المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : روائع غزالية


المراقب العام
12-10-2015, 02:08 PM
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif

علاج الحسد:
- (إنَّ الحسدَ من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل.
والعلم النافع لمرض الحسد هو: أن تعرف تحقيقاً أنَّ الحسدَ ضررٌ عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضررَ فيه على المحسود في الدنيا والدين، بل ينتفع به فيهما، ومهما عرفتَ هذا عن بصيرة، ولم تكن عدوَّ نفسِك وصديقَ عدوك، فارقتَ الحسدَ لا محالة.

أما كونه ضرراً عليك في الدين، فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهتَ نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته، فاستنكرتَ ذلك واستبشعته، وهذه جنايةٌ على حدقة التوحيد، وقذى في عين الإيمان، وناهيك بهما جناية على الدين، وقد انضاف إلى ذلك أنك غششتَ رجلاً من المؤمنين وتركتَ نصيحته، وفارقتَ أولياء الله وأنبياءه في حبِّهم الخير لعباده تعالى، وشاركتَ إبليسَ وسائر الكفار في محبَّتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم، وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب، وتمحوها كما يمحو الليل والنهار.

وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا، فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به ولا تزال في كمد وغم؛ إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نِعَم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها، وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم، فتبقى مغموماً محروماً، متشعب القلب ضيق الصدر، قد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك، وتشتهيه لأعدائك، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقداً، ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك، ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد، لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة، فما أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله تعالى من غير نفع يناله بل مع ضرر يحتمله وألم يقاسيه، فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة.

وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه، فواضح لأنَّ النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة، فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه، فلا حيلة في دفعه، بل كل شيء عنده بمقدار، ولكلِّ أجلٍ كتاب).

سبب الخشوع في الصلاة:
- (إنَّ حضورَ القلب سببُه الهمة، فإنَّ قلبَك تابعٌ لهمتك، فلا يحضر إلا فيما يهمك، ومهما أهمك أمر حضر القلب فيه شاء أم أبى، فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه، والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلاً، بل جائلاً فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا، فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة، والهمة لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها، وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى، وأنَّ الصلاة وسيلة إليها، فإذا أضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهماتها، حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة، وبمثل هذه العلة يحضر قلبك إذا حضرت بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على مضرتك ومنفعتك، فإذا كان لا يحضر عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع والضر، فلا تظننَّ أنَّ له سبباً سوى ضعف الإيمان، فاجتهد الآن في تقوية الإيمان، وطريقه يستقصى في غير هذا الموضع وأما التفهم فسببه بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى وعلاجه ما هو علاج إحضار القلب مع الإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر، وعلاج دفع الخواطر الشاغلة: قطع موادها، أعني النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها، وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر، فمن أحب شيئا أكثر ذكره، فذكر المحبوب يهجم على القلب بضرورة، لذلك ترى أن من أحب غير الله لا تصفو له صلاة عن الخواطر، وأما التعظيم فهي حالة للقلب تتولد من معرفتين، إحداهما: معرفة جلال الله عزَّ وجلَّ وعظمته، وهو من أصول الإيمان، فإنَّ مَنْ لا يعتقد عظمته لا تذعن النفس لتعظيمه. الثانية: معرفة حقارة النفس وخستها، وكونها عبداً مسخراً مربوباً، حتى يتولد من المعرفتين: الاستكانة والانكسار، والخشوع لله سبحانه، فيعبر عنه بالتعظيم، وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلال الله لا تنتظم حالة التعظيم والخشوع، فإنَّ المستغني عن غيره، الآمن على نفسه، يجوز أن يعرف من غيره صفات العظمة ولا يكون الخشوع والتعظيم حاله؛ لأنَّ القرينة الأخرى وهي معرفة حقارة النفس وحاجتها لم تقترن إليه، وأما الهيبة والخوف فحالة للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته، ونفوذ مشيئته فيه مع قلة المبالاة به، وأنه لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص من ملكه ذرة، هذا مع مطالعة ما يجري على الأنبياء والأولياء من المصائب وأنواع البلاء مع القدرة على الدفع على خلاف ما يشاهد من ملوك الأرض، وبالجملة كلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة، وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله عز و جل وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة، فإذا حصل اليقين بوعده والمعرفة بلطفه انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة، وأما الحياء فباستشعاره التقصير في العبادة وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حقِّ الله عزَّ وجلَّ، ويقوى ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها وخبث دخلتها، وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها، مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله عزَّ وجلَّ، والعلم بأنه مطلع على السر وخطرات القلب وإن دقَّت وخفيت، وهذه المعارف إذا حصلت يقيناً انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء، فهذه أسباب هذه الصفات وكل ما طلب تحصيله فعلاجه إحضار سببه، ففي معرفة السبب معرفة العلاج، ورابطة جميع هذه الأسباب: الإيمان واليقين، أعني به هذه المعارف التي ذكرناها، ومعنى كونها يقيناً: انتفاء الشك واستيلاؤها على القلب، وبقدر اليقين يخشع القلب).

