المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قطوف من كتاب إحياء علوم الدين


المراقب العام
11-10-2015, 01:15 PM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif

الحمدُ لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على مَنْ لا نبيَّ بعده وبعد، فعند تنزُّهي وسياحتي في رياضٍ مثمرة، وبساتينٍ مزهرة، في (إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي رحمه الله تعالى، وقفتُ على حِكَم بليغة، ودُرَر مستنيرة، ومواعظ مستفيضة، ذكرها في مواضع متفرِّقةٍ من كتابه، (فما الدُّرُّ في انتظامه أزهى من دُرَر كلامِه، ولا السِّحر الحلال أوقع في النفوس مِنْ نثره ونظامِه)، فأحببتُ أنْ أجمع بعض ما وقفت عليه من فيض غَمامِه، عسى أنْ يُسقى بها متعطشٌ إلى بحر علمه وإنعامِه، فتنفعه في دينه وتذكِّره بربِّه، وتزيل الغشاوة عن بصره، وترفع الرَّان عن قلبه، فإنَّ الكلمةَ الطيِّبةَ كالشجرة الطيِّبة، ذات الأصل الثابت التي لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها الرياح، وهي عالية مرتفعة فوق الشرِّ والباطل، وثمارها دائمة مستمرة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
فيا لها مِنْ كواكبٍ دريَّة، وجواهرٍ من المعاني عليَّة، ولباسٍ من التقوى سندسيَّة، تجعل الروحَ مِنْ جمالها مُشرقة بهيَّة، فالسعيد مَن انتفع بها ورجعتْ نفسُه إلى ربِّها راضيةً مرضيَّة.. واللهُ وليُّ التوفيق والسداد..

ومِنْ هذه الأقوال والحِكَم:

العلم النافع:
- (إنَّ غذاءَ القلب: العلمُ والحكمةُ وبهما حياته، كما أنَّ غذاءَ الجسد الطعام، ومَنْ فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم، ولكنه لا يشعر به؛ إذ حبُّ الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه، كما أنَّ غلبةَ الخوف قد تبطل ألم الجراح في الحال وإن كان واقعاً، فإذا حطَّ الموت عنه أعباء الدنيا أحسَّ بهلاكه، وتحسَّر تحسُّراً عظيماً ثم لا ينفعه، وذلك كإحساس الآمن خوفه، والمفيق من سكره بما أصابه من الجراحات في حالة السُّكْر أو الخوف، فنعوذ بالله من يوم كشف الغطاء فإنَّ الناسَ نيام فإذا ماتوا انتبهوا). - (إنَّ العلمَ حياةُ القلوب من العمى، ونورُ الأبصار من الظلم، وقوةُ الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازلَ الأبرار والدرجات العلى، والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يُطاع الله عزَّ وجلَّ، وبه يُعبد وبه يوحَّد وبه يمجَّد وبه يُتورَّع، وبه تُوصَل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء).
- (التلطُّفُ في اجتذاب القلوب إلى العلم الذي يفيد حياة الأبد، أهمُّ من التلطُّف في اجتذابها إلى الطبِّ الذي لا يفيد إلا صحة الجسد، فثمرة هذا العلم: طب القلوب والأرواح، المتوصل به إلى حياة تدوم أبد الآباد، فأين منه الطب الذي يعالج به الأجساد؟ وهي معرَّضة بالضرورة للفساد في أقرب الآماد، فنسأل الله سبحانه التوفيق للرشاد والسداد إنه كريم جواد).

الطاعات والخيرات الأخروية:
- (الطاعات غذاءٌ للقلوب، والمقصود شفاؤها وبقاؤها، وسلامتها في الآخرة وسعادتها، وتنعُّمها بلقاء الله تعالى، فالمقصد لذة السعادة بلقاء الله فقط، ولن يتنعم بلقاء الله إلا مَنْ مات محبَّاً لله تعالى، عارفاً بالله، ولن يحبه إلا مَنْ عرفه، ولن يأنس بربِّه إلا من طال ذكره له، فالأنس يحصل بدوام الذكر، والمعرفة تحصل بدوام الفكر، والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة، ولن يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا، ولن يتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنه شهواتها، حتى يصير مائلاً إلى الخير مريداً له، نافراً عن الشر مبغضاً له، وإنَّما يميل إلى الخيرات والطاعات إذا علم أنَّ سعادته في الآخرة منوطة بها، كما يميل العاقل إلى القصد والحجامة لعلمه بأنَّ سلامته فيهما، وميل النفس إلى الخيرات الأخروية وانصرافها عن الدنيوية هو الذى يفرغها للذكر والفكر، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة، وترك المعاصي بالجوارح).

القلب والجوارح:
- (إنَّ بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى إنَّه يتأثر كلُّ واحد منهما بالآخر، فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب، وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز مِنْ أعزته، أو بهجوم أمر مخوف، تأثَّرت به الأعضاء، وارتعدت الفرائص، وتغيَّر اللون، إلا أنَّ القلبَ هو الأصلُ المتبوع، فكأنَّه الأميرُ والراعي، والجوارحُ كالخدم والرعايا والأتباع، فالجوارحُ خادمةٌ للقلب بتأكيد صفاتها فيه، فالقلبُ هو المقصود، والأعضاءُ آلات موصلة إلى المقصود، ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم (أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) ([1]) ).
- (قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}، وهي صفة القلب، فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له وغرضنا من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر).
- (قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) ([2])؛ لأنَّ همَّ القلب هو ميلُه إلى الخير وانصرافُه عن الهوى وحب الدنيا وهي غاية الحسنات، وإنَّما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيداً، فليس المقصود من إراقة دم القربان: الدم واللحم، بل ميل القلب عن حبِّ الدنيا، وبذلها إيثاراً لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإنْ عاق عن العمل عائق فـ {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}، والتقوى ههنا صفة القلب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً بالمدينة قد شركونا في جهادنا) ([3])؛ لأنَّ قلوبَهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس، والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى، كقلوب الخارجين في الجهاد، وإنَّما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب، وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات).
- (لا تظنن أنَّ في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث إنَّه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب، فإنَّ مَنْ يجد في نفسه تواضعاً، فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكَّد تواضعه، ومَنْ وجد في قلبه رقَّة على يتيم، فإذا مسح رأسه وقبله تأكَّد الرقة في قلبه، ولهذا لم يكن العمل بغير نيَّة مفيداً أصلاً؛ لأنَّ مَنْ يمسح رأس يتيم وهو غافل بقلبه، أو ظانٌّ أنَّه يمسح ثوباً لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة، وكذلك مَنْ يسجد غافلاً وهو مشغول الهمِّ بأعراض الدنيا، لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتأكَّد به التواضع، فكان وجود ذلك كعدمه، وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يُسمى باطلاً، فيقال: العبادة بغير نيَّة باطلة).

شرف العقل:
- (قد ظهر شرف العلم مِنْ قِبَل العقل، والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة، والنُّور من الشمس، والرؤية من العين، فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السَّعادة في الدنيا والآخرة، أو كيف يستراب فيه والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل، حتى إنَّ أعظم البهائم بدناً وأشدها ضراوة وأقواها سطوة، إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه، لشعوره باستيلائه عليه، لما خصَّ به من إدراك الحِيَل).

حدود العقل:
- (اعلم أنه كما يطلع الطبيب الحاذق على أسرار في المعالجات يستبعدها من لا يعرفها، فكذلك الأنبياء أطباء القلوب والعلماء بأسباب الحياة الأخروية، فلا تتحكم على سننهم بمعقولك فتهلك، فكم من شخص يصيبه عارض في أصبعه فيقتضي عقله أن يطليه، حتى ينبهه الطبيب الحاذق أنَّ علاجه أن يطلي الكف من الجانب الآخر من البدن، فيستبعد ذلك غاية الاستبعاد من حيث لا يعلم كيفية انشعاب الأعصاب ومنابتها ووجه التفافها على البدن، فهكذا الأمر في طريق الآخرة وفي دقائق سنن الشرع وآدابه، وفي عقائده التي تعبد الناس بها أسرار ولطائف ليست في سعة العقل وقوته الإحاطة بها، كما أنَّ في خواص الأحجار أموراً عجائب غاب عن أهل الصنعة علمها، حتى لم يقدر أحد على أن يعرف السبب الذي به يجذب المغناطيس الحديد، فالعجائب والغرائب في العقائد والأعمال وإفادتها لصفاء القلوب ونقائها وطهارتها، وتزكيتها وإصلاحها للترقي إلى جوار الله تعالى، وتعرضها لنفحات فضله، أكثر وأعظم مما في الأدوية والعقاقير، وكما أنَّ العقول تقصر عن إدراك منافع الأدوية مع أنَّ التجربةَ سبيلٌ إليها، فالعقول تقصر عن إدراك ما ينفع في حياة الآخرة، مع أنَّ التجربة غير متطرقة إليها، وإنما كانت التجربة تتطرق إليها لو رجع إلينا بعض الأموات فأخبرنا عن الأعمال المقبولة النافعة المقربة إلى الله تعالى زلفى، وعن الأعمال المبعدة عنه، وكذا عن العقائد، وذلك مما لا يطمع فيه، فيكفيك من منفعة العقل: أن يهديك إلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم ويفهمك موارد إشاراته، فاعزل العقل بعد ذلك عن التصرُّف، ولازم الاتباع فلا تسلم إلا به والسَّلام).

