادهم الهلامية على موجات عشب أخضر، لا ليس أخضر، بل مزيج ألوان ما رأيت مثلها إلا في حكايات أم بدر..
لو أستطيع أن أتدحرج.! أحشو في رأسي الهادئ ريح الأديم العذري الممتد حولي بجماله الخلاّب ولا أجد لحلاوته وصفاً..
ـ رأسي الهادئ هذا.؟!
الآن تذكرّت.. كنت أسير وراء تلك المرأة البدينة، كأنها أم بدر تتكئ بيدها على خاصرتها، وتنوء بحمل صرّة ثقيلة.. وكلما سألتها:
ـ ماذا تحملين يا أم بدر.؟
تضحك ملء شدقيها، تتظاهر بالخجل، تدرك أنني أعرف سرها، تطوي رأسها فيغيب نصفه بين طيّات رقبتها الغليظة..
أجد نفسي في مكان ليس بمكان، لا تحدّه حدود، أفق لازوردي واسع، تظللني ثريات ملوّنة بألوان قزح..
لا سماء ولا أرض، وبوّابة عملاقة، أرى قواعدها ولا أرى لها نهاية، على جانبيها رجال ما رأيت أبهى من طلعاتهم.. بين أيديهم ألواح وجداول حساب..
نور يتخلل كل شيء، يخترق جسدي وأجساد الناس الرائعين..
ـ ناسُ قريتنا كانوا رائعين.!
هكذا تقول أم بدر..
ترى من خلال أجسادهم أنهاراً من عسل، وأشجاراً تطرح المنّ والسلوى، وقاماتٍ فارهةً ترتدي ملابسَ بيضاء نقيّة كأنها بيارق الصحابة.
هل هي الجنّة.؟
حسبتها أم بدر، فتساءلت.. من جاء بها إلى شوارع المدينة.؟ وأعرف أن حدود حياتها لم تتجاوز قريتها، وأزقة المخيم.؟
أطلقوا عليها ألقاباً كثيرة.. أم الشهداء، أم البنين، أم المخيم.. أنجبت عشرة من الذكور، ودفنتهم واحداً بعد الآخر، عزّ الدين أصغرهم، لم يعثر أحد على جثتّه فسوّت له قبراً، دفنت فيه أشياءه وأسماله.. كان يكتب في دفتر صغير، يحافظ عليه كقطعة منه.. يوم غادرها للمرة الأخيرة أعطاها الدفتر قال لها:
ـ هذا أنا وأنت يا أمي..
ولم يرجع.!
قالوا تناثرت قامته على مساحة المعسكر، فحرثوا المنطقة بالجرارات وسووها غير ما كانت..
أذكر أنني أحضرت لها من هناك حفنات تراب دفنتها في قبره، واحتفظت بقبضة.. قالت:
ـ إن شهيداً ما سيسكنه ذات يوم..
ومسحت على رأسها، ولم ير أحد دمعة في مآقيها..
من هذه المرأة.؟ ترسل أولادها، وتستعيدهم جثثاً.!
تارةً يأتون بها من الشرق، وتارةً من الغرب.. أيّ عالم يتفق على فنائهم.؟
في ذلك المساء، وجدتُ باب دارها موارباً فدخلت، رأيتها تفتح الصرّة، وتخرج منها صرّة أخرى، فكتّها عن تراب، تراب فقط.. وضعتها أمامها، على بلاطة النافذة، وراحت تنشج بحرقة..
لحظة أحست بوجودي لم تنتفض ولم ترتبك، أخذت بيدي وأجلستني إلى جانبها..
قالت وهي تشير إلى أفق لم أتبينه:
ـ هذا أبو منصور المغربي.. وهؤلاء أولادي العشرة.. يقف وراءهم فوزي القطب.. إنهم يأتون إليّ كل مساء، يخرجون من هذا التراب، نتحدث ساعة، ثم نفترق..
ـ أنت لا تعرف فوزي القطب.؟