من علامات محبة العبد لله تعالى:
- (المحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح، وتدل تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبة دلالة الدخان على النار، ودلالة الثمار على الأشجار، وهى كثيرة فمنها: حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام، فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه، وإذا علم أنه لا وصول إلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت، فينبغي أن يكون محباً للموت غير فار منه، فإنَّ المحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقرِّ محبوبه ليتنعم بمشاهدته، والموت مفتاح اللقاء، وباب الدخول إلى المشاهدة).

- (ومنها: أن يكون مؤثراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيلزم مشاق العمل، ويجتنب اتباع الهوى، ويعرض عن دعة الكسل، ولا يزال مواظباً على طاعة الله، ومتقرباً اليه بالنوافل، وطالباً عنده مزايا الدرجات، كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه، وقد وصف الله تعالى المحبين بالإيثار فقال: (يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) ومن بقى مستقرا على متابعة الهوى، فمحبوبه ما يهواه، بل يترك المحب هوى نفسه كما قيل:
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
بل الحب اذا غلب قمع الهوى، فلم يبق له تنعم بغير المحبوب).

- (ومنها: أن يكون مستهتراً ([1]) بذكر الله تعالى، لا يفتر عنه لسانه ولا يخلو عنه قلبه، فمن أحب شيئاً أكثر بالضرورة من ذكره وذكر ما يتعلق به فعلامة حب الله: حب ذكره وحب القرآن الذي هو كلامه وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب كل مَنْ يُنسب إليه، فإنَّ مَنْ يحب إنساناً يحب كلب محلته، فالمحبة إذا قويت تعدَّت من المحبوب إلى كلِّ ما يكتنف بالمحبوب ويحيط به ويتعلق بأسبابه، وذلك ليس شركة في الحب، فإنَّ مَنْ أحب رسول المحبوب لأنه رسوله، وكلامه لأنه كلامه، فلم يجاوز حبه إلى غيره بل هو دليل على كمال حبِّه، ومَنْ غلب حبُّ الله على قلبه أحب جميع خلق الله لأنهم خلقه، فكيف لا يحب القرآن والرسول وعباد الله الصالحين).

(ومنها: أن يكون أُنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه، فيواظب على التهجُّد ويغتنم هَدْءَ الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق، وأقل درجات الحب: التلذذ بالخلوة بالحبيب، والتنعُّم بمناجاته، فمَنْ كان النوم والاشتغال بالحديث ألذ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته؟).

- (علامة المحبة كمال الأُنس بمناجاة المحبوب، وكمال التنعم بالخلوة به، وكمال الاستيحاش من كلِّ ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة، وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقاً بلذة المناجاة، كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه، وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به، وقطعت رجل بعضهم بسبب علة أصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به، ومهما غلب عليه الحب والأنس صارت الخلوةُ والمناجاة قرَّةَ عينه، يدفع بها جميع الهموم، بل يستغرق الأُنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مراراً، مثل العاشق الولهان فإنه يكلم الناس بلسانه وأنسه في الباطن بذكر حبيبه، فالمحبُّ مَنْ لا يطمئن إلا بمحبوبه).