السعادة الحقيقية:

- (وأعظم الأشياء رتبة في حقِّ الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو إذن أفضل الأعمال).

- (ما أبعدَ عن السَّعادة مَنْ باع مهمَّ نفسِهِ اللازم بمهمِّ غيره النادر، إيثاراً للتقرب والقبول من الخلق على التقرب من الله سبحانه).

- (قد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً، والعدل سبب النجاة فقط، وهو يجري من التجارة مجرى رأس المال، والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة، وهو يجري من التجارة مجرى الربح ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله فكذا في معاملات الآخرة فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال الله: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ}، وقال عز و جل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، وقال سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ}، ونعني بالإحسان فعل ما ينتفع به المعامل وهو غير واجب عليه ولكنه تفضل منه).

- (وقد أهمل الناسُ طبَّ القلوب، واشتغلوا بطب الأجساد، مع أن الأجساد قد كتب عليها الموت لا محالة، والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها، إذ قال تعالى: { إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }).

وقال رحمه الله بعد أن ذكر قول ابن مسعود «الهالك في اثنتين القنوط والعجب»: (وإنما جمع بينهما؛ لأنَّ السَّعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر، والقانط لا يسعى ولا يطلب، والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى، فالموجود لا يطلب، والمحال لا يطلب، والسعادة موجودة في اعتقاد المعجب حاصلة له، ومستحيلة في اعتقاد القانط، فمن ههنا جمع بينهما).
- (فمفتاح السعادة: التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة: الغرور والغفلة، فلا نعمة لله على عباده أعظم من الإيمان والمعرفة، ولا وسيلة إليه سوى انشراح الصدر بنور البصيرة، ولا نقمة أعظم من الكفر والمعصية، ولا داعي إليهما سوى عمى القلب بظلمة الجهالة).
- (اعلم أنَّ كلَّ خير ولذة وسعادة بل كل مطلوب ومؤثر فإنه يُسمى نعمة، ولكن النعمة بالحقيقة هي السعادة الأخروية، وتسمية ما سواها نعمة وسعادة إما غلط وأما مجاز، كتسمية السعادة الدنيوية التى لا تعين على الآخرة نعمة، فإن ذلك غلط محض، وقد يكون اسم النعمة للشيء صدقاً، ولكن يكون إطلاقه على السعادة الأخروية أصدق، فكل سبب يوصل إلى سعادة الآخرة ويعين عليها إما بوسطة واحدة أو بوسائط، فإنَّ تسميه نعمة صحيحة وصدق لأجل أنه يفضى إلى النعمة الحقيقية).
- (غاية السعادة أن يموت محبَّاً لله تعالى، وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب، حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب، ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير، فسأله فقال: الآن أفلت. فلما أصبح سأل عن حاله، فقيل له: إنه مات البارحة).
- (قد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة، فالناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء، ومع العصيان سواء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبَاً مغمورا، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورَا}، وليت شعري كيف يصحح نيته مَنْ لا يعرف حقيقة النية، أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص، أو كيف تطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه، فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى: أن يتعلم النية أولاً لتحصل المعرفة، ثم يصححها بالعمل، بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتنا العبد إلى النجاة والخلاص).
- (لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى وإنَّ كلَّ محجوب عنه يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي، محترق بنار الفراق ونار الجحيم، وعلم أنه لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات والأنس بهذا العالم الفاني، والإكباب على حب ما لا بد من فراقه قطعاً ولا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم، والإقبال بالكلية على الله طلباً للأنس به بدوام ذكره، وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته، وأنَّ الذنوب التي هي إعراض عن الله واتباع لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته سبب كونه محجوباً مبعداً عن الله تعالى، فلا يشك في أنَّ الانصرافَ عن طريق البُعْد واجب للوصول إلى القُرْب، وإنما يتم الانصراف: بالعلم والندم والعزم، فإنه ما لم يعلم أنَّ الذنوب أسباب البعد عن المحبوب، لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في طريق البعد، وما لم يتوجع فلا يرجع، ومعنى الرجوع الترك والعزم، فلا يشك في أنَّ المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول إلى المحبوب، وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة، وأما من لم يترشح لمثل هذا المقام، المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق، ففي التقليد والاتباع له مجال رحب، يتوصل به إلى النجاة من الهلاك، فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله وقول السلف الصالحين فقد قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وهذا أمر على العموم وقال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحَا} الآية، ومعنى النصوح: الخالص لله تعالى خالياً عن الشوائب).

