عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما قَالَ: (كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا) ـ أي راكبا خلف النبي صلى الله عليه وسلم على دابة ـ فَقَالَ: ("يَا غُلَامُ! إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يَسِّرَا"). كما قيل في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82]؛ إنهما حُفظا بصلاح أبيهما. قال محمد بن المنكدر: إنّ الله ليحفظُ بالرجل الصالح ولدَه وولدَ ولدِه وقريتَه التي هو فيها، والدويراتِ التي حولها، فما يزالون في حفظِ الله وسترٍ ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه: أن يحفظَه من شرِّ كلِّ من يريده بأذى من الجن والإنس، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]، قالت عائشة: (يكفيه غَمَّ الدنيا وهمَّها) وكتبت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى معاوية رضي الله عنه: (إن اتقيتَ اللهَ كفاكَ الناس، وإن اتقيت الناسَ لم يغنوا عنك من الله شيئاً) وقال مسروق بن الأجدع: (من راقب الله في خطرات قلبه، عصمه الله في حركات جوارحه).
ومن أعظم الحفظ؛ حفظُه -سبحانه و-تعالى لعبده في دينه، فيحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته، من الشبهات المردية والشهوات المحرمة، ويحفظُ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان والإسلام. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ" وجاء في حديث عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمه أن يقول: «اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً» وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ودّع من يريد السفر يقول له: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك". وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد، فليكثر الدعاء في الرخاء».
وان ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة، قال تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]. والحفاظ على الطهارة، قال صلى الله عليه وسلم: «ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن». [38] رواه أحمد. ولنحفظ أيْماننا، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89].
فالجزاء من جنس العمل؛ وهذه قاعدة شرعية فمن حفظ الله حفظه الله، وهذه قاعدة شرعية جاءت نصوص كثيرة تدل عليها: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾. [البقرة: 152]، وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾. [البقرة: 40]، فلاحظ، الجزاء من جنس العمل، وقال صلى الله عليه وسلم: "من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة". رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة". رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك"، وقال صلى الله عليه وسلم: "والشاة إن رحمتها رحمك الله". رواه أحمد، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء". متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: "من وصل صفاً وصله الله". رواه أبو داود، وقال صلى الله عليه وسلم: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". رواه أبو داود.
أن الصبر سبب دخول الجنة، وسبب النجاة من النار؛ لأنه جاء في الخبر: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات". فيحتاج المؤمن إلى صبر على المكاره ليدخل الجنة، وإلى صبر عن الشهوات لينجو من النار. وأن كثرة معاصي العباد في شيئين: قلة الصبر عما يحبون، وقلة الصبر على ما يكرهون، وقد ورد في الحديث: "والصبر ضياء". فيا من اكتنفتكم الهموم والغموم، وتكالبت عليكم الكروب، أيقنوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَنْ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا". هذا الحديث فيه البشارة العظيمة بأن تفريج الكربات، وإزالة الشدائد مقرون بالكرب، فكلما كُرب الإنسان فرَّج الله عنه.
ويشهد لهذا قولُه سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾. [الشورى: 28]، وقولُه تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾. [يوسف: 110]، وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾. [البقرة: 214]قال ابن رجب رحمه الله: وكم قصَّ سبحانه وتعالى من قَصصِ تفريجِ الكربات، كتفريج كرباتِ أنبيائه عند تناهي الكرب؛ وكإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاءِ إبراهيم من النار، وفدائِه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاءِ موسى وقومِه من اليم، وإغراق عدوِّهم. وأن في البلايا والمصائب فوائد منها: تكفير الخطايا بها، والثواب على الصبر عليها. ومنها: تذكر العبد بذنوبه، فربما تاب ورجع منها. ومنها: انكسارُ العبد لله عز وجل وذلُّه له. ومنها: أن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى مخلوق ويوجب له الإقبال على الخالق وحده.