- (ومنها: أن يتنعَّم بالطاعة ولا يستثقلها، ويسقط عنه تعبها، كما قال بعضهم: كابدتُ الليل عشرين سنة، ثم تنعَّمتُ به عشرين سنة).

- (ومنها: أن يكون في حبِّه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم، وقد يظن أن الخوف يضاد الحب، وليس كذلك، بل إدراك العظمة يوجب الهيبة، كما أنَّ إدراك الجمال يوجب الحب، ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبَّة ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأوَّلها: خوف الإعراض، وأشد منه: خوف الحجاب، وأشد منه: خوف الإبعاد).

(ومنها: كتمانُ الحبِّ واجتناب الدعوى، والتوقي من إظهار الوَجْد والمحبَّة، تعظيماً للمحبوب وإجلالاً له، وهيبة منه، وغيرة على سرِّه، فإنَّ الحبَّ سرٌّ من أسرار الحبيب، ولأنه قد يدخل في الدعوى ما يتجاوز حد المعنى ويزيد عليه، فيكون ذلك من الافتراء، وتعظم العقوبة عليه في العقبى، وتتعجل عليه البلوى في الدنيا، نعم قد يكون للمحب سكرة في حبِّه حتى يدهش فيه وتضطرب أحواله، فيظهر عليه حبه، فإن وقع ذلك عن غير تمحُّل أو اكتساب فهو معذور؛ لأنه مقهور، وربما تشتعل من الحبِّ نيرانُه، فلا يُطاق سلطانُه، وقد يفيض القلب به فلا يندفع فيضانُه).

الحُرِّيَّة:
(الحرية هي الخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا، والاستيلاء عليها بالقهر تشبُّهاً بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة، ولا يستهويهم الغضب، فإنَّ دَفْعَ آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة).

(وإنما العبد الحق لله عزَّ وجلَّ من أعتق أولاً من غير الله تعالى فصار حُرَّاً مطلقاً فإذا تقدمت هذه الحرية صار القلب فارغاً فحلَّت فيه العبودية لله، فتشغله بالله وبمحبته، وتقيد باطنه وظاهره بطاعته، فلا يكون له مراد إلا الله تعالى، ثم تجاوز هذا إلى مقام آخر أسنى منه يسمى الحرية وهو أن يعتق أيضاً عن إرادته لله من حيث هو، بل يقنع بما يريد الله له من تقريب أو إبعاد، فتفنى إرادته في إرادة الله تعالى، وهذا عبد عتق عن غير الله فصار حُرَّاً ثم عاد وعتق عن نفسه فصار حُرَّاً، وصار مفقوداً لنفسه موجوداً لسيِّده ومولاه إن حركة تحرك وإن سكنه سكن وإن ابتلاه رضي لم يبق فيه متسع لطلب والتماس واعتراض بل هو بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل وهذا منتهى الصدق في العبودية لله تعالى، فالعبد الحق هو الذي وجوده لمولاه لا لنفسه وهذه درجة الصديقين، وأما الحرية عن غير الله فدرجات الصادقين، وبعدها تتحقق العبودية لله تعالى، وما قبل هذا فلا يستحق صاحبه أن يسمى صادقاً ولا صِدِّيقاً، فهذا هو معنى الصدق في القول).

طول الأمل وقصره:
- (وليس مَنْ أَمَله مقصور على شهر كمَنْ أَمَله شهر ويوم، بل بينهما تفاوت في الدرجة عند الله، فـ {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، و {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ}، ثم يظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى العمل، وكل إنسان يدعي أنه قصير الأمل وهو كاذب، إنما يظهر ذلك بأعماله، فإنه يعتنى بأسباب ربما لا يحتاج إليها في سنة، فيدل ذلك على طول أمله، وإنما علامة التوفيق أن يكون الموت نصب العين، لا يغفل عنه ساعة، فليستعد للموت الذي يرد عليه في الوقت، فإن عاش إلى المساء شكر الله تعالى على طاعته، وفرح بأنه لم يضيع نهاره، بل استوفى منه حظه وادخره لنفسه، ثم يستأنف مثله إلى الصباح وهكذا إذا أصبح، ولا يتيسر هذا إلا لمن فرغ القلب عن الغد وما يكون فيه، فمثل هذا إذا مات سعد وغنم، وإن عاش سُرَّ بحسن الاستعداد ولذة المناجاة، فالموت له سعادة، والحياة له مزيد، فليكن الموت على بالك يا مسكين، فإنَّ السير حاث بك وأنت غافل عن نفسك، ولعلك قد قاربت المنزل وقطعت المسافة، ولا تكون كذلك إلا بمبادرة العمل اغتناماً لكلِّ نفس أمهلت فيه).