كان يأخذ شباب المخيم إلى البساتين والجبال القريبة، يدربهم على القتال، ويعلمهم كيف يركّبون المتفجرات، حتى صاروا رجالاً، يقول لهم:
ـ الصراصير وحدها تموت تحت (البصاتير) الثقيلة..
تعلّم من الألمان أيام الحرب العالمية الثانية، كيف تُصنع الألغام وتُفخّخ، واخترع أول قذيفة تطلق من مقلاع كانت بحجم حجر صغير، يرمى فينفجر..
رجل ولا كل الرجال.. لم يتزوج، وبقي على وفائه للرجال الذين قاتلوا وقاتل إلى جانبهم.. إبراهيم أبو ديّة، وأبو منصور المغربي، وكامل عريقات، وعزمي الجاعوني.. وغيرهم وغيرهم..
ـ هل تعرف.؟ فوزي القطب هذا….؟
وكأنني رأيت وجهه الأحمر، ويديه المعروقتين. يصنع متفجرة شديدة التعقيد، تزن ألف كيلو غرام، يركب أجزاءها في سيارة شحن كبيرة يقودها أبو منصور المغربي، يركنها في المكان المرسوم، بعد لحظات تنفجر.. وتدمر الشارع بأكمله..
ـ أنت لا تعرف أبا منصور.؟
ـ بل أعرفه.!
في ذلك الصباح أفقت على طرقات مجنونة على باب بيتي، أم بدر بلهفة لم أعهدها من قبل، أمسكت بيدي، وركضنا إلى بيته..
رأيته مستلقياً على فراش ضنك، لأول مرة أراها مرتبكة، وخائفة.. سألتني وهي تهزّ يدي بعنف..
ـ هل مات.؟
أم بدر تجيد الحديث، ولا تحسن القراءة.. أخرجت من ثنيات ثوبها الفضفاض دفتر عزّ الدين، ودفعته أمام وجهي.. قالت:
ـ خذه.. واقرأ لي منه في كل يوم..
وكنت أقرأ لها حتى حفظت وحفظتُ كلماته عن ظهر قلب.. كتب على صفحته الأخيرة:
ـ أول الكلمات اقرأ، وحتى نهاية الأسفار.!
مضى عزّ الدين ولم يرجع..
ومن يومها لم يتبق لها أحد فنذرت نفسها للجميع.. ليس لها إلا حضور المآتم، تحمل صرّة لا أحد يعرف ما فيها إلا أنا، وتتنقل بين الثكلى والأرامل وأمسيات العزاءات الكثيرة، تواسي هذه وتحنو على تلك. وتطلق بين كل جملة وجملة:
ـ دفنتُ فوزي القطب، وأبا منصور المغربي، وأولادي العشرة، وما زلت أم بدر..
كدت أناديها، وأنا أراها تتهادى وسط الزحام، لكن شيئاً محرقاً، كأنه صفيحة نار انفجرت بين عيني، وضربت مؤخرة رأسي.. سقطت على الأرض بلا حراك..
هل هو الموت.؟ يأتيني هكذا في لحظة خاطئة.. لا أملك سلطة على حواسي، أطرافي مبتورة، وفمي توقف عن علك لساني، وفقدت السيطرة على كل شيء..
لابد أنه الموت.! بل هي اللحظات التي تسبق الموت.. أحس بالناس من حولي.. أسمع همساتهم الدهشة..
مسكين.. يا حرام على شبابه.. قبل أقل من لحظة كان يقف مثل النخلة..
حتى أنني أرى تفاصيل وجوههم، لكنني لا أستطيع شيئاً..
عيناي متحجرتان، وخيطُ دم أحس بسخونته يزحف إلى جانب أذني. لابد أنها السقطة وارتطام رأسي على حجر الرصيف..
أغيب لحظة وأعود أخرى لكنني ما زلت على قيد الحياة.. هكذا قال رجل وضع رأسه فوق صدري، وسمع وجيباً خافتاً.. قلت: نعم أنا على قيد الحياة، ولم يسمعني..
