المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ )


محمود رضوان
20-05-2015, 01:58 PM
إذا انفرد السالك في مقام مجاهدة نفسة والرغبة الخالصة الأكيدة في وجه الله، ولم يشغله مشهد، ولا خواطر، ولا غيوب، عن حضرة علام الغيوب عزَّ وجلَّ؛ يكرمه الله، فيجمع له همم السابقين، وأنوار الأنبياء والمرسلين، وعلوم الأولين والآخرين، ليتأهل للمقام الأعلى للعروج إلى ملكوت رب العالمين عزَّ وجلَّ.

فيجمع الله عزَّ وجلَّ له حقائقه الباطنة، وفيها وبها يجمعه الله عزَّ وجلَّ على عوالم التعيين؛ فتلقح روحه من أرواح الأنبياء والمرسلين؛ بما به يتأهل لأنوار ملكوت ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ.

فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ له التمكن في الوصول؛ فله مجاهدات أعظم، ومشاهدات أكرم؛ يجاهد أولاً في التخلُّق بأخلاق الله؛ ليكون خليفة عند مولاه، فيكرم بأن يرفعه الله إلى السماء الأولى، وفيها خليفة الله آدم عليه السلام: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (30 سورة البقرة )

لماذا كان آدم خليفة؟لأنه تخلَّق بأخلاق الله، وأسماء الله.وصفات الله للتخلُّق، واسم ذات الله (الله) للتعلُّق.

والأسماء والصفات ليست للذكر باللسان، وإنما هي للتخلق بالجوارح والقلب والجنان، كما أمر الرحمن، وقال على لسان النبي العدنان صلى الله عليه وسلم:
( إِنَّ للّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مِائَةً إِلاَّ وَاحِداً، مَنْ أَحْصـــَاهَا دَخَلَ الْجَنَّة ) (1)
ولم يقل من ذكرها ، أو من جمعها ولكنه قال: (مَنْ أَحْصـــَاهَا)

أي تخلَّق بها في نفسه، وصار ظاهراً بها بين الخلق، متشبِّهاً على قدره بصفات ربِّه، فيفتح الله عزَّ وجلَّ له أبواب الجنان، وكان كما يقول الرحمن:
( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِن الْمُوقِنِينَ ) (75سورة الأنعام)
فمن تخلَّق بأخلاق الله فتح الله عين قلبه؛ فرأت ملكوت الله في السماء الأولى، حيث آدم وذريته عليه السلام، ويرى أهل السعادة ويعرفهم، ويرى أهل الشقاوة ويعلمهم؛ كما كان ينظر آدم لمن على يمينه ويتبسم، وينظر لمن على شماله ويبكي، فقيل:
ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا آدم!، وهذه نسم يعني أرواح بنيه، فمن كان على يمينه، فهم أهل الجنَّة أو أهل اليمين ومن كان على يساره، فهم أهل النَّار - أو أهل الشمال على حسب اختلاف الروايات.( )
منهم من يراها في ملكوت السموات، ومنهم من يرى في يمينه أهل اليمين، وفي يساره أهل الشمال، ومنهم من يرى في الخلق: ( تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ) (273 سورة البقرة)

ومنهم من يكاشفه الله.عزَّ وجلَّ بحقائق الأشياء في لوحه المحفوظ؛ فيرى الرموز، بعد أن يفكَّها الله له من طلاسم الكنوز.
فإذا أكرمه الكريم عزَّ وجلَّ، وأراد أن يسوقه لمقام أعلى من هذا، نفخ فيه مولاه بروح من عنده، قال تعالى:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ) (15 سورة غافر)

فإذا نفخت فيه الروح الإلهية الذاتيَّة وليست الروح التي تحرِّك الأجساد الناسوتيَّة قوى عزمه، واشتدَّ أمره، فأخذ الأحكام والأفعال بقوة:( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) (12 سورة مريم)

في هذه الحالة: ربما لا يأكل إلا كلَّ أيام طعاماً، وربما يسهر الليالي ولا ينام، وربما يمكث السنين لا يغفل طرفة عين عن ذكر الملك العلام، لأن الله قوَّى عزمه، فيكون في مقام الروح عيسى، وفي مقام قوة يحيي، فيكرمه الله بالسماء الثانية(1)

وهي الدرجة الثانية من درجات أهل الفتوة. ويكشف له عن عطاء هؤلاء من أهلِّ النبوَّة ؛ فيكرمه الله عزَّ وجلَّ ويعطيه المقام العيسوي، ولكنه في عالم الشرع المحمدي، يكون عطاءاً معنوياً، فينبئ الصالحين بما ادَّخره لهم في لوحه المحفوظ من كنوزه ربُّ العالمين، وما يجول في خواطرهم ، وفي إراداتهم ؛ ينبئهم بما في نفوسهم وبما في بيـوتهم، ويحيي قساوة قلوبهم وغلظة نفوسهم؛ حتى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله عزَّ وجلَّ.