الخوف:
- (فضل الخوف تارة يعرف بالتأمل والاعتبار وتارة بالآيات والأخبار أما الاعتبار فسبيله أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله تعالى في الآخرة إذ لا مقصود سوى السعادة، ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه، فكلُّ ما أعان عليه فله فضيلة وفضيلته بقدر غايته، وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبَّة إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر، ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقطاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، فإنَّ فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات، وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف، وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى).

صفة الدنيا:
- (إن الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء، ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيراً عنيفاً، ومرتحلة ارتحالاً سريعاً، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنَّما يحس عند انقضائها، ومثالها: الظل، فإنَّه متحرِّك ساكن، متحرِّك في الحقيقة ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل بالبصيرة الباطنة، ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال:
أحلامُ نومٍ أو كظِلٍّ زَائِلٍ ... إنَّ اللبيبَ بمثلها لا يُخدَعُ)
- (إنَّ طبع الدنيا: التلطف في الاستدراج أوَّلاً، والتوصُّل إلى الإهلاك آخراً، وهي كامرأة تتزين للخطاب، حتى إذا نكحتهم ذبحتهم).
- (إنَّ الدنيا مزيَّنة الظواهر، قبيحة السرائر، وهي شبه عجوز متزينة، تخدع الناس بظاهرها، فإذا وقفوا على باطنها، وكشفوا القناع عن وجهها، تمثل لهم قبائحها فندموا على اتباعها، وخجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار بظاهرها).
- (إنَّ أوائل الدنيا تبدو هينة لينة، يظن الخائض فيها أنَّ حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها، وهيهات فإن الخوض في الدنيا سهل، والخروج منها مع السلامة شديد، وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال: مثل الدنيا مثل الحية، لين مسها، ويقتل سمها، فأعرض عما يعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإنَّ صاحبها كلَّما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسَّلام).

- (إنَّ أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة، فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة، وحذَّرهم المقام وخوَّفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً، فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده، وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة، وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة، وألحانها الموزونة الغريبة، وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال، الحسنة المنظر، العجيبة النقوش، السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها، وعجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها، فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً، فاستقر فيه، وبعضهم أكبَّ على تلك الأصداف والأحجار، وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها، فاستصحب منها جملة، فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً، وصار ثقيلاً عليه ووبالاً، فندم على أخذه ولم يقدر على رميه، ولم يجد مكاناً لوضعه، فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه، وليس ينفعه التأسف، وبعضهم تولج الغياض ونسي المركب، وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح، لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار، والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع، وغير خال من السقطات والنكبات، ولا منفك عن شوك ينشب بثيابه، وغصن يجرح بدنه، وشوكة تدخل في رجله، وصوت هائل يفزع منه، وعوسج يخرق ثيابه، ويهتك عورته، ويمنعه عن الانصراف لو أراده، فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه، ولم يجد في المركب موضعاً، فبقي في الشط حتى مات جوعاً، وبعضهم لم يبلغه النداء، وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من مات في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات فتفرقوا كالجيف المنتنة.

وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً، ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل، فتأذى بضيق المكان مدة ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، ومن رجع أوَّلاً وجد المكان الأوسع، ووصل إلى الوطن سالماً، فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم ومصدرهم، وغفلتهم عن عاقبة أمورهم، وما أقبحَ مَنْ يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة، وهشيم النبت وهي زينة الدنيا، وشيء من ذلك لا يصحبه عند الموت، بل يصير كلَّا ووبالاً عليه، وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه، وهذه حال الخلق كلهم إلا مَنْ عصمه الله عزَّ و جلَّ).

- (إنَّ مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيَّأ داراً وزيَّنها، وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً واحداً بعد واحد، فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه لا ليتملكه ويأخذه، فجهل رسمه وظن أنَّه قد وهب ذلك، فتعلق به قلبه لما ظن أنه له، فلما استرجع منه ضجر وتفجع، ومَنْ كان عالماً برسمه انتفع به وشكره، ورده بطيب قلب وانشراح صدر، وكذلك من عرف سنَّة الله في الدنيا علم أنَّها دار ضيافة، سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري، ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراقها).

---------------------------------------------
([1]) ـ رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، (52)، ومسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، (1599).
([2]) ـ رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، (6126)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب، (1599).
([3]) ـ الحديث كما رواه البخاري في كتاب المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحِجْر، (4161)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَاماً مَا سِرْتُمْ مَسِيراً، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِياً إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ وَهُمْ بِالمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ).



عمر بن عبد المجيد البيانوني