إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71] [1]. وبعد: فأجدني وأنا أكتب عن حضرة الأستاذ الشيخ محمد قطب أتمَثَّلُ قول الشاعر: قَدْ يبلغُ الضالِعُ شَأْوَ الضليع *** ويُعدُّ في جملة العاقلين المتعاقلُ الرقيعُ [2] ذلك لأن الأستاذ الشيخ -أعني أستاذنا الكبير محمد قطب- بالكتابة عنه، وعن مشروعه الحضاري الذي بثّه في تلاميذه ردْحًا من الزمن، بلا كسل أو توانٍ. شَرُفَتْ قرية موشا -إحدى قرى محافظة أسيوط بصعيد مصر- بنشأة محمد قطب إبراهيم حسين شاذلي (1919 م-2014م) فيها [3]، حيث قضى طفولته في هذه القرية، وانطبعت في مخيلته صورها ومشاهدها، وتأثرت نفسه بمناظرها وتفتحت مشاعره وأحاسيسه على جمالها وبهائها [4]. وُلِد لأبوين كريمين متوسطي الحال، يحملان سمت أهل الصعيد المصري من سُمرة في البشرة، وقسمات وجوههم تعكس بعض ما جُبلت عليه فطرتهم من غيرة على العِرض، وطيب متأصِّل في أعماق النفس، هذا فضلًا عن العاطفة الفيَّاضة الجياشة التي تربطهم بشدة بهذا الدين القويم [5]. وقد عاش الأستاذ محمد قطب حياةً مليئة بالدراسة والتحصيل العلمي الغزير الذي كان له أكبر الأثر في تكوينه الفكري؛ إذ: - بدأ دراسته الابتدائية والثانوية في القاهرة، فقد استقرت الأسرة كلها هناك عند شقيقه سيد، بعد وفاة والده رحمهم الله. - التحق بجامعة القاهرة، حيث درس الإنجليزية وآدابها، وتخرج عام 1940م. - تابع دراسته بمعهد المعلمين، وحصل على دبلوم المعهد العالي للمعلمين في التربية وعلم النفس عام 1941 [6]. أمّا عن الوظائف التي شغلها الأستاذ الشيخ، فقد: - عمل بالتدريس لمدة أربع سنوات. - عمل بإدارة الترجمة بوزارة المعارف بمصر لمدة خمس سنوات. - ثم عمل بالتدريس مرة أخرى لمدة عامين. - عمل في دار الكتب المصرية، حيث أصبح مشرفًا على مشروع (الألف كتاب) الذي كان يقدم لكتاب المهم بثمن زهيد [7]. - في عام 1972م وبعد خروجه من السجن تعاقد مع جامعة الملك عبد العزيز بمكة -جامعة أم القرى في مكة حاليًا- وعمل فيها أستاذًا في قسم (العقيدة والمذاهب المعاصرة) [8]. ومما ينبغي الالتفات إليه أن الأستاذ الشيخ لم يحصل على درجة الدكتوراه، لكن أهليته العلمية جعلته في هذه المكانة العلمية السامقة بالجامعة [9]. درّس وأشرف الأستاذ محمد قطب على عدد كبير من العلماء والدعاة العاملين، مثل: سفر الحوالي، محمد القحطاني، على العلياني، علي الحربي، سعيد بن مسفر القحطاني... إلخ. هذا وقد تعدَّدت مجالات الاهتمام الفكري والقضايا التي تناولها، بحيث نجدها في جملتها تدور حول فكرة محاربة الغزو الفكري، والنهوض بالأمة للعودة بها إلى خطّ الإسلام الأول وهو القرآن. ويمكننا في عُجالة أن نعرض لأبرز اهتمامات الأستاذ محمد قطب العلمية: 1- مجال الأدب والشعر: وقد نشر بعض مقالاته في المجلات الأدبية المشهورة، مثل "الرسالة" و"الثقافة" في العقد الثالث والرابع من عمره. هذا وقد قام بوضع تعريف للأدب الإسلامي بأنه: "التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان" [10]. 2- في العلوم الإنسانية وعلم النفس: واهتم في هذا المجال بالتأصيل الإسلامي؛ إذ إن هذة العلوم نشأت في جوٍ مُعادٍ للإسلام، فكان ينبغي مواجهة الغزو الفكري الذي عمّ بلاد المسلمين [11]. 3- في التربية: دعا الأستاذ الشيخ إلى تربية "القاعدة الصلبة" -كما يسميها- على حقيقة مفهوم لا إله إلا الله، والعمل بمقتضياتها. ويتميز الأستاذ الشيخ بغزارة النِّتاج العلمي، فمن ذلك: جاهلية القرن العشرين، الإنسان بين المادية والإسلام، دراسات قرآنية، هل نحن مسلمون؟ شبهات حول الإسلام، في النفس والمجتمع، حول التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية... إلخ. من خلال هذه التطوافة السريعة في حياة الأستاذ محمد قطب، حياته وفكره ونتاجه العلمي يمكنني الإشارة إلى نقاط بارزة: 1- ظروف البيئة التي عاش فيها ألقت بظلالها على كافة جوانبه الشخصية التي أثَّرت في تشكيل فكره. ويمكن إجمالها بثلاث مراحل رئيسة. الأولى: تأثره بشقيقه سيد قطب، والثانية: نشاطه ومحنته التي انتهت بسجنه، والثالثة: مرحة انتقاله إلى السعودية ومكوثه فيها، وكانت تلك الأخيرة تتويجًا لما قبلها، حيث بلغ فيها ذروة النشاط الدعوي والفكري والأكاديمي. 2- الأستاذ رغم تخرجه من قسم اللغة الإنجليزية، إلا أنه برع في مجال الفكر الإسلامي والمذاهب الفكرية المعاصرة التي كانت موضع اهتمامه قبل دراسته الجامعية. 3- جميع مؤلفات وأعمال الأستاذ محمد قطب ونتاجه العلمي تدور حول محور النقد العلمي للغرب، ومحاولة تقديم الحلول للمشكلات الجاثمة على صدور المسلمين. من معالِم المشروع الفكري الحضاري للأستاذ محمد قطب: 1- إعداد القاعدة الصُّلْبة من جيل مسلم واعٍ، درس"لا إله إلا الله" وتربى على مقتضياتها. ثم توسيع القاعدة، عن طريق توجيه الدعوة للجماهير. كذلك معرفة الغاية التي من أجلها خُلِق الإنسان، مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} {الذاريات:56]. وكان يرى أن هذا الجيل لا بد أن يتأثر بالتربية النبوية التي أعدت القادة في كل المجالات، ولم تقتصر على الجانب الروحي فقط؛ لذا فالتربية العقائدية لا تقتصر مهمتها على التعريف بها وتعليمها وحفظها فقط، إنما هي سلوك عملي بمقتضى التعليم الرباني، والسلوك العملي لا يُكتسب فجأة، بل يحتاج إلى جهد يبذله المربي والمتلقي على حدٍ سواء. 2- إطلاق العقل البشري للعمل في أوسع نطاق كفله له الإسلام، من خلال المشاهدة، الملاحظة، التجربة، القياس، والاستنباط. كما اهتم الأستاذ بتوجيه العقول إلى تدبر السنن الكونية التي تجري بمقتضاها حياة البشر؛ لإقامة المجتمع الراشد الذي يريده الله تعالى، مِصداقًا لقوله سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13]. والعبرة المستفادة من هذه السنن -عنده- تتمثل في دور العقل في تدبرها؛ ليعمل على إقامة المجتمع الصالح الذي يستحق التمكين في الأرض بمقتضى الوعد الرباني، وليتجنب النذير الرباني في الدنيا قبل الآخرة. كما يرى أنّه يمكن الاستفادة من هذه السنن الكونية في معرفة الدور التاريخي والإنساني لهذه الأمة؛ مما يساعدها على الانتباه لعدوها ومواجهة مخططاتها. ويستفاد منها في التوعية بالدور التاريخي والإنساني لهذه الأمة. ويستفاد من تدبر العقل -كما يرى الأستاذ محمد قطب- في الحكم التشريعي عدة أمور: أ- قطع الطريق على الذين يزعمون أن الإسلام دين رجعي، ولا يتأقلم مع الوقائع المستجدة والقضايا المعاصرة. ب- توظيف النصوص الشرعية في معالجة ما يستجد من قضايا، في المجالات المختلفة، السياسية والاقتصادية والتربوية والنفسية. ج- القدرة على تطبيق الشرع بفهم ودراية. 3- أما دراسة التاريخ عنده لم تكن لتسجيل الانتصارات والهزائم، إنما هي لتتبع حياة الإنسان بين الهدى والضلال، وما يحدث له من أحداث خلال الحالتين، ونتائج هذه الأحداث، من خلال مراقبة السنن الربانية، واستلال الدروس المستفادة [12]. 4- كما أكد على ضرورة خضوع العقل للوحي، مؤكدًا أن هذا لا يعطل ملكات العقل، وإلا فالتربية الإسلامية للعقل، تعطيه العقل المكانة اللائقة به، بلا إفراط ولا تفريط. وآية ذلك تقدم العقل المسلم في العلوم التجريبة بصورة أذهلت العالم الغربي. 