الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره واهتدى بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد جاء في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((فصُمْ صوم داود؛ فإنه كان أعبَدَ الناسِ)).
في شهر رمضان تزدحم الطاعات والقربات؛ فصيام وقيام وقرآن وإطعام وزكاة وصدقات، وكلها عبادات يتقرب بها الصالحون إلى ربهم وخالقهم، وربما يتوارد على الأذهان - في خضمِّ هذا الكمِّ الكبير من الصالحات - سؤالٌ، مفاده: من هو أعبَدُ الناسِ؟
وهذا السؤال - في تصوري - كان يدور في مخيلة الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم والصالحين من بعدهم، وهذا ما يؤكده ما جاء في الأثر أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا خيرَ الناس"، قال: ((ذاك إبراهيم))، قال: "يا أعبَد الناس"، قال: ((ذاك داود)).
جاء في الصحيح عن عبدالله بن عمرو قال: زَوَّجَني أبي امرأةً، فجاء يزورها، فقال: "كيف ترين بَعْلَكِ؟"، فقالت: "نِعْم الرجل مِن رجل لا ينام الليل ولا يفطر النهار"، فوقع بي وقال: "زوَّجْتُكَ امرأة من المسلمين فعَضَلْتَها؟!"، قال: "فجعلتُ لا ألتفتُ إلى قوله مما أرى عندي من القوة والاجتهاد"، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لكني - أنا - أقوم وأنام، وأصوم وأفطر؛ فقم ونم، وصم وأفطر))، قال: ((صم من كل شهر ثلاثة أيام))، فقلتُ: "أنا أقوى من ذلك"، قال: ((صم صوم داود عليه السلام: صم يومًا وأفطرْ يومًا))، قلتُ: "أنا أقوى من ذلك"، قال: ((اقرأ القرآن في كل شهر))، ثم انتهى إلى خمس عشرة وأنا أقول: "أنا أقوى من ذلك".
وهنا يتبين لنا مفهوم "أعبد الناس" الذي كان يتحرَّاه الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وكذا ما جرى بين أبي الدرداء وسلمان رضي الله عنهما، والحديث في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم آخَى بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذِّلة، فقال لها: "ما شأنكِ؟"، قالت: "أخوكَ أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا"، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال له: "كل؛ فإني صائم"، قال: "ما أنا بآكلٍ حتى تأكلَ"، فأكَل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: "نَمْ" فنام، ثم ذهب يقوم فقال: "نم"، فلما كان من آخِر الليل قال سلمان: "الآن فصلِّيا"، فقال له سلمان: "إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا؛ فأعطِ كل ذي حقٍّ حقه"، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صَدَق سلمان))، وكأنَّ مفهوم الأكمل في العبادة كان يراود هذا الصحابي الجليل.
وتأمل معي ما رواه أبو داود بسند صحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند جويرية - وكان اسمها بَرَّةَ، فحَوَّل اسمها - فخرج وهي في مُصلَّاها، ورجع وهي في مُصلَّاها، فقال: ((لم تزالي في مصلاك هذا؟))، قالت: "نعم"، قال: ((قد قلتُ بعدكِ أربع كلمات ثلاث مرات، لو وُزنت بما قلت لوزنتْهنَّ: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))، ومما ورد يمكن لنا أن نتخيل ما تنافَس عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لينالوا شرف العبودية الحقة لله جل وعلا.
لكن من هو أعبد الناس على الحقيقة؟
وهنا يأتي الجواب: "أعبد الناس" مفهوم مُكوَّن من شيئين قرينين مرتبطين لا بد من حصولهما معًا؛ الأول: التزام السُّنَّة، والثاني: اجتناب الحرام.
فالتزام السنة أولًا؛ لأن الخروج عنها لن يحقق مفهوم "أعبد الناس" مهما حاول العُبَّاد والنسَّاك، ومهما تنطَّعوا وتشدَّدوا وأحدَثوا وابتدَعوا، ولنا مثال ظاهر في الخوارج الذين قال عليه الصلاة والسلام في عبادتهم: ((يَحْقِرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجوز تراقِيَهم، يمرُقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمِيَّة))، يقول ابن عباس عن هؤلاء: "لما دخلتُ عليهم، هَالَني ما رأيتُ: رأيتُ وجوهًا مُقَرَّحة من كثرة السجود، وأيادي قد ذهبت من كثرة الجُثِيِّ عليها في السجود، ورُكَبٍ تكاد تنمحي"؛ فهل نفعهم خروجهم عن السنة؟
رأى سعيد بن المسيب رجلًا يصلي بعد طلوع الشمس ركعات كثيرة، فنهاه، فقال: "يا أبا محمد، أيعذبني الله على الصلاة؟"، قال: "لا، ولكن يعذبك على خلافك للسنة".
والشرط الثاني لمفهوم "أعبد الناس" هو اجتناب الحرام؛ ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن يأخذ مني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يعلِّم مَن يعمل بهن؟))، فقال أبو هريرة: قلتُ: "أنا يا رسول الله"، فأخذ بيدي وعَدَّ خمسًا، قال: ((اتقِ المحارم، تكن أعبد الناس...)).
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187].
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229].
((ألَا وإن لكل ملك حمى، ألَا وإن حمى الله محارمه)).
قال ابن المبارك: "رأيتُ أعبَد الناس، ورأيتُ أورَع الناس، ورأيتُ أعلَم الناس، ورأيتُ أفقَه الناس؛ فأمَّا أعبد الناس، فعبدالعزيز بن أبي داود، وأما أورع الناس، فالفُضَيْل، وأمَّا أعلم الناس، فسفيان الثوري، وأمَّا أفقه الناس، فأبو حنيفة".
أخي المسلم، يا من تبحث عن كمال الطاعات والعبادات، أعبد الناس من الْتزم بالوحيَين، واقتدى بالقرون الأولى، وسار على دربهم، ونهل من معينهم، ومات على ذلك.
اللهم بلِّغْنا الفردوس الأعلى من الجنة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن او يعلمهن من يعمل بهن ؟" ، فقال أبو هريرة : فقلت انا يا رسول الله ، فأخذ بيدي فعد خمساً ، وقال :" اتق المحارم تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن اغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً ، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب". رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الألباني . أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بخمس خصال ، وكان صلى الله عليه وسلم في مجساً مع أصحابه فأراد أن يوصيهم ، وأبو هريرة رضي الله عنه كان من الذين لازموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة ، وكان لهذا أثر في نقل أبو هريرة العديد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى عد أبو هريرة من أهم رواة الحديث الشريف . وأما وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى فكانت اتقاء المحارم ، قال (اتق المحارم تكن أعبد الناس) ، والمحارم تشمل جميع ما حرمه الله من أفعال ، وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته ، ومنها القتل والسرقة والزنا والكذب وخيانة الأمانة والغيبة والنميمة وقول الزور وأكل الربا وقطع الأرحام وشرب الخمر وعقوق الوالدين واتباع السحرة وممارسة السحر وغيرها ، و اتقاء المعصية هي الاعتناء بالبعد عنها وعدم وضع الذات في مسبباتها ، وإن استطاع المرء اجتناب جميع ما نهى الله عنه ارتقى إلى اعلى مراتب العبودية والطاعة لكونه جاهد نفسه على ترك الحرام ، فأصبح بذلك من المجاهدين في سبيل الله . وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : من سره ان يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب . وقال الحسن البصري : ما عبد العابدون بشئ أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه .