بسم الله الرحمن الرحيم
اللَّهُمَّ اهدِني وسدِّدْني
عِندَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِه الكريمِ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
أمَّا بعدُ؛ فقد استَهلَّتْ سنةُ ثلاثَ عشْرةَ للهجرةِ النَّبويَّةِ وقد أخذ زِمامَ الأمورِ صِدِّيقُ هذه الأُمّةِ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ،وبعدَ تولِّيه الخلافةَ عزم على جمعِ الجنودِ ليبعثَهم إلى الشَّامِ، وذلك بعدَ مَرْجِعِه من الحجِّ؛ عملًا بقولِه تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِوَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التَّوبة: 123]، وبقولِه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوبة: 29]. واقتداءً برسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الجهادِ والدَّعوةِ إلى اللهِ؛ الَّذي جمع المسلمين لغزوِ الشَّامِ وذلك عامَ تبوكَ حتَّى وصلها في حرٍّ شديدٍ وجَهْدٍ كبيرٍ، فرَجَع عامَه ذلك، ثُمَّ بعث قبلَ موتِه أسامةَ بنَ زيدٍ مَوْلاه ليغزُوَ تُخُومَ الشَّامِ.
ولمَّا فرغ الصِّدِّيقُ من أمرِ جزيرةِ العربِ؛بسط يمينَه إلى العراقِ، فبعث إليها خالدَ بنَ الوليدِ -رضي اللهُ عنه-، ثُمَّ أراد أن يبعثَ إلى الشَّامِ كما بعث إلى العراقِ، فشرع في جمعِ الأُمَراءِ في أماكنَ مُتفرِّقةٍ من جزيرةِ العربِ.
وفي تلك السَّنةِ تَجهَّز الرُّومُ لحربِ المسلمين، فأَتَوْا بخيلِهم ورجالِهم، وحَدِّهم وحديدِهم، وقَظِّهم وقظيظِهم، وقام هِرَقلُ وأمر بخروجِ الجيوشِ الرُّوميَّةِ بصُحبةِ الأمراءِ في مُقابَلةِ كُلِّ أميرٍ من المسلمينَ بجيشٍ كثيفٍ، فبعث إلى عمرِو بنِ العاصِ -رضي اللهُ عنه- أخًا له -أي لِهِرقلَ- في تسعينَ ألفًا من المُقاتِلةِ، وبعث أحدَ قُوَّادِه إلى ناحيةِ يزيدَ بنِ أبي سفيانَ في خمسينَ ألفًا أو ستِّينَ ألفًا، وبعث آخرَ إلى شُرَحْبِيلَ بنِ حَسَنةَ، وبعث آخرَ في ستِّينَ ألفًا إلى أبي عُبيدةَ بنِ الجرَّاحِ، وقالتِ الرُّومُ: لَنَشغَلَنَّ أبا بكرٍ عن أن يُورِدَ الخيولَ إلى أرضِنا.
فتَجمَّع أهلُ الصَّليبِ على حربِ المسلمين من كُلِّ مكانٍ،فكان قِوامُ جيشِ الصَّليبيِّين أكثرَ من مئتي ألفِ مُقاتِلٍ، كُلُّهم لا يَرْقُبون في مُؤمِنٍ إلًّا ولا ذِمّةً! أمَّا عسكرُ أهلِ الإسلامِ فكان عددُهم إحدى وعشرينَ ألفًا، سوى الجيشِ الَّذي معَ عكرمةَ بنِ أبي جهلٍ وكان واقفًا في طرَفِ الشَّامِ في ستَّةِ آلافٍ.
وعندَما شعر الأمراءُ بهذا الخطرِ، كتبوا إلى أبي بكرٍ وعمرَ يُعلِمانِهِما بما وقع من الأمرِ العظيمِ والخَطْبِ الجَلَلِ؛فكتب إليهم أبو بكرٍ -رضي اللهُ عنه-: أن اجتَمِعوا وكونوا جُندًا واحدًا، وَالْقَوْا جنودَ المشـركين؛ فأنتم أنصارُ اللهِ، واللهُ ينصـرُ مَن نَصَرَه، وخاذلٌ مَن كَفَرَه، ولن يُؤتَى مِثلُكم عن قِلّةٍ، ولكنْ مِن تِلْقاءِ الذُّنوبِ فاحتَرِسُوا منها، وَلْيُصَلِّ كُلُّ رجلٍ منكم بأصحابِه.
وقال الصِّدِّيقُ -رضي اللهُ عنه- قولتَه المشهورةَ:(واللهِ لأَشغَلَنَّ النَّصارى عن وساوسِ الشَّيطانِ بخالدِ بنِ الوليدِ رضي اللهُ عنه)، فبعث إلى خالدٍ وهو بالعراقِ لِيَقدَمَ إلى الشَّامِ في أسرعِ وقتٍ فيكونَ الأميرَ على مَن به، فإذا فرغ عاد إلى عملِه بالعراقِ.
ولمَّا بَلَغَ هِرَقلَ ما أمر به الصِّدِّيقُ أُمَراءَه من الاجتماعِ؛بعث إلى أُمرائِه أن يَجتمِعوا أيضًا، وأن يَنزِلوا بالجيشِ منزلًا واسعَ العَطَنِ، واسعَ المَطْرَدِ، ضيِّقَ المَهرَبِ، وجعل على النَّاسِ أخاه، وعلى المُقدّمةِ جَرَجةَ، وعلى المُجَنَّبتَينِ ماهانَ، والدُّراقِصَ، وعلى البحرِ القَيْقلانَ؛ كُلُّهم من أَعْتَى جنودِه، وأكثرِهم بأسًا وشَكِيمةً.