فإذا قوي عزمه ، واشتدَّ حزمه ، وانتشت روحه بالله ؛ جمَّله الله بالجمال الروحاني، وكمَّله بالكمال اليوسفي؛ فصار جميلاً في عين الملأ الأعلى
فتتنزَّل الملائكة عليه من الله، يخاطبونه، ويجالسونه، ويشافهونه، ويتمتعون بنور الله عزَّ وجلَّ الذي ظهر في آفاق روحه، ويصبح من أهل هذا المقام:

( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) (30سورة فصلت)

والجنَّة هنا ليست الجنَّة العامة التي يريدها الخلق، ولكنها جنَّة الشهود، وجنَّـة الورود، وجنَّـة الكشف، وجنَّـة الإطلاع على حقائق البديع عزَّ وجلَّ في الكون، عاليه ودانية
فإذا أكرمه الله بهذا الجمال، ولم يلتفت عن كمال ذي الجلال والإكرام، ولم ينسى مأربه، وأصرَّ على مطلبه، رفعه الله مقاماً ومكاناً علياً، ليدرس الأحوال الربانيَّة التي بها يتأهل لسدرة أهل الخصوصية، ويدرس علوم النبيين والمرسلين، وعلوم السابقين من الأولياء والمقربين، ليتأهل لهذه المقامات

وهذه الدراسة لا تكون بسمع الأذان، ولا بقراءة العين، وإنما من باب:
( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) (65سورة الكهف)
علم من الله عزَّ وجلَّ، فإذا علَّمه الله علوم أهل الخصوصيَّة، رزقه الله الحكمة الهارونية؛ حتى لا يظهر ما لا يطاق، فيوقع غيره في النفاق.

ولا يظهر مقاماً ؛ إلا لمن رأى فيه التسليم لأهل هذا المقام ،فلا يظهر للعوام خواص سيد الأنام، ولا يظهر لأهل الجحود من كنوز غيب حضرة المعبود، ولا يظهر فضل الله إلا لمن استأهل ذلك، بإشارات نورانيَّة، وعلامات روحانيَّة، يضعها لـه الله، فيضع الكلام في موضع التمام
فيكون كما قال صلَّى الله عليه وسلم ،رواية عن سيدنا عيسى عليه السلام:
(لا تَضَعُوا الْحِكْمَةَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِـهَا فَتَظْلِمُوهَا، وَلا تَمْنَعُوهَا أَهْلَـَها فَتَظْلِمُوهُمُ، كُـونُوا كَالْطَّبِيبِ الْرَّفِيقِ، الَّذِي يَضَعُ الْدَّوَاءَ فِي مَوْضِعِ الْدَّاء). ( )

وهنا ربما يكون لديه علومٌ لو ظهر بعضها لما أطاقه ولا احتمله الأولون والآخرون، ويقول في ذلك الإمام علي رَضِيَ الله عنه:
يا رُبّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسناً
والمثال على ذلك عندما قال:
{ لو فسَّرت فاتحة الكتاب بما أعلم؛ لوقرتم سبعين بعيراً }من تفسير الفاتحة فقط،
وقال في ذلك أيضاً الإمام أبو العزائم رَضِيَ الله عنه:

لو ذاق أهل البعد بعض مدامتي
تركوا الجدال وأحرقوا علم الرسوم
( يضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي ) (13 سورة الشعراء)

فيخرج فصوص الحكمة ، يدريها أهلها ، ويفكَّها الله.عزَّ وجلَّ لمن أراده بها ، ويغيب عن الجاهلين شأنها ، لأنها حكمة النبوَّة ، وطريقة أهل الرسالة :

( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (108 يوسف)
فإذا لم تشغله العلوم ، ولم يعرها إلتفاته ، ولم ينشغل بها عن الله طرفة عين وذلك لأن :
العلم حدٌ وفوق العلم أنوار والنور غيبٌ وفوق النور أسرار

1))عن أبى ذر رواه البخارى فى صحيحه ، وفيه : (فَلَمَّا جِئْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا : افْتَحْ . قَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا جِبْرِيلُ قَالَ : هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ , مَعِي مُحَمَّدٌ قَالَ : أَأُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ , فَلَمَّا فُتِحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ، وَالابْنِ الصَّالِحِ قَالَ : قُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ ‍ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهَذِهِ الأسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهَلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ) وللحدبث بقية طويلة وروايات عديدة
(2)كتاب قوت القلوب: أبوطالب المكي ، حكاية عن سيدنا عبسى عليه السلام .

http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php?name=%C5%D4%D1%C7%DE%C7%CA%20%C7%E 1%C5%D3%D1%C7%C1-%20%CC2&id=18&cat=4

منقول من كتاب {إشراقات الإسراء الجزء الثاني}
اضغط هنا لتحميل الكتاب مجاناً (http://www.fawzyabuzeid.com/downbook.php?ft=pdf&fn=Book_eshrakat_alesraa_V2.pdf&id=18)
https://www.youtube.com/watch?v=hLeGcFv9XtE

http://www.fawzyabuzeid.com/data/Book_eshrakat_alesraa_V2.jpg