السبب في طول الأمل:
إنَّ طولَ الأمل له سببان: أحدهما: الجهل، والآخر: حبُّ الدنيا؛ أمَّا حبُّ الدنيا فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكلُّ مَنْ كره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغوف بالأماني الباطلة فيمني نفسه أبداً بما يوافق مراده، وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا، فلا يزال يتوهمه ويقدره في نفسه، ويقدر توابع البقاء وما يحتاج إليه من مال وأهل ودار وأصدقاء ودواب وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر موقوفاً عليه، فيلهو عن ذكر الموت فلا يقدر قربه، فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت والحاجة إلى الاستعداد له سوَّف ووعد نفسه وقال الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر فيقول إلى أن تصير شيخاً، فإذا صار شيخاً قال إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار وعمارة هذه الضيعة أو ترجع من هذه السفرة أو تفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له، أو تفرغ من قهر هذا العدو الذي يشمت بك،

فلا يزال يسوف ويؤخر ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال أخر وهكذا على التدريج يؤخر يوما بعد يوم ويفضى به شغل إلى شغل بل إلى أشغال إلى أن تختطفه المنية في وقت لا يحتسبه فتطول عند ذلك حسرته، وأكثر أهل النار وصياحهم من سوف يقولون واحزناه من سوف، والمسوف المسكين لا يدرى أن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غداً، وإنما يزداد بطول المدة قوة ورسوخاً ويظن أنه يتصور أن يكون للخائض في الدنيا والحافظ لها فراغ قط، وهيهات فما يفرغ منها إلا مَنِ اطَّرَحَها.
فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ... وَمَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلا إِلَى أَرَبِ
وأصلُ هذه الأماني كلها: حبُّ الدنيا والأُنْس بها).

الأخلاق الحسنة:
(الخلق الحسن صفة سيد المرسلين، وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شطر الدين، وثمرة مجاهدة المتقين، ورياضة المتعبدين، والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة، والمهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة، كما أنَّ الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان وجوار الرحمن، والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس، إلا أنه مرض يفوت حياة الأبد، وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد، ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان وليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب وفي مرضها فوت حياة باقية أولى، وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة علمها وأسبابها، ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وإهمالها هو المراد بقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}).

أمهات الأخلاق وأصولها:

(أمهات الأخلاق وأصولها: أربعة، الحكمة والشجاعة والعفة والعدل، ونعني بالحكمة: حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية.
ونعني بالعدل: حالة للنفس وقوة بها تسوس الغضب والشهوة، وتحملهما على مقتضى الحكمة، وتضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها.
ونعني بالشجاعة: كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها.
ونعني بالعفة: تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع.
فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها؛ إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير، وجودة الذهن وثقابة الرأي، وإصابة الظن، والتفطن لدقائق الأعمال، وخفايا آفات النفوس، ومن إفراطها تصدر الجربزة والمكر والخداع والدهاء.
ومن تفريطها يصدر البله والغمارة، والحمق والجنون، وأعني بالغمارة قلة التجربة في الأمور مع سلامة التخيل، فقد يكون الإنسان غمراً في شيء دون شيء، والفرق بين الحمق والجنون: أن الأحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه الطريق فاسد، فلا تكون له روية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض، وأما المجنون فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار، فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً.

وأما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة، وكسر النفس والاحتمال والحلم، والثبات وكظم الغيظ، والوقار والتودد، وأمثالها وهي أخلاق محمودة.