وعندَما بلغ الكتابُ خالدَ بنَ الوليدِ -رضي اللهُ عنه- وهو بالعراقِ؛ استَنابَ المُثنَّى بنَ حارثةَ على العراقِ، وسار خالدٌ مُسرِعًا في تسعةِ آلافٍ، ودليلُه رافعُ بنُ عُمَيرةَ الطَّائيُّ، فأخذ به على السَّماوةِ حتَّى انتهى إلى قُراقِرَ، وسلك به أراضيَ لم يَسلُكْها قبلَه أحدٌ، فاجتاب البَرارِيَّ والقِفارَ، وقَطَعَ الأوديةَ، وتَصعَّد على الجبالِ، وسار في غيرِ مَهيَعٍ، وجعل رافعٌ يَدُلُّهم في مَسِيرِهم على الطَّريقِ وهو أَرْمَدُ.
وقبلَ أن يخوضوا هذه المَفازةَ، عَطَّشَ النُّوقَ، وسَقاها الماءَ عَلَلًا بعدَ نَهَلٍ، وقَطَعَ مَشافِرَها، وكَعَمَها؛ حتَّى لا تَجتَرَّ، وخَلَّ أدبارَها، واستَاقَها معَه. فلمَّا فَقَدُوا الماءَ واشتَدَّ بهم المَسِيرُ بعدَ يومينِ نَحَرَها فشَرِبوا ما في أجوافِها من الماءِ، ووصل بتوفيقِ اللهِ في خمسةِ أيَّامٍ، فخرج على الرُّومِ من ناحيةِ تَدْمُرَ، فصالَحَ أهلَ تَدمُرَ وأَرَكَ، ولمَّا مرَّ بعذراءَ أباحَها، وغَنِم لِغَسَّانَ أموالًا عظيمةً، وخرج من شَرقِيِّ دمشقَ، ثُمَّ سار حتَّى وصل إلى قناةِ بُصرَى، فوجد الصَّحابةَ مُحاصِرِيها، فصَالَحَه صاحبُها وسَلَّمها إليه، فكانت أوَّلَ مدينةٍ فُتِحت من الشَّامِ، وللهِ الحمدُ والمِنّةُ.
وبعث بأخماسِ ما غَنِم من غَسَّانَ معَ بلالِ بنِ الحارثِ المُزَنيِّ إلى الصِّدِّيقِ، ثُمَّ سار خالدٌ وأبو عُبَيدةَ ويزيدُ وشُرَحْبِيلُ إلى عمرِو بنِ العاصِ، وقد قصده الرُّومُ بأرضِ العَرَباتِ مِن الغَوْرِ، فكانت وَقْعةُ أَجْنادِينَ.
وقد كان بعضُ العربِ قال له في هذا المَسِيرِ:(إنْ أنتَ أَصبَحتَ عندَ الشَّجرةِ الفُلانيَّةِ نَجوتَ أنتَ ومَن معَكَ، وإن لم تُدرِكْها هَلَكتَ أنتَ ومَن معَكَ). فسار خالدٌ بمَن معَه وسَرَوْا سَرْوةً عظيمةً، فأَصبَحُوا عندَها؛ فقال خالدٌ: (عِندَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى)، فأَرسَلَها مَثَلًا، وهو أوَّلُ مَن قالَها -رضي اللهُ عنه-.[«البداية والنِّهاية» 9/541 وما بعدَها، ط هجر].
فبعدَ هذه الرِّحلةِ العظيمةِ من العراقِ إلى الشَّامِ، وهذه الرِّحلةُ يَقطَعُها النَّاسُ في الطَّريقِ المعروفِ في شهرٍ، وخالدٌ قطعها في خمسةِ أيَّامٍ!معَ طريقِ مَفازةٍ، وعلى قِلّةٍ من الماءِ، بل معَه جيشٌ جرَّارٌ فيه الخيلُ والإبلُ، وقد سار بهم سيرًا عظيمًا في طريقٍ هو عندَ العربِ مَهْلَكةٌ، وشَدَّ بهم المَسيرَ حتَّى سار بهم اللَّيلَ الطَّويلَ، فلَمَّا أَصبَحُوا ورَأَوْا إخوانَهم قال كلمتَه المشهورةَ:(عِندَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى).
هذه الدُّنيا ما هي إلَّا دارُ مَمَرٍّ لا مُستقَرّ، فهي جِسـرٌ مُعلَّقٌ إلى الآخرةِ، يُوشِكُ السَّالكُ السُّقوطَ، فكُونوا فيها مِن أبناءِ الآخرةِ تُفلِحوا، ولا تَركَنُوا إلى الدُّنيا فتَهْلِكُوا؛ هذه الدُّنيا مزرعةٌ للآخرةِ، فهَنِيئًا لِمَن الخيرَ زرع، وعن الشَّرِّ أَقلَع وخلع.
لَمَّا كَبُر سِنُّ أبي مُوسَى الأشعريِّ -رضي اللهُ عنه- زادَ اجتهادُه، وكَثُرت عبادتُه،فقِيل له في ذلك، فقال: (إنَّ الخيلَ إذا قارَبتْ رأسَ مَجرَاها؛ أَخرَجتْ جميعَ ما عندَها، والَّذي بَقِي مِن أَجَلِي أقلُّ من ذلك)، فجاءه الأجلُ وقد كُسِي مُحَيَّاهُ إشراقةَ مَن يرجـو لقاءَ ربِّه، وراح لسانُه في لحظاتِ الرَّحيـلِ يُردِّدُ كلماتٍ اعتاد قولَها دومًا: (اللَّهُمَّ أنتَ السَّلامُ، ومِنكَ السَّلامُ)[«تاريخ دمشق» 32/89].