5- وإذا كان العقل ركيزة في حياة المسلم، فإن الأستاذ الإمام لم ينس الإعداد الجسماني له؛ حتى يستطيع مجالدة الأعداء، لكنه وضع ضابطًا غاية الأهمية، وهو أن يسير العقل والروح مع متطلبات الجسم جنبًا إلى جنب. هذا وقد وضع الأستاذ رحمه الله تصورًا لوظائف الجسم في الإسلام هي: أ- المحافظة على الذات. ب- المحافظة على النوع. ج- القيام بواجب إعمار الأرض. 6- أما طريقة الإسلام الأساسية في معالجة النوازع الفطرية للإنسان، فهي تتمثل في الاعتراف بها، ثم توجيهها وضبطها، من خلال ممارسة العبادات، والحثّ على الجهاد الأصغر والأكبر. وقد عالج الأستاذ محمد قطب هذه المسألة كشفت عما يلي: أ- التمايز بين المنهج الإسلامي والغربي في تربية الإنسان. ب- اتسام الإسلام بشمولية النظرة للإنسان؛ إذ لم يهمل روحه وعقله وجسمه. ج- تتبع آثار المنهج القرآني والنبوي التي تبني الإنسان الأنموذج الذي يحقق أستاذية العالم، من خلال تصور واقعي يتم بثه في النفوس والعقول. وبالتالي يسهل البناء الأخلاقي والاجتماعي للإنسان. 7- ضرورة التصدي للغزو الفكري والثقافي، من خلال إصلاح شامل لمنظومة التعليم في بلدان المسلمين، بحيث تتوافق هذه الامنظومة مع المبادئ الإسلامية. 8- تناول العبودية بالمعنى الجامع، بحيث لا تقتصر على أداء العبادات، بل تشمل كل حركات وسكنات الإنسان. 9- إصلاح النفس البشرية هو أساس كلّ إصلاح؛ إذ عليها التعويل في بناء الحضارة، مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد من الآية:11]. وتزكية النفس باتباع ما أتى به الشرع، وتجنب ما نهى عنه الشرع؛ فالنفس "لا تزكو ولا تطهر حتى يزال عنها ما يناقضها من فعل السوء والمعاصي والشرك" [13]. يقول محمد قطب: "ينبغى التفريق بين الإنسان الصالح الذي يهدف الإسلام إلى تربيته، وبين المواطن الذي تهدف لتربيته كل مناهج التربية الأخرى". 10- المشروع الإصلاحي بمفهومه العام مشروع أمة ومنهاج نبوة، مصداقًا لقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود من الآية:88]. والإصلاح السياسي جزء من منظومته. 11- بلورة الرؤية الإسلاميّة المعرفيّة من منطلقات عقائديّة شُموليّة تجمع بين الفكر والواقع في تناسق رائع. 12- جعل قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] طريقًا للتمايز بين الإسلام والمذاهب الفكرية المعاصرة التي ظهرت لظروف محلية بحتة في أوروبا، وليست "كما هي في حس الأوروبيين ومن يدور في فلكهم من الشعوب المغلوبة" قيمًا "قائمة بذاتها، ولا أفكارًا" إنسانية تنبع نبعًا ذاتيًا من كيان "الإنسان" بوصفه إنسانًا". 13- الحاكمية لله -وهذه القاعدة هي قطب الرحى عند سيد قطب وأبي الأعلى المودودي- ومن مقتضياتها: الإقرار بتوحيد الألوهية، وأن تُصاغ الحياة بأسرها وَفْقَ معايير الإسلام. وتصور محمد قطب للإصلاح السياسي قائم على افتراض وجود معركة كبرى بين المشروع الإسلامي والجاهلية المعاصرة المحيطة به. وهذه المعركة داخلية مع أذناب الغرب من الحكومات العميلة، وخارجية مع العالم الصهيو صليبى الداعم للحكومات العميلة التي تحول دون تطبيق الشريعة. وهو في هذا التصور صنو أخيه الأستاذ سيد قطب، لكنه يمتاز عنه في التأكيد على جانب التربية، باعتبارها حجر الزاوية في مواجهة خفافيش الظلام. ويُعبِّر عن هذا بقوله: "لا بد من ارتياد الطريق الطويل، المجهد الشاق، البطيء الثمرة، المستنفد للطاقة، طريق التربية لإنشاء القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة، التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم"؛ لذا كان يرى أنّ الصدام مع سلطات الدولة قبل وجود هذه القاعدة التربوية هو بمثابة "عمليات انتحارية لا طائل وراءها". إذ هو يرى أن تأخر المسلمين، وعدم نهوض المسلمين من كبوتهم راجع إلى الاستبداد السياسى الذي بزغت شمسه منذ العصر الأموي حتى العصور المتأخرة. وبالتالي فالتربية الإيمانية هي التي توجد جيل الصحوة الذي لا تجتاله الشياطين، ولا يرضى بالخنوع. ومما يَجْدُرُ ذكره أنَّ الحاكم في الإسلام مُقَيّد غير مطلق، فهناك شريعة تحكمه، وقِيَمٌ تُوجِّههُ، وأحكام تُقَيِّده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره ربّ العالمين. ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذه الأحكام أو يجمدوها[14]. ولا شكّ أنّ هذا يؤكد جوهر الموقف الإسلامي من قضية "السلطة الدينية" التي عرفتها أمم سابقة، وهي تعني أن يدَّعي أي إنسانٍ لنفسه صفة الحديث باسم الله، وحق الانفراد بمعرفة رأي السماء وتفسيره، وذلك فيما يتعلق بشئون الدين أو بأمور الدنيا، وسواء في ذلك أن يكون هذا الادِّعاء من قِبَلِ فرد يَتَوَلّى منصبًا دينيًا أو سياسيًا، أو مؤسسة فكرية أو سياسية [15]. وهذا يؤكد لنا أنّ الإسلام لم يعرف يومًا الحكومة الثيوقراطيّة، فالحَاكِمِيَّة Sovereignty لله تعالى، وهو تعالى بيده التشريع، فليس لأحد أن يأمر أو ينهى من غير أن يكون له سلطان من الله، مِصْدَاقًا لقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [16]. والإسلام ليس له سلطة دينية بابوية، منفصلة عن الدولة، كالنصرانية التي تشمل سلطتين: سلطة دينية، ويمثلها البابا، ورجال "الإكليروس"، وسلطة دنيوية، ويمثلها الملك أو رئيس الجمهورية. فإذا انفصلت الدولة عن الدين عند النصارى، بقي الدين قائمًا في ظل سلطته القوية الغنية المتمكنة، دون أن يكون للدولة السلطان عليه، بخلاف ما لو حدث ذلك في الإسلام فإنَّ النتيجة أنْ يبقى الدين بغير سلطان يؤيده [17]. وإذا كانت أوروبا قد نُكِبَتْ بالكنيسة ودِيَانتها المُحرَّفة، وطغيانها الأعمى؛ فتمردت على سلطتها الجائرة، لاجئة إلى العلمانية، لتنتقل من جاهلية تلبس مسوح الدِّين إلى جاهلية ترتدي مسوح التقدم والتطور، فإن المجتمعات الإسلامية ليست بحاجة إلى تلك البضاعة المستوردة -العلمانية- التي ما دخلت مجالًا من مجالات الحياة إلا أفسدته، أضف إلى هذا أننا لسنا مُخَيّرين في قَبُول هذه الفكرة أو رفضها[18]؛ إذ الحاكمية لله تعالى وحده[19]. 14- تشخيص داء الأمة العُضال اتجاه في التنكّر لـ "لا إله إلا الله" الذي هو خلل عقدي، وانحراف عن فهم الإسلام الصحيح -إسلام جيل الصحابة، الجيل الفريد-. والتأكيد على أنّ الاصلاح يكون بالعودة إلى ذلك الفهم الذي أنتج ذلك الجيل. إذن فمشروعه هو مشروع الإحياء الإيمانى الشامل. وهو مشروع يهدف إلى العمل الجماعي المباشر الذي يدلف إلى مشروع إقامة الخلافة مباشرة. 15- اعتبار المرأة مكون رئيس في تحقيق المشروع الإيماني الشامل؛ لذا هاجم صاحب قضية تحرير المرأة "قاسم أمين"، معتبِرًا دعوته من الهزيمة الروحية التي مكنت للغزو الفكري[20]. وفي ختام مقالتي المتواضعة هذه أودّ أن أكون قد وفيت الأستاذ الإمام بعضًا من حقه علينا نحن أبناء الصحوة الإسلامية. ولا يسعني إلا أن أُردِّد ما قاله الشاعر عَبْدة بن الطبيب حين رثى قيس بن عاصم فقال: عليكَ سلامُ الله قيسَ بن عاصمٍ *** ورحمتُهُ ما شاءَ أن يترحّما وما كان قيسٌ هُلْكه هُلْكُ واحدٍ *** ولكنّه بُنيانُ قومٍ تهدّما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