وأما إفراطها وهو التهور، فيصدر منه الصلف والبذخ، والاستشاطة والتكبر والعجب، وأما تفريطها فيصدر منه المهانة والذلة، والجزع والخساسة وصغر النفس، والانقباض عن تناول الحق الواجب.
وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء، والصبر والمسامحة، والقناعة والورع، واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع، وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيحصل منه الحرص والشره، والوقاحة والخبث، والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة، والعبث والملق والحسد والشماتة، والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك.

فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدل والباقي فروعها، ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه، فكلُّ من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

طبيعة النفس:
(إذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه، بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع، يضاهي الميل إلى أكل الطين، فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة، فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى ومعرفته وعبادته، فهو كالميل إلى الطعام والشراب، فإنه مقتضى طبع القلب، فإنه أمر رباني، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته وعارض على طبعه.
وإنما غذاء القلب: الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل، ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به، كما قد يحل المرض بالمعدة فلا تشتهي الطعام والشراب، وهما سببان لحياتها، فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله، إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معيناً له على حبِّ الله تعالى وعلى دينه، فعند ذلك لا يدل ذلك على المرض).

غاية العبادات:
(إن غاية العبادات وثمرة المعاملات أن يموت الإنسان محباً لله عارفاً بالله، ولا محبة إلا بالأنس الحاصل بدوام الذكر، ولا معرفة إلا بدوام الفكر، وفراغ القلب شرط في كل واحد منهما، ولا فراغ مع المخالطة).

(المقصود من العلوم والأعمال كلها: معرفة الله تعالى، حتى تثمر المعرفة المحبة، فإنَّ المصيرَ إليه، والقدوم بالموت عليه، ومَنْ قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبَّته، ومَنْ فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه.

فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت: حب الأهل والولد، والمال والمسكن والعقار، والرفقاء والأصحاب، فهذا رجلٌ محابُّه كلُّها في الدنيا، فالدنيا جنته إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب، فموتُهُ خروجٌ من الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه، ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه.
فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى، وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه، والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب، فالدنيا إذن سجنه؛ لأنَّ السجنَ عبارةٌ عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابِّه، فموته قوم على محبوبه وخلاص من السجن، ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر، فهذا أول ما يلقاه كلُّ مَنْ فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب، فضلاً عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر، وفضلاً عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها، من الأنكال والسلاسل والأغلال، وضروب الخزى والنكال، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين، ويلحقنا بالصالحين).

رحمك الله أيُّها الإمام، فقد أيقظتنا بعد غفلة، وذكرتنا بعد نسيان، وجدَّدت فينا من معاني العلم والإيمان، جمعنا الله جميعاً في أعلى الجنان.

لقد رحلت من هذه الدار وكأنك لا تزال فيها تعظنا وتعلمنا، تحيي فينا ذكر الآخرة ونعيمها، وتميت فينا الحرص على الدنيا وزينتها، تذكرنا بحقيقة الدنيا وقرب فنائها، وترغبنا بثواب الآخرة ودوام نعيمها، {وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

لقد علمتنا بفعلك قبل قولك كيف يكون الزهد في الدنيا، عندما تركت التدريس في المدرسة النظامية بعد أن كانت شهرتك ومنزلتك قد طبقت الآفاق، فاعتزلت الناس حتى استقامت نفسك وطهر قلبك من حب الجاه والرفعة والمنزلة بين الناس، وامتلأ قلبك من حبِّ الله والرغبة في ثوابه وإخلاص العمل له سبحانه، فعدت إلى التدريس بعد أن تخلَّيتَ من الصفات المذمومة وتحلَّيتَ بأحسن الصفات، أدخلنا الله جميعاً في رحمته.
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ.

-------------------------------
([1]) ـ يقال: اسْتُهْتِرَ بأَمر كذا وكذا، أَي: أُولِعَ به لا يتحدّثُ بغيره ولا يفعلُ غيرَه. لسان العرب (هتر).




عمر بن عبد المجيد البيانوني