الآن أسمع صوتي، واضحاً كما لم يكن من قبل. يأخذه الصدى إلى وديان بعيدة لا أستطيع لها سبراً، ويعود إلى أذنيّ كأنه رنّات الفضّة. يلوّح لي شيخ بيده الناصعة، فيبعث في نفسي قشعريرة، تعصرني حتى الثمالة، أتمنى لو يلبث الدهر يناديني.. نور يضيء وجهه، وقصاصات عقيق تتخلل لحيتة..
أيد كثيرة حملتني بحذر..
ـ يا جماعة لسه فيه روح.
وتسارعت خطوات الناس بي.. أدخلوني إلى سيارة عابرة تطوّع سائقها بنقلي إلى أقرب مستشفى..
يا إلهي.. صفيحة نار انفجرت بين عيني.. صفيحة نار.. صفيحة نار.! بل صفيحتان..
رأيته مستلقياً بلا حراك على فراش ضنك، شعره الأشيب الغزير يغطي جبهته، وتفاصيل وجهه ما زالت تحمل الصرامة والقوة.. أسندت رأسي على صدره سمعت وجيباً خافتاً، أدركت أنه ما يزال حياً.
هذان الكتفان الصلبان.. حملا صفيحتين محشوتين بالديناميت..
الوقت قبيل الفجر.. فوزي القطب يتوارى في نهاية الزقاق.. أشعل الفتيل، وحمّله الصفيحتين، وهمس بحذر:
ـ ثلاث دقائق فقط..
هرول مخترقاً الفناء الخارجي إلى درج الطابق الأرضي، دخل الدهليز الرئيس، على جانبيه غرف الحرس، مكتظّة بالعسكر، بعضهم يستعد لنوبة حراسة، وبعضهم الآخر يقضي استراحة.. لم يلفت دخوله المفاجئ انتباه أحد فقد تعودوا على رؤيته كل صباح يحمل إليهم مياه الشرب من نبع الفواّرة.. صفيحتين إلى الطابق الأول ومثلهما إلى الطابق الأرضي..
يسمع عسيس الفتيل، يخرج صوتاً مثل طقطقة خطا عقرب، يحثّه على الإقدام قبل أن ينفذ الوقت.. يلقى واحدة إلى داخل الغرفة المحتلّة جهة اليمين وأخرى إلى اليسار، وينطلق مستقيماً ثم يقفز من النافذة إلى الخارج، يتسلق السور يحتضنه عبد الله العمري ويقبّله فوزي القطب، ويبتعدوا ثلاثتهم عن المخفر الذي تحوّل مع من فيه بعد لحظات إلى ركام..
كان يسمعني إذن، كما أسمع الآن ما يدور حولي.. ويسمع أم بدر ونواحها الذي يقطّع نياط القلوب..
لم أرها من قبل كما أراها الآن.. ماذا يعني لها هذا الرجل.؟ أعرف أنه جارها وصديق طفولة زوجها الذي ارتحل باكراً، وصديقها من بعد، لا تنقضي ليلة قبل أن يقضيا وقتاً طويلاً على عتبة بيته أو بيتها.. تتحدث إليه، ولا يتحدث إلا لماما..
كنت صغيراً في ذلك الوقت أدرس في مدرسة قريبة من المخيم، وأعرف أولادها العشرة واحداً.. واحداً.. رأيتهم مع أبي منصور مرات كثيرة، أتساءل مثل غيري:
ـ أين يمضون الوقت.؟ يغيبون عن المخيم غالب أوقات النهار..
يوم استشهد ثلاثة منهم دفعة واحدة، بدأنا نعرف..
قالت بعد أن فرغنا من مراسم دفنهم:
ـ ولا يهمّك أبا منصور في عندي غيرهم.!
أحسّ بصمت المكان الذي أدخلوني إليه، أشعر بأنفاس رجلين يحيطان بي، يتهامسان..
أحدهما مدّ يده إلى جيبي وانتزع محفظتي، والدفتر الصغير..
لابد أنهما يتقاسمان الآن ثروتي التي استلمتها أمس فقط، ثلاثة آلاف ليرة بالتمام والكمال.. يتفاوضان....
لا يهم، لم أعد أكترث للأمر مادمت في طريقي إلى عالم آخر..
عندما جاء طبيب المخيم الدكتور حسّان، قال بصوت ضعيف لكنه حاسم وهو يهزّ رأسه يمنة ويسرة:
ـ لا فائدة.. نزيف،
"وأشار إلى رأسه".. صرخت أم بدر:
ـ لكنه حيّ..
أجابها بثقة عارف:
ـ حيّ ميت.. نزيف دماغي ليس له علاج حتى ولو أخذتموه إلى آخر الدنيا.. الأعمار بيد الله، لن يطول الأمر أكثر من خمسة أيام أخرى على أبعد تقدير..
بعد أربعة أيام مات أبو منصور..
قبل أن يلفظ نفسه الأخير رأيت في عينيه ذلك الحلم الذي يتراءى لي الآن، مرج أخضر، تحفر خطوات الفلاحين في نسيجه طرقات ودروباً ضيّقة لكنها تكفي رحلات ذهابهم وإيابهم من وإلى كروم الزيتون والتين.
في ذلك اليوم أمسك يدي، كأنه يمسك بها الآن.. يجلس إلى جانب رجل أحمر الوجه، ويداه معروقتان.. يفترشان مرجاً أرجوانياً، ويحلمان.. أخاف من أسئلتهما، فيشدّني إليه.
أرى وجوهاُ أليفة أخرى.. تبتسم لي وتستقبلني ببشر..
مات أبو منصور على فراش حقير، لا يملك قوت يومه، أم بدر وحدها ودعته بتلك الابتسامة الصافية، كأنها تعرف أنهما سيلتقيان يوماً في مكان وصفته لنا فجاء كما وصفت.. يطالعني دفتر عزّ الدين:
ـ أول الكلمات اقرأ، وحتى نهاية الأسفار.! علمْتني يا أمي أننا سنلتقي ذات صباح، تعرفين ما لا أعرف، وقد صدّقتك.. سأحمل إرثي وأمضي، خطوة على الطريق، أحبك يا أمي..
ثم مضى ولم يرجع..
أحسّ براحتين باردتين تجوسان جسدي..
ـ لا فائدة.. نزيف دماغي..
وقبل أن يخرج من الباب أردف:
ـ أرسلوا في طلب أحد من عائلته ليأخذه..
سمعت ما قاله بوضوح، فلم أكترث..
رأسي يستريح تحت يدها، أشم رائحة تراب تنتشر في فضاء المكان.. وصدى صوت عفرّته زغاريد الوداع:
ـ أنا أمّه.!
ثم انساب همسها إلى صدري، كأنه نافورة ماء بارد تسكن تحت عريشة خصبة.. تمنيت لو أحمل معي هذا الصوت إلى الأفق الذي يروح أمامي ويغدو بين لحظة ولحظة..
أذرع بيضاء تمتدّ نحوي، وألسنة عملاقة تظل تردد.. اقرأ، اقرأ..
حدثيّنا أنت يا أم بدر، فقد سرقوا دفتر عزّ الدين..!
بعد لحظات، أخَذتني في صرّتها.. حفنة تراب جديدة.!

حنين المغازي
11-11-2009, 11:51 AM
ما هذا الجمال أختاه

إختيار جميل جدا



لي عودة إن شاء الله





ثابت لجمال وروعة المحتوى

فوزية محمد
19-11-2009, 11:45 AM
أكرمك الباري أخيتي..

وبارك الله فيك وفي نشاطك الطيب...

لك تحياتي

أبو الهيثم
19-11-2009, 01:41 PM
بارك الله فيك وجزاك الله خير أختي الفاضلة مشاركة رائعة

amiral
19-11-2009, 07:07 PM
بارك الله فيك اختي الكريمة